Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كيف أنقذت السوريالية الأميركي أرشيل غوركي من الوقوع في بؤسوية بيكاسو؟

حمل قضيته الأرمنية على كتفيه قبل أن ينقلها إلى داخل روحه وأحاسيسه وفنه الكبير

لوحة "الفنان وأمه" للفنان أرشيل غوركي (موسوعة الفن الحديث)

ملخص

في الحقيقة أن مكسيم غوركي روسي بينما أرشيل غوركي أرمني الأصل انتقل باكراً في حياته إلى الولايات المتحدة، ليس هرباً من الحكم السوفياتي، بل هرباً من الاضطهاد العثماني. بل لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن غوركي ليس الاسم الحقيقي لأي منها، فالاسم الحقيقي للأول هو بيسكوف، أما الثاني فاستعار من سلفه الشهير ذاك لقبه غوركي كمجرد تيمن به.

هناك في تاريخ الحركة الإبداعية خلال النصف الأول من القرن الـ20 مبدعان كبيران يحملان معاً اسماً واحداً، أولهما هو مكسيم غوركي الذي كان خلال تلك المرحلة من الزمن واحداً من كتاب العالم الأكثر شعبية وفي مجالات إبداعية عديدة منها الرواية طبعاً، بخاصة روايته "الأم"، والمسرح بالتأكيد، بخاصة هذه المرة مسرحيته "الحضيض"، أما الثاني فيقل عن الأول شهرة وانتشاراً لأعماله في العالم لكنه لا يقل عنه إبداعاً بالتأكيد، وهو الرسام أرشيل غوركي الذي يعتبر من كبار رسامي تيار التعبيرية التجريدية في الفن التشكيلي الأميركي الحديث. وحتى ولو أن الاثنين انطلقا إلى العالم والعالمية من البقعة الجغرافية نفسها تقريباً (البلاد السوفياتية بشكل أو بآخر) فليست ثمة أية صلة قرابة بينهما حتى ولو أن الثاني، الرسام، كان يقول دائماً إنه ابن عم للأول، الكاتب.

ففي الحقيقة أن مكسيم غوركي روسي بينما أرشيل غوركي أرمني الأصل انتقل باكراً في حياته إلى الولايات المتحدة، ليس هرباً من الحكم السوفياتي، بل هرباً من الاضطهاد العثماني. بل لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن غوركي ليس الاسم الحقيقي لأي منها، فالاسم الحقيقي للأول هو بيسكوف، أما الثاني فاستعار من سلفه الشهير ذاك لقبه غوركي كمجرد تيمن به، وهو أمر معروف تماماً حتى وإن كانت صور الرسام الفوتوغرافية تكشف لنا عن تشابه غريب بين الاثنين!

 

حداثة أميركية

على أية حال لا بد أن نوقف هذه المقارنة هنا لنتوقف عند الرسام أرشيل غوركي، فهو في الحقيقة يستحق وقفة في هذا المجال وأكثر بالنظر إلى أن قدراً ظالماً من النسيان طواه طوال حياته القصيرة (1904 - 1948)، وفي الأقل مقارنة بما حظي به معظم رفاقه في تياره الفني نفسه من شهرة ودراسة ومعارض. فهو بالكاد يذكر وحيداً كما حال جاكسون بولوك وروي ليشتنشتاين وروبرت ماذرويل وغيرهم من كبار أصحاب الأسماء التي شغلت الساحة الفنية الأميركية، ولا سيما النيويوركية منها، خلال الحقبة التي عاش فيها، وكانت فترة ازدهار هائلة للفنون الأميركية الحديثة التي وجدت نفسها من خلال أعمال بالغة التجديدية، تخوض معركة الحداثة الفنية في المجتمع الأميركي المحافظ عادة. ونعرف طبعاً أن الشعار الأساسي لأولئك الفنانين كان الانتماء، إنما المتحرر جداً إلى ما كان يسمى حينها بالحداثة الأوروبية، وذلك في الوقت نفسه الذي كانوا يخوضون فيه معركة أكثر خطورة تقوم على استيعاب تلك الحداثة الأوروبية وتجاوزها في الوقت نفسه، وكانت من نوع المعركة مع الذات التي تبدو دائماً أكثر أهمية بكثير من "المعركة مع الآخر". ولعل في مقدورنا هنا أن نرى أن تأثيرات ذلك النوع من "الصراع" تتبدى أكثر قوة في مسار أرشيل غوركي الفني منه في مسار أي واحد آخر من زملائه. ومن المؤكد أن هذا الواقع يرتبط حقاً بالجذور التي أتى منها هذا الفنان الذي بلغ من حساسيته أن أنهى حياته بنفسه وهو بعد في الـ44، ولا سيما بعد أن رأى أنه قال كلمته ولم يعد لديه ما يضيفه.

السوريالية المحررة

والحقيقة أن ما قاله أرشيل غوركي إنما قاله في لوحاته الكثيرة التي حققها منذ وصوله إلى الأرض الأميركية، ولكن بعد مروره على باريس. وقاله بخاصة خلال العقدين الأخيرين من حياته، وبخاصة بعد أن تعرف إلى السوريالية التي من دون أن يبدو عليه أنه حقاً من مريديها ومتتبعي خطواتها، تبنى دلالاتها الأساسية وشعر في ذلك الحين بأنها حررته من "سجن فني" كان أسر نفسه فيه باختياره في الأقل! وسيقول لنا لاحقاً إن ذلك السجن حمل اسماً كبيراً هو بابلو بيكاسو. ولعل حسبنا اليوم أن نعود لتلك اللوحة التي كان التوافق على كونها لوحته الكبيرة الأولى، وعنوانها "الفنان وأمه" لكي ندرك فحوى ما يعنيه هذا. فتلك اللوحة التي رسمها غوركي في نسختين متواليتين عند بدايات سنوات الـ20 بعد وصوله إلى أميركا حيث درس ثم درس في "مدرسة نيويورك المركزية الكبرى"، ستبدو ما إن ينظر إليها المرء، وكأنها من رسم بيكاسو خلال تلك المرحلة في الأقل، بالحزن الماثل على وجهي شخصيتيها والألوان المتقشفة والنظرة المباشرة والمتماثلة، إنه عالم بيكاسو بكل تفاصيله، عالم مغلق على ذاته لا يترك أي مجال لتشعب في التفكير أو لأي تساؤل، عالم إذ يصور هنا لا يترك المجال لأية أسئلة إضافية، بل إن القلق الذي اعتاد المعلم الإسباني الكبير أن يترك له مجالاً في لوحاته البؤسوية على شكل أسئلة تحتاج إلى إجابات، ينتفي تماماً هنا غير تارك مجالاً إلا لإجابات قاطعة تغرق الناظر إلى اللوحة في قدر كبير من يقين محزن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اليقين ضد السؤال

إنه باختصار فن اليقين، مهما كانت مرارته، لا فن السؤال. ومن هنا ذلك الإحساس الذي خامر غوركي حينها بأنه غير قادر على أن يتابع تلك الطريق اليقينية، فهو في النهاية "ابن قضية" تعايش معها منذ وعيه على العالم بل حتى مع حليب أمه. وهو كان جعل من تلك القضية موضوعه ومبرر تدخل فنه في الحياة التي يعيشها، ولا سيما في أميركا بوصفها عالماً يفتح دائماً على عوالم متتالية. ومن المؤكد أن ذلك كان واحداً من الأهداف الرئيسة لمبارحته يريفان عاصمة أرمينيا تحت وطأة المجازر التي اندلعت ضد الأرمن وانطلاقاً، بخاصة من عداء السلطنة العثمانية لهؤلاء. ولعل في إمكاننا هنا أن نفتح هلالين لنشير إلى أن الدرب التي سلكها أرشيل برفقة أمه للوصول إلى الملاذ الأميركي كانت في حد ذاتها مغامرة إنسانية وفنية كبيرة، وهو لطالما أراد التعبير عنها في فنه لاحقاً، ولم تك لوحتا "الفنان وأمه" سوى إرهاص بذلك، وبخاصة من خلال كونه نقلها أصلاً عن صورة عائلية كانت كل ما تبقى لديه من الإرث العائلي، نقلها لتخليد واحدة من لحظات "السعادة" الأخيرة التي عاشها طفلاً مع تلك الأم، لكنها لم تفعل أكثر من أنها حملت في إمارات الأم وابنها كل تعاسة القضية التي شردتهما معاً، ومن هنا أحس غوركي أن عليه أن يحدث في حياته وفنه ثورة تحريرية كان من حظه أنه عثر عليها في السوريالية التي سرعان ما تمكن من اكتشافها ليجد فيها ترياقاً فنياً مناسباً له ولفكره ولقضيته كما سيقول دائماً.

حرية وفواجع

ولكن أكثر من ذلك كما سيعبر عن نفسه خلال العقدين الأخيرين من حياته المتطابقة مع مساره الفني، أن الأهم بالنسبة إليه كان ما علمته إياه السوريالية من استبطان يربط ما يريد التعبير عنه من ناحية بذكرياته الأكثر حضوراً في داخله، ومن ناحية أخرى بهواجسه وضروب القلق التي تستبد به. ومن هنا تحولت رؤيوته لتتمازج فيها كل مشاعره وأحلامه، وهو ما بات يهيمن على فنه لكنه يحرره في الوقت نفسه. وسيمضي غوركي مساره الفني في مرحلة نضوجه التالية يحقق لوحات يمعن في تلوينيتها بالترابط مع ما تختزنه ذاكرته من ألوان وأشكال أرمنية حقيقية تعبر عن هويته ولو من دون وعي بين، ولا شك في أن ذلك الوعي الخفي كان الحامل الأساس لكل ما أراد التعبير عنه، غير أن من سوء طالع ذلك الفنان الشاب أن ذلك التوجه لديه، في وقت تزامن مع زواج ثان موفق، وبدئه في تأسيس عائلة، وبدء عالم الفن بالتعرف على أعماله وتلمس الجديد التعبيري فيها، وغوص المهتمين بفنه في البحث عن المعاني حتى خلف تجريديته التعبيرية، راحت المصائب تتوالى عليه وصولاً، خلال العام ما قبل الأخير من حياته، إلى حريق فجائعي أصاب محترفه ليقضي على عشرات من لوحاته واسكتشاته، ليتبع ذلك سرطان يصيبه، صحيح أنه نجا منه لكنه خرج منه محطماً، مما دفعه في لحظة يأس إلى الانتحار مخلفاً فناً يصعب القول، وعلى رغم كل المظاهر، إنه يشبه أي شيء آخر ما عدا الفنان نفسه.

المزيد من ثقافة