بينما كانت أسرة السيدة السبعينية أفندية محمد تترقب بلهفة وشوق عودتها من السعودية بعد أداء فريضة الحج وزينت الجدران بالنقوش المعبرة عن إتمام المناسك انتظاراً لقدومها، تلقت الأسرة نبأ وفاتها الذي وقع كالصاعقة على جميع أفراد العائلة، وسرعان ما تحولت الأفراح في المنزل إلى مأتم وسرادق عزاء.
وفق شهادته، يروي نجل السيدة المتوفاة طارق سمير اللحظات الأخيرة قبل رحيلها، مشيراً إلى أن والدته - التي تقطن قرية شرانيس بمركز قويسنا بمحافظة المنوفية شمال العاصمة المصرية القاهرة - لم تكن متعلمة وتعول خمسة أبناء أكبرهم سناً 50 سنة، وحاولت طوال السنوات الماضية السفر لأداء الفريضة الإسلامية عبر التقديم لقرعة الحج السياحي وطرقت كل الأبواب ولكن جميع محاولاتها لم تفلح.
وأوضح أن أحد الوسطاء بإحدى شركات السياحة تواصل معها وحاول إغراءها بجميع الوسائل وأبلغها بإمكانية السفر لأداء الفريضة خلال العام الحالي عبر الحصول على تأشيرة زيارة والسفر قبل موعد الحج بأسابيع عدة ثم أداء المناسك مع باقي الحجاج في موعد الحج الرسمي.
"شعرت والدتي بسعادة غامرة وأحست أن حلمها تحقق أخيراً وودعت أبناءها وأفراد أسرتها وحزمت أمتعتها وجهزت أوراقها الثبوتية ونفقات السفر المتفق عليها مع الوسيط والبالغة 160 ألف جنيه (3357 دولاراً) شاملة تذاكر الطيران والإقامة باستثناء الطعام على نفقتها الشخصية، واتفقت مع الشركة على تسهيل كل إجراءات السفر بمجرد الوصول إلى الأراضي السعودية وتوفير الخدمات الكاملة لها لأداء المناسك"، يحكي طارق.
يمضي نجل السيدة المتوفاة في شهادته قائلاً "سافرت والدتي قبل موعد الحج بنحو شهر وأدت العمرة أربع مرات خلال تلك الفترة، ومع تشديد السلطات السعودية على المسافرين الذين لم يحصلوا على تصاريح الحج الرسمية اضطرت السيدة السبعينية إلى الاختباء بمسكنها المؤجر لها من قبل الشركة وعدم النزول منه خشية ترحيلها حتى الانتهاء من أداء مناسك الحج، وكانت الشركة على تواصل معها طوال تلك الفترة".
مفاجأة صادمة
"كانت المفاجأة الصادمة التي تلقتها والدته، حينما بدأت الشركة رويداً رويداً في التنصل من تعهداتها والتزاماتها وتركهم حافلة الشركة قبل الوصول إلى جبل عرفات بـ12 كيلومتراً وهي مسافة كبيرة للغاية على أن تقطعها سيدة في هذه السن، واضطرت إلى السير تلك المسافة الكبيرة وأصرت على الصعود إلى جبل عرفات ورمي الجمرات وإنهاء كل المناسك"، بحسب الابن.
يضيف نجل السيدة السبعينية خلال شهادته "لم تفلح محاولات شقيقي الأكبر مع والدتي بمطالبتها بعدم استكمال المناسك والذهاب إلى مسكنها عبر أي وسيلة تنقل بأي كلفة أمام إصرارها على استكمالها، وقالت له ربنا أرضاني بالحج وأتمنى الموت هناك، كما تجاهل الوسيط اتصالاتنا ورفضت الشركة مساعدتنا في إنقاذها، وقال صاحب الشركة: لا يوجد في يدي شيء أستطيع تقديمه لها لمساعدتها، وانتهى الحال بوفاة والدتي ودفن جثمانها في مكة".
حال "أفندية"، التي سقطت ضحية لشركات الحج الوهمية يشابه أكثر من 630 متوفى مصرياً لا يحملون تصاريح للحج، معظمهم لأسباب مرتبطة بارتفاع درجة الحرارة إذ تجاوزت في بعض الأحيان 51 درجة مئوية، وفقاً لإحصاء أعدته وكالة الصحافة الفرنسية.
وأمام تصاعد حدة الأزمة، وجه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي الخميس الماضي بتشكيل خلية أزمة برئاسة رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، لمتابعة وإدارة الوضع الخاص بحالات وفاة الحجاج المصريين. وأشار بيان الرئاسة المصرية إلى تأكيد الرئيس ضرورة التنسيق الفوري مع السلطات السعودية لتسهيل تسلم جثامين المتوفين، وتقديم كل التسهيلات اللازمة في هذا الشأن.
وعقد رئيس الوزراء المصري الدكتور مصطفى مدبولي اجتماع خلية الأزمة. وأشار التقرير الصادر عنها إلى أن أسباب ارتفاع حالات وفاة الحجاج المصريين غير المسجلين يرجع إلى قيام بعض شركات السياحة بتنظيم برامج حج بتأشيرة زيارة شخصية، مما يمنع حامليها من دخول مكة، ويتم التحايل على ذلك عبر التهرب داخل دروب صحراوية سيراً على الأقدام، مع عدم توفير أماكن إقامة لائقة بباقي المشاعر مما تسبب في تعرض الحجاج غير المسجلين للإجهاد نتيجة ارتفاع درجات الحرارة.
وأثبت التقرير رصد 16 شركة سياحة ـ بصورة مبدئية ـ تحايلت وسفرت الحجاج بصورة غير نظامية، ولم تقدم أي خدمات لهم. ووجه رئيس الوزراء المصري بسرعة سحب رخص هذه الشركات وإحالة المسؤولين إلى النيابة العامة، مع تغريم هذه الشركات لمصلحة أسر الحجاج الذين تسببوا في وفاتهم.
تصاعد أزمة المفقودين
وتزامناً مع ارتفاع أعداد الضحايا الحجاج خلال موسم الحج الحالي تفاقمت أيضاً أزمة المفقودين، وانتشرت عديد من الصفحات عبر منصات التواصل الاجتماعي مرفقة بأسماء وصور وأرقام المفقودين في محاولة للعثور عليهم.
"اندبندنت عربية" تواصلت مع أسرة إحدى المفقودين وتدعى روحية دياب إسماعيل، من مدينة التل الكبير التابعة لمحافظة الإسماعيلية، التي تغيبت طوال أربعة أيام كاملة منذ بداية يوم عرفة حتى عثر عليها في رابع أيام عيد الأضحى.
وتحكي إحدى أفراد الأسرة وتدعى منال محمد (اسم مستعار) أن السيدة السبعينية سافرت قبل أسابيع عدة بتأشيرة زيارة حصلت عليها من إحدى شركات السياحة بمصر على أمل أداء فريضة الحج، واعتمرت خلال فترة وجودها في السعودية، وانتظرت حتى موعد الحج لأداء مناسك الفريضة.
تضيف منال خلال حديثها "عقب الانتهاء من تأدية المناسك وصعود عرفة تركت متعلقاتها الشخصية وأوراقها الثبوتية مع باقي أفراد المجموعة الذين كانوا بصحبتها من أجل شراء سلعة ما، وتغيبت طوال أربعة أيام كاملة، واضطر أفراد المجموعة إلى استكمال مناسك الحج بالإنابة عنها، وبعد رحلة من البحث عثر عليها عقب نشر أحد أطباء مستشفى النور التخصصي بمكة المكرمة منشوراً عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) بمواصفات السيدة واستطاعت الأسرة التواصل معه بعد قراءة المنشور والعثور عليها".
وكان وزير الخارجية المصري سامح شكري أكد في تصريحات صحافية استمرار بذل كل الجهود بالتنسيق مع السلطات السعودية، من أجل ضمان الوصول إلى المصريين المفقودين في أسرع وقت ممكن، وتأمين عودة كل الحجاج المصريين إلى أرض الوطن.
شكري أشار أيضاً إلى مواصلة القنصلية المصرية في جدة وفرق العمل المتعددة التي أوفدتها إلى مكة والمشاعر المقدسة التنسيق مع السلطات السعودية وإجراء الزيارات الميدانية للمستشفيات للحصول على بيانات المواطنين المصريين الموجودين بها، سواء من يتلقى العلاج أو من وافته المنية ومطابقتها مع بيانات المواطنين الذين أبلغ ذووهم عن فقدهم.
أزمة الحج غير النظامي
في هذا السياق، يقول عضو اللجنة الفنية للحج السياحي باسل السيسي، إن أزمة موسم الحج خلال العام الحالي تكمن في "الحج غير النظامي" الذي كان سبباً في وقوع كثير من الأزمات للحجاج المصريين نظراً إلى افتقارهم التصاريح الرسمية، مشيراً إلى أن السلطات السعودية نفذت حملات مكثفة خلال الفترة الماضية على حاملي تأشيرات الزيارة ومن لا يحملون تصاريح الحج الرسمية، وما فاقم من الأزمة خلال العام الحالي تزايد أعداد الحجاج الوافدين ورغبة كثير من المقيمين هناك في أداء الفريضة، علاوة على ارتفاع درجات الحرارة.
وأحصت السلطات السعودية أن إجمالي أعداد الحجاج هذا العام بلغ 1833164 حاجاً، منهم 1611310 حجاج قدموا من خارج البلاد عبر المنافذ المختلفة، فيما بلغ عدد حجاج الداخل 221854 حاجاً من المواطنين والمقيمين.
كيانات وهمية
ولفت السيسي الانتباه إلى تحذيره مراراً وتكراراً من أزمة الحج غير النظامي والكيانات الوهمية المنتشرة على منصات التواصل الاجتماعي التي تتلاعب بعقول كثير من المصريين تحت ضغط الرغبة في أداء الفريضة، والتي أسهمت في تسفير هؤلاء الحجاج بآليات وطرق غير رسمية، مشيراً إلى أن الضحايا معظمهم من الحجاج غير النظاميين ممن تم تسفيرهم من دون توفير أي خدمات لهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وشدد عضو اللجنة الفنية للحج السياحي على أن أسباب ارتفاع حالات وفاة الحجاج المصريين غير المسجلين ترجع إلى تنظيم بعض شركات السياحة برامج حج بتأشيرة زيارة شخصية، مما يمنع حامليها من دخول مكة، مؤكداً ضرورة أن يلتزم المواطنون أداء هذه الشعيرة من خلال الإطار الرسمي الموجود بالدولة، لأن اللجوء إلى الطرق غير الرسمية يمثل مخاطرة شديدة، وتعريض أنفسهم للخطر.
تغيير الثقافة الشعبية
يعضد الطرح السابق المتخصص السياحي عضو غرفة شركات السياحة محمد فاروق، مؤكداً أن بعض أصحاب الكيانات الوهمية من ضعاف النفوس يستغلون "أمية" كثير من المصريين ويستقطبونهم لتسفيرهم لأداء الفريضة بطرق غير رسمية ومخالفة للقانون، مشدداً على ضرورة أن يكون هناك توعية مجتمعية بأن تكون فريضة الحج "لمن استطاع إليه سبيلاً".
ويواصل حديثه قائلاً "لا يصح لأي مواطن السفر لأداء فريضة الحج وهو غير قادر على تسديد نفقاتها"، مطالباً الأئمة وعلماء الدين بتوعية المواطنين بأخطار تلك الممارسات، علاوة على ضرورة أن يكون هناك ضوابط صارمة من المملكة لمنع فتح باب الزيارات بلا حدود.
وشدد فاروق على ضرورة أن يكون هناك تغيير في العقلية المصرية والثقافة الشعبية في النظر إلى قضية الحج بصورة عامة وألا ينساق المواطنون لسماسرة الحج الوهمي، منوهاً بأن الحل يكمن في زيادة حصص الحجاج المصريين في الحصول على تأشيرات الحج في السنوات المقبلة والعمل على تصنيف التأشيرات مثلما يحدث في البلدان الأوروبية، فضلاً عن التنسيق بين الحكومتين المصرية والسعودية من أجل وضع ضوابط لتقنين عمليات السفر لأداء فريضة الحج كل عام.
الحل في تطبيق الضوابط
"هناك ثغرات عديدة في تطبيق ضوابط الحج والعمرة"، هكذا عقب عضو الجمعية العمومية لغرفة شركات السياحة مجدي صادق، موضحاً أن سماسرة الحج تحايلوا على القانون، مشيراً إلى أنه يجب القضاء على كل الكيانات الموازية التي تعمل بالمخالفة وإعادة النظر في ضوابط الحج والعمرة.
وأوضح صادق في حديثه إلى "اندبندنت عربية" أن شركات السياحة تعاني أشد المعاناة من السماسرة والوسطاء والكيانات غير الشرعية، وكذلك الشركات الوهمية ومكاتب الخدمات السياحية التي تعمل من دون ترخيص من وزارة السياحة والآثار، مطالباً بضرورة زيادة أعداد الحجاج المصريين في السنوات المقبلة طبقاً لأعداد السكان، فيحق لمصر الحصول على حصة 110 آلاف تأشيرة حج، وإلغاء قرعة الحج السياحي باعتباره "مفسدة مطلقة".
يشار إلى أن الحكومة المصرية كانت أعلنت تأكد وفاة 28 حاجاً مصرياً من 50752 مسجلاً رسمياً.
ولفت صادق الانتباه إلى أن غرفة شركات السياحة سبق وحذرت في وقت مبكر جداً هذا الموسم ومن خلال متابعتها جميع المؤشرات وإعداد التأشيرات المختلفة من خطورة استغلال البعض تأشيرات الزيارة في أداء الحج، ومزاحمة الحجاج النظاميين من جميع البعثات وليس الحج السياحي فحسب، وطالبت بأن يرتبط "باركود الزيارة" ببرنامج متكامل مدفوع الثمن في الفنادق وتذكرة ذهاب وعودة قبل منحهم التصريح بالسفر، ولكن لم تستجب وزارة السياحة لخطاب الغرفة ولم تلتزم مطالبها وكان ذلك سبباً رئيساً في تلك الأزمة.
ونبه عضو الجمعية العمومية لغرفة شركات السياحة إلى ضرورة محاسبة شركات السياحة المخالفة بإحالتها على النيابة العامة وإلغاء ترخيصها في حالة ثبوت الاتهامات ومصادرة الأموال التأمينية، مردفاً "لدينا قانون قوي، ولكن الأزمة تكمن في تطبيق الضوابط".
ومنح القانون رقم 38 لسنة 1977 في شأن تنظيم الشركات السياحية، في المادة 23 منه، لوزير السياحة أن يصدر قراراً إدارياً بوقف نشاط الشركة إذا ثبت عليها مخالفة أحكام المادة (3) من هذا القانون التي تنص على أنه لا يجوز لأي شركة سياحية مزاولة الأعمال المنصوص عليها في هذا القانون إلا بعد الحصول على ترخيص بذلك من وزارة السياحة.
فيما أقرت المادة 21 من القانون رقم 84 لسنة 2022 بإصدار قانون تنظيم الحج وإنشاء البوابة المصرية الموحدة للحج لتنظيم الحج وكل إجراءاته، غرامة لا تقل عن مليون جنيه (20 ألف دولار) ولا تجاوز ثلاثة ملايين جنيه (60 ألف دولار) على كل من نفذ رحلات أداء مناسك الحج بالمخالفة لأحكام هذا القانون أو الضوابط الصادرة وفقاً لحكم المادة (3) من هذا القانون التي تنص على أنه تختص الجهات المنظمة للحج بتنظيم شؤونه وفقاً للضوابط والقواعد والإجراءات التي تضعها، وتعتمدها اللجنة الوزارية، وتضاعف الغرامة بحديها الأدنى والأقصى في حالة العودة.
تحركات برلمانية
وعلى مدى الأيام القليلة الماضية تعالت الصيحات داخل أروقة البرلمان المصري لكشف أسباب وفاة وفقدان المئات من المصريين في موسم الحج العام الحالي، وحالات النصب والخداع التي تعرض لها بعض الحجاج على يد عدد من شركات السياحة الوهمية.
وفي هذا الصدد تقدم البرلماني المصري مصطفى بكري ببيان عاجل إلى رئيس الوزراء ووزراء الخارجية والهجرة والسياحة، حول الأسباب التي أدت إلى وفاة وفقدان المئات من المصريين والإجراءات التي اتخذتها الحكومة في مواجهة هذا الحدث الجلل، مطالباً بإبلاغ مجلس النواب والرأي العام بالإجراءات التي ستتخذها لمنع تكرار مثل هذا الحدث مرة أخرى.
كما تقدمت البرلمانية حنان عبده عمار عضو لجنة العلاقات الخارجية بمجلس النواب، بطلب إحاطة في شأن حالات النصب والخداع التي تعرض لها بعض الحجاج المصريين على يد عدد من شركات السياحة الوهمية، موضحة أن تلك الشركات عرضت حياة الحجاج المصريين للخطر، ووضعتهم في مأزق حقيقي، على رغم أنها جمعت مبالغ مالية طائلة.
وتساءلت عمار "أين الرقابة من جانب وزارة السياحة على الكيانات والشركات السياحية التي أوهمت المصريين بالسماح لحاملي تأشيرات الزيارة بأداء مناسك الحج؟".