ملخص
تقتضي العادة القديمة أن يقام العزاء في الشارع ضمن شوادر مثبتة على قضبان معدنية تنتصب لهذه الغاية، ولتلك الشوادر أنواع تعكس أهمية الفقيد بالنسبة إلى أهله ووضعه الاجتماعي وقدرة أسرته، وهكذا تبدلت الحال.
لم يكُن السوريون يتوقعون أن يأتي يوم ويصيرون مرغمين على اختصار طقوس العزاء لأمواتهم هرباً من الكلف المالية المرهقة في تجاوز لأعراف عمرها عقود من الزمان، فلا أحد منهم يهتم الآن بأن يكون العزاء سبعة أيام للرجال وثلاثة للنساء، مختصرين إياه إلى يومين أو ثلاثة وفي أحيان أخرى يوم واحد، فيما حصر آخرون التعزية فقط بالاتصال الهاتفي أو عبر وسائل التواصل.
كذلك لم تعُد تقدم في التعازي أجود أنواع القهوة والشاي كما جرى العرف، إذ وصل اختصار الطقوس إلى حد اختيار واحد منهما أو الاستغناء عن كليهما في مشهد لم تعهده العادات المرتبطة بإكرام المعزين المؤازرين للأهل في مصابهم.
قيمة الميت ونوع الشادر
في سوريا تقتضي العادة أن يقام العزاء في الشارع ضمن شوادر مثبتة على قضبان معدنية تنتصب لهذه الغاية، ولتلك الشوادر أنواع تعكس أهمية الفقيد بالنسبة إلى أهله ووضعه الاجتماعي وقدرة أسرته، وكانت معظم العائلات تباهي باستئجار ما يعرف بالشادر "النبكي" نسبة إلى مدينة النبك في ريف دمشق، وهو شادر يحاكي الطراز العربي – البدوي بلونيه الأحمر والأسود وتدرجاتهما، ويُعدّ الأغلى ثمناً والأكثر اتساعاً، على عكس الشوادر العادية ذات اللون الرصاصي الأرخص ثمناً بكثير، وهي التي كانت قبل الحرب وبعدها مرتبطة بالأقل اقتداراً، أما الآن فالجميع يبحث عن الشادر الأدنى سعراً ولو كان ممزقاً يتسرب الهواء إلى داخله من كل الاتجاهات.
وكان السوريون اختصروا الشاي والقهوة واللبنة والتاكسي ومئات الأشياء من حياتهم لتسير بالحد الأدنى من الهموم، واليوم يجدون أنفسهم مضطرين إلى اقتصار طقوس العزاء لتصير بشكلها الأقل كلفة وهي التي كانت تتطلب جملة من الإجراءات، تبدأ من طباعة النعي وغسل الميت وتعطيره وتكفينه وشراء قبر له ودفنه ومن ثم الانشغال بمراسم العزاء، وكلها أمور باتت باهظة الكلفة في هذه الأيام. فالمئة دولار هي مرتب الموظف لخمسة أشهر في واحدة من أدنى سلاسل الأجور والرواتب حول العالم.
بتجاوز موضوع الغسل والتكفين يظل الهاجس والمشكلة الأكبر التي تعترض أسرة المتوفى هي إقامة مراسم العزاء، فيقول عمر عبدالواحد صاحب واحد من تلك المحال المتخصصة في هذا المجال بالعاصمة دمشق، إن "الشادر النبكي يأتي بطولين مختلفين، الأول 15 متراً ويتسع لنحو 60 كرسياً بأجر أسبوعي يبلغ نحو 400 دولار، والآخر طوله 20 متراً أو أكثر بقليل ويتسع لنحو 100 كرسي وإيجاره الأسبوعي قرابة 500 دولار، وتشمل تلك الإيجارات خدمة تقديم الشادر ونصبه وكراسيه البلاستيكية فقط من دون أية خدمات أخرى، وفي حال قرر أصحاب العزاء إضافة خدمات مثل إرسال شبان لتقديم القهوة والشاي إلى المعزين فإن الكلفة تصل ربما إلى حدود الألف دولار".
ويضيف عبدالواحد لـ"اندبندنت عربية" أن "هناك الشوادر العادية التي أكلها الاهتراء وهي للطبقات الأشد فقراً ويكون لونها رصاصياً أو رمادياً، وتلك تتسع لقرابة 40 إلى 50 كرسياً، لكنها سيئة للغاية، وعلى رغم ذلك فهي تشهد الطلب الأكثر عموماً إذا اعتبرنا أنه ظل هناك طلب أساساً على الشوادر، وإيجارها 200 دولار أسبوعياً من دون خدمات و300 دولار مع الخدمات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السياق يقول ناصر الجندي صاحب محل "الناصر" للشوادر في حمص إن "الإيجارات وكل شيء خارج دمشق هو أرخص منها بكثير، فهنا مثلاً إيجار الشادر النبكي لأسبوع 300 دولار، والنبكي ذو الـ20 متراً بـ400 دولار، ومع الخدمات الكاملة يصبح 800 دولار، أما الشادر العادي الذي بات يوصف بشادر الفقراء فأجره من 130 إلى 150 دولاراً".
في مايو (أيار) الماضي، توفي رجل سبعيني في دمشق تاركاً وراءه ابناً وثلاث بنات، وابنه هو الأكاديمي في علوم التربية ظافر عقباني الذي ارتأى حينها أن تقتصر التعزية على الاتصال الهاتفي ووسائل التواصل الاجتماعي نظراً إلى عدم تمكنه من إقامة عزاء لائق لوالده.
يقول عقباني إن التعزية كانت ستكلفه 2000 دولار أو أكثر عدا مراسم الدفن وخلافه، وهو رقم لم يكُن بمقدوره تأمينه بتلك السرعة، فاستمع إلى نصائح أصدقائه ولجأ إلى فكرة تقبل التعازي عبر مواقع التواصل، موضحاً أن "ذلك لا ينتقص من قيمة والدي وحبي له وعظمته في عيني، لكننا شعب مبتلى، وصار موت الواحد فينا بلاء ندعو ألا يحصل، وما يعزيني هو تقدير الناس لموقفي، كما صرنا كلنا نقدر ظروف بعضنا بعضاً".
مبرّات لنا وأخرى لهم
في لحظة ما من الحرب استشعر بعض رجال الأعمال "الأخيار" والشيوخ والأعيان تلك الحال التي وصلت إليها الناس، ورأوا أن قدسية الموت نفسها أصبحت مهددة، وهكذا ظهرت فكرة "المبرّات" وهي قاعات موجودة عادة في المساجد وتقام فيها طقوس العزاء ليُعفى أهل المتوفى من أجور الشوادر ويصبحوا مضطرين إلى تغطية أجور القهوة والشاي فقط.
الغريب أن القرى، والنائية منها خصوصاً، حذت منذ زمن طويل هذا السلوك لتكتشف المدن متأخرة ضرورته، والأغرب أن المدن نفسها اكتشفت المبرات بتفاوت زمني واسع للغاية، وقد لا يبدو الخوض في هذا الجانب جيداً جداً، لكن باختصار يمكن القول إن الشوادر ظلت مرتبطة بطوائف دون أخرى، وتلك الأخرى امتلكت مبرّاتها منذ زمن.
وما دام أن الحديث هو عن المبرّات، ففي دمشق مبرات لا للتعازي بل للاستعراض، وهي تلك المخصصة لعلية القوم والمسؤولين، وتعادل أجورها الأسبوعية أجور عشرات الشوادر مجتمعة، وفيها يذهب المرء لينسج علاقات جديدة ويتعرف إلى أناس ويعقد صفقات اقتصادية أو سياسية، وعلى خلاف العرف في المجتمع السوري السائد تكون دور التعازي تلك مختلطة.
منيرة مكي سيّدة خمسينية تقيم في دمشق وتعمل منذ ثلاثة عقود في مهنة تغسيل الأموات، وورثت تلك المهنة عن أمها كما تشرح، وتوضح أن أجورها طبيعية لكنها في معظم الأحيان تبقى ثقيلة على أهل المتوفى. وتقول "أتقاضى نحو 10 دولارات عن تغسيل الميت، وقد يزيد الرقم أو ينقص بحسب وضع العائلة التي أتعامل معها، وإن كان الأمر يقتصر على الغسل، أما إذا طلب مني التكفل ببقية الأشياء الأساسية من تعطير وتكفين فستزيد أجوري وتصل إلى 30 دولاراً، وطبعاً هنا تنتهي مهمتي فلا علاقة لي بالتابوت أو الشيخ المقرئ أو العزاء وبقية الأمور التي تتولاها العائلة عبر أشخاص مختصين بها".
وتضيف مكي أن "هناك مئات المهن التي انحدرت أو تضررت أو تلاشت واندثرت نهائياً خلال الحرب وبعضها تبدو عودته مستحيلة، لكن مهنتنا شهدت ازدهاراً غير مسبوق ولم تتوقف ثانية واحدة، فالموت حال طبيعية مستمرة لا يمكن إيقافها وتجاوز طقوسها أيّاً يكُن السبب قسرياً، باستثناء حال الشهداء الذين لا يغسّلون لأسباب دينية لست في صددها".
في أحد أيام 2020 إبان جائحة كورونا، غسّلت مكي 10 أموات في يوم واحد وكان رقماً قياسياً بالنسبة إليها، وبحسب ما تقوله فإن شهرتها تسهم على الدوام في أن يقصدها الناس فتغسل يومياً ما بين ميتين إلى ستة، بذلك تتمكن من كسب كثير من المال، وأحياناً يصل ما تجنيه إلى 500 دولار شهرياً إذا كان العمل كثيراً، على حد تعبيرها.
مراسم البكاء والاستدانة
"لا تتحمل النساء في العموم لعاطفيتهن تغسيل الميتات من أقاربهن مما يجعل سيدة مثل منيرة مكي نشطة في العمل كثيراً كحال معظم السيدات العاملات في مجالها، خلافاً لنا نحن الرجال الذين نمتهن تغسيل الموتى"، هكذا يقول فائز كمال، وهو رجل أربعيني آخر من دمشق يمتهن المهنة ذاتها ويعمل بها منذ نحو عقد، ويبدي جملة من الشروحات والأسباب لتراجع عملهم على حساب تنامي عمل المغسلات السيدات.
يوضح كمال أن "هناك عاملين يجب النظر إليهما بعناية، الأول أن عادات الريف درجت على أن يقوم أهل الميت بتغسيله وإعداد بقية طقوسه، وفي المدينة صار الرجال هم من يقومون على غسل أمواتهم توفيراً للنفقات قدر المستطاع، وفعلاً إذا اشتروا هم بأنفسهم عطور المسك والكافور والطيب والكفن وغسلوا الميت فسيحصلون على وفرة كثيرة، ومن بينها أن أجور مواصلات المغسل تحتسب على عائلة المتوفى أيضاً".
في ظلّ كل ذلك صار لطقوس العزاء عبئها الثقيل، وهي تنبئ إلى أية حال وصل الناس في الدعاء كي لا يموت أحد من ذويهم، فلا يدخلوا دوامة المراسم والمصاريف، وهكذا صار الموت الطبيعي نفسه حملاً ثقيلاً وسط أحاديث حكومية لا تنتهي عن انفراجات كبرى مقبلة، وبات الناس يقيمون مآتمهم بالاستدانة كما قالت مدرّسة الرياضيات منى شحود باكية، وأكدت لـ"اندبندنت عربية" أنها لا تزال تسدد ديون عزاء والدها حتى الآن.