ملخص
يتفق الرأي العام على أن امتلاك سيارة خاصة لم يعد رفاهية بل ضرورة وحاجة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، وأن من البديهيات أن يمتلك كل فرد الحق في اقتنائها، وكانت سوريا باقتصادها المتنامي عشية الحرب تسير في هذا الاتجاه صعوداً. فما الذي حدث؟
حين بدأت الحرب السورية في مارس (آذار) عام 2011 سرعان ما دخلت البلاد بأسرها نفقاً مظلماً تكاثفت فيه الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية، لتفضي بمجملها إلى بلد بدأت ملامح دماره تتضح منذ الأسابيع الأولى، لتتبلور في السنوات اللاحقة، واضعةً على الأخص طلقة في رأس الاقتصاد.
سرعان ما ترافقت بدايات الحرب السورية مع سلسلة عقوبات عربية ودولية قاسية حارمة البلد المعاقب من جل حاجاته الأساسية والكمالية حتى غدت محاولة العثور على لوحة إلكترونية لإصلاح آلة صناعية ضرباً من المستحيل، وصار الحصول على خيط قطن صعباً، وامتلاك سيارة حلماً.
كذا جرى الأمر وحُرم البلد الشرق متوسطي من الاستيراد قطعاً، بل والتصدير أيضاً في إقليم مشتعل وجغرافيا ضاعت فيها خطوط التماس، وكادت السلطة الرسمية أن تفقدها كاملة مع نهاية عام 2015 إبان التدخل الروسي لمصلحتها، فآنذاك كان تنظيم "داعش" يسيطر على أكثر من 70 في المئة من مساحة سوريا، وضمناً قمحها ونفطها.
هنا تبدأ القصة
تلك العقوبات أحاطت بكل السوريين، ودمرت عملتهم، وبيوتهم، وأرزاقهم، وأحلامهم على اتساعها، وجعلت 90 في المئة منهم تحت خط الفقر، على ما تؤكده الأمم المتحدة. وهم مجدداً صاروا يحلمون بما كانوا عليه عشية 2011، ويتملكهم هاجس السماح بالاستيراد المفتوح، ولأن الضمانات في الحرب أصول معروفة من ذهب، وعملات أجنبية، وعقارات، وسيارات، ارتفع الطلب عليها إلى حدود اللامعقول، لكن الطامة أن سوريا اخضعت نفسها لشروط اقتصادية غير مسبوقة، وتحديداً في سوق السيارات، بخاصة إذا ما علمنا أن أحدث سيارة موجودة في الأعم هي موديل 2011، وهو آخر عام استيراد، وكلّها مستعملة وفي الغالب صناعة كورية، وسعر الواحدة منها يعادل سعر السيارات الأوروبية ذات الصنع الحديث في الخارج، فهل يصدق أحد أن سيارة كورية مستعملة عمرها 14 عاماً تباع بمئة ألف دولار في سوريا؟
سيارة لكل مواطن
يتفق الرأي العام على أن امتلاك سيارة خاصة لم يعد رفاهية بل ضرورة وحاجة أساسية لا يمكن الاستغناء عنها، وأن من البديهيات أن يمتلك كل فرد الحق في اقتنائها، وكانت سوريا باقتصادها المتنامي عشية الحرب تسير في هذا الاتجاه صعوداً.
مع مطلع الألفية الحالية وتسلم الأسد الابن مقاليد الحكم حصلت تغيرات اقتصادية جذرية، وارتفعت الأجور ومعادلات القيم النقدية، وتدنت البطالة ومستويات التضخم مع استقطاب واسع لرؤوس الأموال والشركات والوكالات العالمية، ومن بينها شركات السيارات الكبرى.
في ذلك العقد الذي سبق الحرب بين عامي 2000 و2011 بات بوسع أي موظف حكومي عادي امتلاك سيارة بأقساط أكثر من مريحة. يستذكر السوريون أن ثمن سيارة بيجو 206 موافقة لسنة تصنيعها (2006) كان نحو 325 ألف ليرة سورية، بدفعة أولى 25 ألفاً وبأقساط شهرية عبارة عن 5 آلاف كل شهر، مما جعل حلم تملك السيارة أمراً أكثر من بسيط.
وقتذاك كان الموظف يقبض أضعاف القسط الشهري، وقد شهدت المرحلة ما بين 2000 و2010 سبع زيادات على الرواتب الحكومية، حتى تراوحت ما بين 400 وألف دولار، بحسب الدرجة العلمية والوظيفية. أما اليوم فمتوسط الرواتب نحو 20 دولاراً، عدا عن الأجور الأكثر ارتفاعاً بكثير في القطاع الخاص، وذاك سبب جوهري لتبيان عدم رغبة السوريين في الهجرة والعمل في الخارج قبل الحرب، إلا القليل.
الارتجال المؤذي
في خضم ذلك ومنذ تسلم البعث للحكم في سوريا بعيد عام 1963 دخلت البلاد مرحلة اقتصادية دعيت بنظام "سوق العمل الاشتراكي"، إلا أن طفرة وقعت بين عامي 2005 و2006 لتنقل البلاد بأكملها بعد عقود من الاشتراكية "الرثة" إلى نظام جديد سمي بنظام "اقتصاد السوق الاجتماعي"، وكان ذلك محاولة بدت في حينها أخيرةً لإنقاذ ما يمكن إنقاذه والمضي قدماً في التحسينات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ذاك النظام الجديد في سوريا وغير الجديد عالمياً يعتمد على إطلاق حرية المنافسة ومنع الاحتكار المباشر وتكافؤ الفرص مع استمرار عمل الدولة بمنظومتها التنفيذية كرقيب على الأسواق وإمكانية التدخل إذا ما تدهورت الأمور بين الاقتصاديين.
لكنّ الأغرب من ذلك هو أنّ ذاك النظام بتعريفه الأكاديمي والتطبيقي ما هو إلا جمع للقوانين الاقتصادية الرأسمالية المباشرة ودمجها بمبادئ اشتراكية مناقضة، وهو ما حقق الرفاه المأمول لسنوات للسوريين قبل أن يرميهم رفقة حربهم في قعر هاوية، ليدفعوا ثمن تجربة ارتجالية في بلد بات منذ يوم حربه الأول يحارب في كل مناسبة الليبرالية وأساليبها ومنطلقاتها وأدواتها باعتبارها غربية بينما لا يزال يتمسك بنظام سوقه الاجتماعي الحر، الذي انقلب عليه من تنافس تجار حر إلى محتكرين وأثرياء حرب.
ما وقع وقع
بعد تتالي سني الحرب واشتداد قسوتها لا يمكن القول مع ذلك إلا أنها ساوت غالبية السوريين ببعضهم، سوى طبقة قليلة العدد اصطلح على تسميتهم بـ"أمراء الحرب"، وهؤلاء وأزلامهم يعيشون خارج فصول الحرب السورية ويومياتها المرهقة وتفاصيلها المتعبة، ويقضون أيامهم متنقلين بين دولة وأخرى في إجازات تريحهم من عناء ما ابتدعوه قهراً لأقرانهم، وهذا بطبيعة الحال لسان حال الناس في كل وقت، إذ بات من الطبيعي جداً رؤية سوري يبحث في القمامة عن الطعام بينما يمر قربه موكب من سيارات حديثة وكثيرة بزجاج مظلل لا هم يكترثون به ولا هو يوليهم نظرة من عينه، فما وقع وقع.
في ظل هذه المطحنة الاقتصادية الجارفة وكطفرات كثيرة أخرى أصابت سوق السيارات طفرة غريبة نجح التجار خير نجاح في استغلالها، فالاستيراد ممنوع، وكل السيارات الموجودة قديمة، أحدثها يعود لـ14 عاماً، وأقدمها لـ60 عاماً، والاثنان ليسا رخيصين على السوريين.
في السوق الغريب
الأسئلة ذاتها لا يتوقف الناس عن التفوه بها في أسواق السيارات، وهي أسئلة على شاكلة "كيف يكون سعر سيارة (مرسيدس بينز c 250) موديل 2011 في الإمارات، وهي مستوردة وليست من صنعهم، نحو 10 آلاف دولار، مساوياً لسعر أسوأ سيارة كورية قديمة في سوريا؟".
لنبدأ أولاً من السيارات التي تباع وتشترى فعلياً على رغم أنه يفترض أن تكون تم الاستغناء عنها في المكابس ومحاطم السيارات كما كل دول العالم، ولأن ذلك لا يحصل في سوريا فإن سيارة "مرسيدس" موديل 1968 ثمنها 4 آلاف دولار، و"رينو كليو" 2001 بـ 6 آلاف دولار، و"فوكس غول" 2003 بـ7 آلاف دولار، و"شيري" الصينية 2001 بـ6 آلاف دولار، و"لانسر" 1983 بـ4 آلاف دولار، و"هوندا أكسل" 1994 بـ6500 دولار، و"مازدا" 929 عام 1977 بـ5 آلاف دولار، و"فولفو" 1981 بـ7200 دولار، و"ميتسوبيشي" 1993 بـ8700 دولار، و"بيتل" 1960 بـ3500 دولار. وكل تلك السيارات بالمواصفات الأدنى من الرفاهية، وبالطبع تعتمد على الناقل اليدوي، وفي حال كان الناقل أوتوماتيكياً فإن أسعارها ستكون أكثر ارتفاعاً بنسبة جيدة.
مبالغة لافتة
في سوريا تحتسب أشياء غريبة في سوق السيارات، قد تكون موجودة في أيّ مكان آخر، ولكن حجم المبالغة بها هنا يجعلها لافتة، فمثلاً وجود فتحة في سقف السيارة يزيد من سعرها ألف دولار، وإن كانت لم تتعرض للطلاء الخارجي سابقاً يزداد سعرها نحو ألفي دولار، والناقل الأوتوماتيكي يزيد بنحو ألفي دولار وأحياناً أقل، وكذا الأمر مع تدفئة المقاعد والمقاعد الجلدية والنوافذ الكهربائية وجهاز الإنذار وعمر البطارية ونوعية الإطارات، إلخ. لذا من الطبيعي أن يجد الزبون سيارتين مركونتين قرابة بعضهما من النوع والفئة نفسها وعام الصنع وحتى اللون، لكن فرق السعر بينهما قد يتخطى خمسة آلاف دولار مثلاً.
خلال بحثنا في أسواق السيارات بالعاصمة دمشق عثرنا على سيارة "رينو كليو" خالية المواصفات "الرفاهية" وبناقل عادي سعرها 8 آلاف دولار، لكننا أيضاً عثرنا على شبيهة مطابقة لها ولكن بمواصفات أكثر اكتمالاً وكان سعرها 13 ألفاً.
عمر مقابل سيارة
كان المهندس عبد الواحد خباز هائماً تتقاذفه مكاتب السيارات في حي المزرعة بدمشق (سوق السيارات الأكبر)، يبحث عن سيارة رخيصة وجميلة يريد أن يهديها لابنته عقب تخرجها من كلية الطب، هكذا وعدها، ويريد الرجل أن يفي بوعده، فقد باع أرضاً يملكها وراح لتلك السوق.
يقول "خردة بـ7 آلاف دولار؟ لا يمكنني إلا شراء سيارة خردة لابنتي بهذا الرقم؟ لماذا؟ لتقضي وقتها في إصلاحها وتظل تتعطل معها على الطرقات؟ يا الله، يا الله، 7 آلاف دولار، هذا راتبي لـ350 شهراً، أي 29 سنة، ما يعني كل عمري الوظيفي، ماذا يحصل في هذا البلد؟ يذلوننا في سوق السيارات، وفي وسائط النقل، وفي طوابير الانتظار".
كل ذلك الحديث عن السيارات القديمة، أو سيارات "الغلابة" كما يصفها التجار، من دون أن يعلموا أنّ هؤلاء "الغلابة" حصلوا بشق الأنفس على ثمن تلك السيارات كبديل لا عوض عنه في مواجهة أزمة النقل الخانقة والمهينة.
أما بالنسبة للسيارات "العصرية" و"الحديثة" فهذي قائمة بأسعار بعضها لعل دول إنتاجها تتعلم كيف تربح دولة مثل سوريا في سيارة أضعاف وأضعاف ما تربح الشركة الأم، ولشركة "آبل" تجربة مشابهة مع سوريا التي تربح ثلاثة أضعاف أرباح الشركة الأم في هواتف "آيفون".
لو كانت الحال مختلفة
من نافلة القول إن السيارات الكورية تهيمن على السوق السورية لتوافر قطع صيانتها ورخص ثمنها قياساً مع الأوروبية، ولأنها كما توصف بـ"ملح السوق" والأكثر رواجاً ونشاطاً في البيع والشراء، ومن بين تلك السيارات وأشهرها "كيا سيراتو" (فورتي) وثمنها مستعملة يتراوح ما بين 22 و27 ألف دولار، علماً أن سعرها في دبي 4 آلاف دولار، وفي مصر 10 آلاف دولار، وبالتأكيد فإن ثمنها في بلد منشأها لا يساوي كلفة إصلاحها في سوريا.
أما "كيا سيراتو" 2007-2008 فبين 15 إلى 19 ألف دولار، و"كيا ريو" 2007-8-9-10 فبين 13 إلى 16 ألف دولار، أما سيارة "هونداي فيرنا" الصغيرة فقد وصل سعرها إلى 12 ألف دولار، وتعتبر واحدة من أردأ الإنتاجات، في حين بلغ سعر سيارة "كيا مورنينغ" الصغيرة أيضاً نحو 12 ألف دولار، وسيارة "فيرا كروز" 2010 بـ60 ألف دولار، في حين تصل بعض الإصدارات من سيارة "كيا موهافي" إلى نحو مئة ألف دولار. وبالطبع فهذه السيارات الكورية كلّها صارت تعتبر سيارات أثرياء على رداءة معظمها، وعلى قاعدة لو أن الحال مختلفة لما فكر السوري في اقتناء واحدة منها.
وظيفة مزعجة وسيارة
يشغل عمران حمزة الخريج في كلية إدارة الأعمال منصب مدير في أحد البنوك الخاصة، ويقطن في ريف دمشق، ومكان عمله في قلب العاصمة، وقد منحته إدارة البنك العامة بحكم منصبه سيارة خاصة للتنقل من نوع "كيا سيراتو" 2007. يقول عمران إنه غير مرتاح في العمل، لكنه لا يتركه بسبب السيارة. موضحاً "التعلق بالسيارة أمر رهيب، فسعرها يساوي كثيراً من الدولارات، ولو تركت العمل وظفرت بعمل أفضل منه ولكن من دون سيارة فسأقضي عمري في الوظيفة ولن أتمكن من شراء واحدة، في هذا البلد يحسبون عليك رغيف الخبز، ويحرمونك حقوقك مقنعين إياك مع الوقت بأنها رفاهية لست بحاجة إليها".
من يستطيع رفع يده؟
حين الحديث عن السيارات الأميركية والألمانية وغيرهما تختلف الأمور، تلك السيارات لا يمتلك أرقامها الفلكية إلا الممعنون في الثراء، وبالحديث عن المقتدرين هناك الآن في سوريا سيارة "تسلا" كهربائية حديثة، نعم هذا الأمر حقيقي فعلاً، فقد اشتراها شخص ما قبل أشهر من مزاد علني، ولكن كيف حدث ذلك؟ تسلا؟ وفي سوريا؟ أين الحصار وقانون "قيصر" والهجمة الدولية وإلخ؟ وسعرها لم يكن إلا 170 ألف دولار، وهو رقم زهيد إذا علمنا السبب، وهو ما يمكن كشفه بعد تحرٍ واسع عن الموضوع.
تمكن أحد المتنفذين من إيصال تلك السيارة إلى إحدى دول الجوار، ومن هناك قام بإدخالها سراً إلى سوريا، وما إن أدخلها حتى قام بنفسه بإبلاغ الجمارك عنها وتسليمهم إياها لمصادرتها، حسناً، تلك خطة كانت ذكية للغاية، فماذا ستفعل الجمارك بالسيارة العجيبة؟ لا شيء، ستطرحها للبيع بمزاد علني، وفي ذلك المزاد لم يجرؤ أحد أن يرفع يده لشراء السيارة المذهلة، لربما لو رفع أحد يده لطارت رقبته، هذا ما قاله أحد الحاضرين يومها للمزاد.
الشخص نفسه، الذي فضل عدم كشف هويته، قال "هذه القصة تحصل كثيراً، وصارت أسلوباً متبعاً وغير مكلف قياساً بالثمن الحقيقي لإيصال السيارة وإدخالها ودفع رسوم جمركها بشكل قانوني، فحينها ربما كانت ستكلف مليون دولار، وهذا ما يفسر تكاثر السيارات الحديثة في الفترة الأخيرة، وبالطبع هناك طرق أخرى كالشراء من لبنان بأسعار بخسة والحصول على مهمات أمنية لتلك السيارات".