Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ما سبب حيوية الفلسفة في عصر المنافسة الشرسة بين العلوم؟

كتب على أم الحكمة أن تكون حباً من طرف واحد والفيلسوف بين الصداقة والمواجهة

أي مصير للفلسفة في عصر الذكاء الاصطناعي؟ (لوحة أعدها الذكاء الاصطناعي)

ملخص

يدعي الحكيم امتلاك الحكمة ويدعي امتلاك الحقيقة كما لو كان يضعها في جيبه الصغير فلديه إجابات نهائية عن كل سؤال حول الكون والحياة والإنسان والموت، حتى الحياة بعد الموت، في حين يسعى صديق الحكمة أو عاشقها أو طالب القرب منها أو الفيلسوف إلى الحكمة جاهداً لكن من دون أن يدعي امتلاكها

يلاحظ قارئ الفلسفة والمفكر وحتى المثقف والأكاديمي أن الفلسفة تشهد اليوم في العالم الحديث حالاً من الصراع أو المنافسة بينها والعلوم. لكن الفلسفة تعيد بناء نفسها وتتجدد على رغم هيمنة العلوم الحديثة والتطور التكنولوجي السريع الذي يعيشه العالم.

ما برح العقل الفلسفي يبني بل ولا يمل من البناء وإعادة البناء. يقول لايبنيتس "كلما اعتقدت أني وصلت إلى الشاطئ وجدت نفسي مرمياً في عرض البحر". ومن ثم فإن مصير العمارات والأنظومات الفلسفية أن تنهار وتتقوض بسبب غزوات الريبيين والشكاكين بقدرة العقل على البناء أولاً، وبسبب من الروح الفلسفي نفسه الذي يمارس النقد الفلسفي بحرية تامة ثانياً، وبسبب تغير المشكلات الفلسفية والأحداث المجتمعية والفكرية ثالثاً. المثال على ذلك جائحة كورونا إذ إننا لا نفكر بعد كورونا كما كنا نفكر قبلها. وكذلك اليوم مثال الذكاء الاصطناعي وتبعاته التي تصيب الوجود الإنساني برمته. ونستنتج مما سبق أن لا نهاية للتفكير الفلسفي ما دامت طبيعة العقل البشري لم تتغير. لذلك لم تستطع أية فلسفة أن تنهي النشاط الفلسفي وأن تطفئ جذوة التفلسف وأن تضع حداً للتساؤل الفلسفي، وأن تضع نهاية للفلسفة. وتنهار العمارات الفلسفية فتتحول إلى أنقاض. لكن يا لحسن الحظ تبقى هذه الأنقاض مضيئة وصالحة للاستعمال والتوظيف والاستثمار في أي قول فلسفي جديد يناسب العصر ويجيب عن أسئلته. وهذا ما يجعلنا نعود إلى الفلاسفة السابقين الذين لا يمكن تجاهل فتوحاتهم الفكرية أو تجاهل طرق تفكيرهم التي ما برحت خالدة تحمل توقيعهم وبصمتهم.

الفيلسوف يسعى إلى نيل الحظوة في عيني صوفيا (الحكمة)

يدعي الحكيم امتلاك الحكمة ويدعي امتلاك الحقيقة كما لو كان يضعها في جيبه الصغير (رجل الدين مثالاً). فلديه إجابات نهائية عن كل سؤال حول الكون والحياة والإنسان والموت، حتى الحياة بعد الموت، في حين يسعى صديق الحكمة أو عاشقها أو طالب القرب منها أو الفيلسوف إلى الحكمة جاهداً لكن من دون أن يدعي امتلاكها، ومن دون أن يدعي الظفر بها. ويقول دولوز في كتابه ما الفلسفة؟ "قد يكون الإغريق هم الذين صادقوا على موت الحكيم واستبدلوا به الفلاسفة أصدقاء الحكمة، هؤلاء الذين يبحثون عن الحكمة لكنهم لا يملكونها بصورة قاطعة" (ما الفلسفة؟ ص 8). وعليه يبحث الفيلسوف عن الحقيقة ولا يكف عن البحث عنها لكنه لا يدعي القبض عليها أو في الأقل لا يدعي القبض عليها بتمامها، إذا جاز لنا أن نقول إن الحقيقة شيء يمكن القبض عليه. فالحقيقة كما هو شائع اليوم مسألة إنتاج لا مسألة كشف وإماطة لثام، مسألة إنتاج لأنه لا حقيقة خارج القول الفلسفي ولأن لكل أنظومة فلسفية حقيقة خاصة بها. وعلينا أن ننتبه هنا إلى أنا لا نعني بالحقيقة هنا حقائق التعرف (هذه طاولة أو هذا قلم مثلاً)، بل نعني الحقيقة الفلسفية بكليتها. حتى حقائق التعرف عليها أن تحجز مكاناً لها في السستام الفلسفي. هل يمكن أن نثق بالحواس؟ أفلا تخدعنا الحواس؟ هل هناك شيطان ماكر يخدعنا؟ كما ذهب إلى ذلك ديكارت الذي حسب أنه لا يمكن الركون إلى الحواس. لذلك لا يمكن في نظر ديكارت القول إن هذه طاولة وإثبات كونها طاولة إلا بعد إثبات وجود الله بوصفه ضمانة لهذا القول. ومن ثم لا يمل الفيلسوف ولا يكل من السعي جاهداً إلى صوفيا (الحكمة) وإن كان مقتنعاً بأنه لن يظفر بها. ويأمل ذلك دائماً. لكن يكفيه أن ينال الحظوة في عينيها، في عيني الحكمة. وفي المقابل، فإن الحكمة ويا لحسن الحظ تتمنع دائماً. كأن عشق الفيلسوف يظل دائماً عشقاً أو حباً من طرف واحد! وهذا ما يساعده على إبقاء شعلة التفلسف متقدة ومشتعلة ومضيئة لديه.

الأهم الحفاظ على حركة الأفهوم

لكن عندما تنطفئ شعلة التفلسف لا يعود الفيلسوف فيلسوفاً. وعندما تتوقف حركة الأفهوم تتحول الفلسفة إلى مجرد أيديولوجيا لا تلبث أن تجد نفسها خارج الزمن الذي تعيش فيه، فالمتغيرات تفاجئها دائماً في حين أنها تقف عاجزة عن التفسير. عندما يزعم الفيلسوف أنه قبض على الحكمة وأجاب عن كل الأسئلة تتحول فلسفته إلى عمارة فلسفية جامدة لا تلبث أن تتقوض وتنهار تحت ضربات مطرقة النقد الفلسفي التي تحفز فلاسفة آخرين ليشرعوا في البناء مجدداً. فالفلسفة لا تنفصل عن الشك والريبة. والفيلسوف يسعى إلى إعادة البناء لحسابه الخاص.

يقول دلوز "جدد نيتشه مهمة الفلسفة عندما كتب "على الفلاسفة ألا يعودوا يكتفون بتقبل الأفاهيم التي تعطى لهم لتنظيفها وتلميعها وحسب، بل إن يبدأوا بصنعها وإبداعها وطرحها وإقناع البشر باللجوء إليها. فكل واحد حتى الآن وبالإجمال يثق بأفاهيمه كما لو تعلق الأمر بأعطية إعجازية آتية من عالم ما إعجازي بالدرجة ذاتها"، لكن يجب أن نستبدل بالثقة الشك. على الفيلسوف أن يرتاب أيما ريبة من الأفاهيم ما دام لم يبدعها بنفسه (كان أفلاطون يعلم ذلك جيداً مع أنه علم عكس ذلك). وكان يقول إنه كان يجب تأمل الأماثيل، لكن يجب أولاً إبداع "أفهوم الأمثول". ما قيمة فيلسوف يمكن أن يقال عنه إنه لم يبدع أفهوماً، لم يبدع أفاهيمه؟"(ما الفلسفة؟ ص 11).

الصديق أم المنافس؟

إذا كان الفيلسوف صديق الحكمة أو عاشقها فماذا يمكن أن يعنيه الصديق بما هو فيلسوف؟ يقول دولوز في كتابه "ما الفلسفة؟"، "الأفاهيم [...] في حاجة إلى شخصيات أفهومية تسهم في تعريفها. والصديق هو تلك الشخصية الأفهومية التي يقال عنها إنها تشهد على أصل يوناني للفلسفة، فقد كان لدى بقية الحضارات حكماؤها في حين يقدم الإغريق هؤلاء ’الأصدقاء‘ الذين ليسوا مجرد حكماء أكثر تواضعاً" (ما الفلسفة؟ ص 8). لكن ماذا يمكن أن يعنيه الصديق في الفلسفة عندما يصبح شرطاً لإمكان التفلسف ذاته؟ فالصديق لم يعد عند الإغريق مثلاً أمبيرياً عينياً، بل صار شرطاً جوانياً لممارسة الفكر نفسه وشرطاً مجاوزاً (transcendantal) لإمكان الفلسفة نفسها. لنقرأ ما يقوله دلوز "وبالمثل أصبح من الصعب بمكان معرفة ما يعنيه "الصديق" حتى لدى الإغريق وخصوصاً لديهم. هل كان الصديق يعني نوعاً من الحميمية القديرة نوعاً من الذوق المادي وإمكاناً ما كما هو حال النجار مع الخشب، فالنجار الماهر [بوصفه نجاراً] للخشب بالقوة إنه صديق الخشب؟ السؤال مهم، لأن الصديق كما ظهر في الفلسفة لم يعد يعني شخصية برانية مثلاً أو ظرفاً أمبيرياً بل حضوراً جوانياً في الفكر، شرطاً لإمكان الفكر نفسه، مقولة حية، ومعيشاً مجاوزاً. ينزل الإغريق مع الفلسفة ضربة قوية بالصديق الذي لم يعد على صلة بآخر، بل بكيان، بأوضوعة، بماهية. [يقال] صديق أفلاطون وأكثر من ذلك صديق الحكمة، صديق الحق أو الأفهوم، صديق الحقيقة وصديق الله... فالفيلسوف خبير بالأفاهيم يعرف أيها غير قابل الحياة، اعتباطي أو قلق، لا يصمد لحظة واحدة، وأيها على العكس جيد الصنع ويشهد على إبداع وإن كان مقلقاً أو خطراً" (ما الفلسفة؟ ص 8-9). وعليه فالفيلسوف بما هو صديق الحكمة وبما هو عاشق صوفيا لم يعد مجرد مثل عيني حياتي، بل أضحى شرطاً من شروط إمكان الفكر بما هو كذلك. لقد صار شرطاً جوانياً أو مجاوزاً لإمكان الفلسفة نفسها. صار شخصية أفهومية. مع الإغريق توقف الصديق عن أن يكون صديقاً للآخر ليصير صديقاً للأفهوم وصديقاً للماهية وصديقاً للحكمة. ومن يتنافس معه على نيل الحظوة في عينيها ونيل رضاها يصبح هو الآخر المنافس. ويقول دلوز "ماذا يعني الصديق عندما يصبح شخصية أفهومية أو شرطاً لممارسة الفكر؟ أو عاشقاً أو ليس هو بالأحرى عاشقاً؟ أو لن يدخل الصديق من جديد حتى في الفكر، صلة حيوية بالآخر الذي كنا ظننا أننا استبعدناه من الفكر المحض؟ أوليس المقصود أيضاً شخصاً آخر غير الصديق أو العاشق؟ لأنه إن كان الفيلسوف صديق الحكمة أو عاشقها، أفليس هذا لأنه يسعى جاهداً إلى التقرب منها بالقوة بدلاً من امتلاكها بالفعل؟ إذاً قد يكون الصديق أيضاً الطامح [الخاطب] وما يقال عنه إنه صديقه هو الشيء الذي يقع عليه الطلب، وليس الشخص الثالث الذي قد يصبح على العكس منافساً. فقد تحوي الصداقة على ريبة تنافسية تجاه المنافس بقدر ما تحوي نزوعاً عشقياً تجاه موضوع الرغبة. وعندما تستدير الصداقة نحو الماهية يصبح الصديقان مثل الخاطب والمنافس (لكن من يميزهما؟)" (ما الفلسفة؟ ص 9). هكذا لا يمكن استبعاد المنافس من دائرة الفكر بما هو كذلك. وجميعنا يتذكر المنافسة الشديدة بين الفيلسوف والسوفسطائي عند الإغريق. أما في العصور الحديثة فقد نافست الفلسفة اختصاصات أخرى كعلم الاجتماع أو التحليل النفسي أو فنون التواصل المعاصرة (الدعاية والتصميم والتسويق). لذلك علينا أن ننظر إلى الفيلسوف بوصفه صديقاً للحكمة يسعى إلى التقرب منها، وبوصفه منافساً للآخر الذي يسعى هو أيضاً إلى امتلاكها والتقرب منها.

لائحة الشخصيات الأفهومية ليست مغلقة

مع كل فلسفة كبيرة هناك شخصية أو شخصيات أفهومية ترسم. والشخصية الفلسفية القلقة هذه تكتشف الحقل وتبدع الأفاهيم المناسبة وتبتكرها. لذلك علينا ألا نتجاهل وجود هذه الشخصيات المضمر أو الصريح في كل فلسفة. وعليه، فإن لائحة الشخصيات الأفهومية غير مغلقة وميزات الصديق تتغير. ويقول دولوز "الصديق والعاشق والطامح والمنافس تعينات مجاوزة لا تفقد لهذا وجودها الشديد والمتحرك، في شخصية بعينها أو في عدة شخصيات. والآن، عندما يستعيد موريس بلانشو، الذي ينتسب إلى المفكرين القلائل الذين يهتمون بإعادة الاعتبار لمعنى كلمة "صديق" في الفلسفة، هذه المسألة الداخلية لشروط الفكر بما هو كذلك، أفلا يدخل هو أيضاً شخصيات أفهومية جديدة في داخل المفكر فيه الأشد نقاء، شخصيات قليلة الانتماء إلى الإغريق هذه المرة وآتية من مكان آخر كما لو كانت مرت بكارثة تجرها إلى علاقات حية مرفوعة إلى مستوى الميزات القبلية، تغيير مسار ونوع من التعب ونوع من الضيق بين الأصدقاء يبدل الصداقة نفسها إلى فكر الأفهوم بما هو ريبة وصبر لامتناهيان؟ إن لائحة الشخصيات الأفهومية غير مغلقة أبداً، ولهذا تلعب دوراً مهما في تطور الفلسفة أو تحولاتها، وعلينا أن نفهم تنوعها من دون اختزالها إلى وحدة الفيلسوف اليوناني المعقدة سلفاً" (ما الفلسفة؟ ص 10). مع كورونا تبدل الأمر إذ صار الصديق ينظر إلى صديقه بوصفه خطراً على حياته بل أكثر من ذلك، بوصفه قاتلاً. لكن هل ستتغير طبيعة الصديق بما هو شرط جواني لممارسة الفكر؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الحاجة الدائمة إلى الفلسفة

لكن لماذا لا تزال الفلسفة حية اليوم مع تقدم العلوم الهائل وازدهار الفنون؟ لماذا لا يكون النشاط الفلسفي نشاطاً تابعاً للنشاط العلمي أو نشاطاً خادماً للاهوت؟ يأبى شرف الفلسفة أن تكون خادمة للاهوت أو تابعة للعلم، إذ إنها تمتلك مرجعيتها في ذاتها. إنها نشاط له خصوصيته واستقلاله وحقوله ومشكلاته وأدواته. أدوات الفلسفة الأفاهيم. وكما أن المدينة البشرية لا تعيش من دون علوم إذ إنها بأمس الحاجة إليها في العمران وتدبير شؤون العيش ولا تعيش من دون فنون، إذ إن الحياة مع الفن تصبح أجمل وأرقى، كذلك فإن المدينة البشرية لا يمكنها أن تعيش من دون أفكار، والفلسفة هي المصنع الدائم لإنتاج الأفكار، وفي الأقل للأفكار التي نعبر عنها بواسطة الأفاهيم. مثالاً، لا يمكن العيش في مجتمع ما من دون أن نتساءل عن معنى العدالة والمساواة والتفاوت والتعدد والتمثيل الشعبي والإرادة العامة وحدود استعمال العنف، إلى ما هنالك من اصطلاحات وأفاهيم على الفيلسوف أن يبتكرها ويخترعها. لكن علينا أن نتذكر دائماً أن هذه المصطلحات أو الأفاهيم الفلسفية ليست بقضايا علمية أو منطقية، يمكن أن توصف بالصدق والكذب أو الصح والغلط لأن الفلسفة ليست خبراً عن العالم، إنها تسوق جملاً إنشائية لا جملاً خبرية. تجيب الفلسفة عن أسئلة العقل التي يطرحها بطبيعته. ومن خلال طرحه هذه الأسئلة يسعى إلى تحقيق راحته، وإن بصورة موقتة. لذلك فإن مقولات من أمثال موت الفلسفة أو نهاية الفلسفة أو نهاية المتافيزيقيا ما هي إلا ثرثرات عديمة النفع ومتعبة في نظر دولوز.

خلاصة القول أن الفلسفة باقية بحيث لن يستطيع العلم أو النشاطات الأخرى الحلول محلها. لكن الفيلسوف بما هو صديق الحكمة وعاشقها سيبقى يجد حتى داخل الدائرة الجوانية القبلية المجاوزة للفلسفة، منافسين كثراً يدعون عشق صوفيا والتقرب منها. لكن علينا دائماً أن نعمل على تمييز الفيلسوف الحق من الفيلسوف الزائف. وما أكثر الفلاسفة الذين يدعون حب الحكمة، وهم لا يجرؤون على الاستهداء بإرشاداتها المربكة!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة