Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

إلى أين انتهت محاولة تحديد فلسفة العلمانية؟

لا يستقيم مفهوم الدولة من دون حيادها في الشؤون الدينية بما يضمن وحدة الإنسانية في اختلافاتها

العلمانية في تجلياتها تصبح رابطاً مدنياً يتأسس على مبادئ حرية الضمير والمساواة بين أفراد المجتمع (مواقع التواصل)

ملخص

العلمانية ليست خياراً روحياً مندرجاً في إطار خيارات روحية أخرى، بل تصبح الأساس اللازم لهذه الخيارات المختلفة، ذلك أنه من المنظور الفلسفي للعلمانية ليس على الدولة التدخل في المعتقدات والحكم عليها، بل من واجبها ضمان حق كل شخص في استقلالية خياراته الروحية والدينية.

ينهل مفهوم العلمانية على المستوى الفكري من كل الفلسفات الملتزمة قيم الحرية والعقل والحقيقة والعدالة والمساواة كأسس للحياة المدينية، ولا يرتبط فكرياً بفلسفة واحدة محددة، بل قد يكون من المغري الاعتراف بأن الأسس الفلسفية للعلمانية تنهل من كل الفلسفات التي تعنى بالإنسان. ففي النموذج العلماني ثمة رهان على فكرة محددة عن الإنسان والمجتمع والعقل والتنوير ترتبط بتحقيق أفضل ما في الإنسانية لتنظيم الحياة المشتركة بين البشر.

من هذه الزاوية كانت محاولة تحديد فلسفة العلمانية مرادفاً لجمع الأفكار الفلسفية المتناثرة، هنا وثمة، التي يمكنها تحقيق متطلبات هذا الرهان انطلاقاً من كتابات مكيافيللي وديكارت وسبينوزا وبايل ولوك وهيوم وروسو، مروراً بكانط وهيغل وكوندرسيه وماركس وفيبير، وصولاً إلى نيتشه وسارتر وغيرهما. ولئن بدا لنا أن كل مفكر وفيلسوف من هؤلاء ركز على جانب من جوانب هذا التحرر، وجب علينا إظهار أهمية هذا الجانب بغية رسم "عمارة جدلية عامة" يأخذ فيها كل فيلسوف حقه بعيداً من الانتقائية والتجاذبات الكثيرة حول دلالة المفهوم ومعناه، بدءاً من فصل الدين عن الدولة، أو استبعاد الدين من المجال العام أو الفصل الوثيق بين العالم الروحي والدنيوي.

وإن أصر ديكارت مثلاً على الطابع المؤسس للذات المفكرة والوعي الحر، فما إصراره إلا للتشكيك في مبدأ السلطة الذي يولد في رأيه كثيراً من الأفكار الظلامية، ذلك أن مبدأ العقل والفكر الحر عنده هما مصدر تحرر الأفراد والمجتمعات، وهما في الوقت عينه مبدأ أساس لفلسفة العلمانية التي تتوسع في مفهومها لتجربة الحرية الداخلية حتى تشمل السلوك في الحياة. وإن لاحظ سبينوزا وهو أول فيلسوف تنبه إلى معضلة الأصولية والتطرف الديني أن قوة الفهم تتناسب مع قوة الفعل التي تغذيها، فليذكرنا بأن الذات الحرة لا تتكون إلا في الظروف التي تمكنها من التحقق في الواقع. فالعلمانية ليست التصادم بين الدين والدولة، بل هي تعبير عن النبل أو السخاء الذي عرفه ديكارت وأعاد سبينوزا صياغته بوصفه مبدأ التوافق الفعال بين الناس.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فالإنسان، بحسب سبينوزا، يؤكد إنسانيته ويعبر عنها في استخدامه الحر للأشياء التي لم يخترها، وفي شجاعته على تحمل تبعات هذا الاستخدام الذي يضعه فوق العادات والمعتقدات والانتماءات والمصالح الخاصة. ولعل هذا التعالي يمكنه من السيطرة على أفكاره ومعتقداته، ومن الوقوف على مسافة واحدة من كل المعتقدات، مسافة نظر إليها الرواقيون كمرادف لمبدأ الحرية عينها. ولعل النبل أو السخاء الذي يحرر الذات دون إنكار ذاتيتها، يسمح للفرد بالانفتاح على المجتمع، فتصبح الحرية من هذا القبيل نظير القبول للآخر ما نقبله لنفسنا، فتتأكد إذ ذاك المساواة التي تنعش وحدها الروابط الاجتماعية وتغذي إنجازات الأفراد المختلفة. فحرية التفكير والاعتقاد لا تعكر صفو السلام الاجتماعي ولا تخدش حياء المجتمع، بل على العكس تماماً، أنها شرط من شروط تحقيق السلام ونشر الفضائل.

بعبارة أخرى، أن يتجرأ كل واحد منا ويقبل للآخر ما يريده لنفسه، يعني أن نتحرر قدر الإمكان من انتماءاتنا الضيقة بغية التطلع نحو الإنسانية الأرحب، هذا السخاء هو بالضبط أفضل مضاد للتعصب واللاتسامح والامتيازات التي تتم المطالبة بها باسم خيار روحي معين. من هذه الزاوية، تصبح العلمانية في تجلياتها الفكرية والسياسية رابطاً مدنياً، يتأسس على مبادئ حرية الضمير والمساواة بين جميع أفراد المجتمع الخاضعين لقانون مشترك ولمؤسسات عامة تعمل على تحقيق الخير العام، بعيداً من تصور يهدف إلى إفراغ العالم من مضامينه الروحية والدينية، والاكتفاء بالاعتماد على العقل في تدبير شؤون الحياة. ولئن كان مفهوم العلمانية حصيلة تطور تاريخي طويل، فأننا إن حفرنا فيه عميقاً، لوجدنا أنه يتأسس على مبادئ فلسفية ثلاثة:

1- حرية الضمير والاستقلالية.

2- المساواة في الحقوق والواجبات بين جميع الناس دون التمييز بين خياراتهم الدينية والروحية، بمعنى أن يعامل المؤمنون على اختلاف عقائدهم وانتماءاتهم، كالملحدين واللاأدريين، بالطريقة نفسها ووفقاً للتشريعات التي تنظم الحياة العامة.

3- التأكيد أن المصلحة العامة هي السبب الحصري لوجود التشريعات والقوانين المشتركة.

من هذه الزاوية لا تكون العلمانية خياراً روحياً مندرجاً في إطار خيارات روحية أخرى، بل تصبح الأساس اللازم لهذه الخيارات المختلفة، ذلك أنه من المنظور الفلسفي للعلمانية ليس على الدولة التدخل في المعتقدات والحكم عليها، بل من واجبها ضمان حق كل شخص في استقلالية خياراته الروحية والدينية، وفي طريقة عيشه لهذه الخيارات تحت راية القانون.

لا يستقيم مفهوم الدولة إذاً دون العلمانية التي لا تميل إلى إبعاد الدين وإقصائه بقدر ما تعني حياد الدولة في الشؤون الدينية، بحيث تتبدى العلمانية الضامن لوحدة الإنسانية في اختلافاتها. والعلمانية لا تنكر هذه الاختلافات، بل تدعو إلى احترام نظام محدد يضمن المساواة بين المواطنين ويؤكد حرية معتقداتهم في تمييز صريح بين الحقلين العام والخاص، تمييز سبق للوك وروسو أن أشارا إليه في كتاباتهما. وكذلك فعل كانط حين دعا إلى استقلالية الحكم والوضوح الداخلي الذي يميز الإيمان عن المعرفة في مشروعه نحو السلام الدائم وفي مقالته الرائعة عن عصر الأنوار.

ليست العلمانية إذاً "منتجاً ثقافياً" يقتصر على منطقة معينة أو يرتبط بتاريخ مجتمع بعينه، ولو كانت في مسراها التاريخي حصيلة تجربة أوروبية محددة. فكثر من أمثال بنيتو خواريز وتوماس جيفرسون وأتاتورك وغاندي وجان جوريس وغيرهم جسدوا روحها في سياقات مختلفة. والحق أن فلسفة العلمانية مرتبطة بدينامية الثقافة الإنسانية القائمة على الحرية والمساواة، وعلى الإقرار بحق كل فرد في عيش "اختلافاته"، بحيث يكون خيارها ضمان الحقوق الجماعية والفردية.

في نهاية المطاف، إن مفهوم العلمانية مفهوم معقد لا يراد به إبعاد الدين عن المجتمع، بقدر ما أن غايته هي حصر العقائد في إطار الحياة الخاصة للفرد والتحرر من السلطة أنى كان شأنها، وإقرار حق الجماعات الدينية والمؤسسات المشاركة في القرار السياسي وفقاً لمبدأ المساواة، دونما إحالة إلى أية مرجعية يمكنها ادعاء امتلاك الحقيقة، لأن الحقيقة الدينية لا وجود لها في الواقع اليومي إلا من منطلق عقائدي بحت، أما محاولة مشاركتها فستقود إلى فرضها قسراً، مما يتعارض مع روح الدين نفسه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة