كان سقراط يقول "إن الحكماء يتعلمون من المجانين أكثر مما يتعلم المجانين من الحكماء". وهو علّم المدينة التي حكمت عليه بالموت عام 399 قبل الميلاد خطورة انتهاك القانون.
أمَّا الحكام، فهم نوعان: واحد يتعلم من الحكماء والمجانين والتجارب، وآخر لا يتعلم، لا من الحكماء ولا من المجانين ولا من التجارب. والمسألة تتجاوز نوعية المستشارين، كما تؤكد تجربة الرئيس دونالد ترمب مع أربعة مستشارين للأمن القومي في ثلاث سنوات من ولايته. ففي كتاب "الأمير" الذي صار مرشد كثير من الحكام يقول ماكياڤيللي "إن الأمير الذي ليس حكيماً لا يمكن نصحه جيداً، لأن النصيحة الجيدة تتوقف على دهاء الأمير الذي يطلبها". وأخطر الأخطاء هي التي يرتكبها الحكام والمستشارون في انتهاك القانون من أجل الاحتفاظ بالسلطة.
الرئيس ريتشارد نيكسون، وهو من أكثر رؤساء أميركا معرفة نظرية وخبرة عملية بحقائق الألعاب السياسية داخل أميركا ومع العالم، لم يكن في حاجة إلى التنصت على مركز الحزب الديمقراطي ليضمن انتخابه لولاية ثانية. والرئيس ترمب الذي لديه قاعدة ثابتة من الناخبين البيض، ليس في حاجة إلى مكالمة هاتفية مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي طالباً منه إجراء تحقيق مع جو بايدن أبرز المرشحين الديمقراطيين لمنافسته بسبب اتهامات لابنه هنتر الذي عمل مع شركة أوكرانية.
لكن إغراء السلطة قاد إلى فضيحة "ووترغيت" التي دفعت الكونغرس إلى بدء الإجراءات الدستورية لـ "عزل" الرئيس. وجنون السلطة جعل ترمب يوقف تسليم شحنة أسلحة بقيمة 400 مليون دولار إلى أوكرانيا ويقول ضمناً لزيلنسكي أن عليه تقديم خدمة في التحقيق للحصول على الأسلحة، بحيث أدت فضيحة "فون غيت" أو أي اسم آخر إلى بدء إجراءات العزل في الكونغرس. وقبل ذلك كان الدور على الرئيس بيل كلينتون بسبب علاقته الجنسية مع المتدربة لوينسكي. والمرة الأولى في إجراءات العزل كانت ضد الرئيس أندرو جونسون في منتصف القرن التاسع عشر.
لكن نيكسون استقال قبل المحاكمة حين خسر تأييد العديد من أعضاء حزبه الجمهوري في مجلس الشيوخ. والكونغرس فشل في إدانة جونسون وكلينتون، لأن العزل يحتاج، بعد الاتهام بالأكثرية البسيطة في مجلس النواب، إلى أكثرية الثلثين في مجلس الشيوخ الذي يتولى المحاكمة.
وهي أكثرية لم تتأمن لأن الارتباط الحزبي بقي قوياً. واليوم تتكرر القصة. الديمقراطيون ليسوا في حاجة إلى بدء إجراءات العزل للرئيس ترمب خلال سنة انتخابات رئاسية وارتكاب الغلطة التي حاولت رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي الهرب منها. ليس لأن الرئيس لا يستحق العزل، بل لأن الجمهوريين في مجلس الشيوخ وهم الأكثرية، صامدون مع ترمب والذي يبحث بالفعل عن معركة.
فالنخبة الأميركية تعلن بكل الوسائل أن ترمب "مذنب لكن العزل غلطة" بحسب العنوان المعبر للمعلق ديفيد بروكس. ونيوت غينغرتش الذي كان رئيس مجلس النواب وقاد الإجراءات لعزل كلينتون يعيد التذكير بتجربته. فهو خسر المعركة ثم خسر موقعه في مجلس النواب. وترمب في معركة "ربح-ربح" ولو اتهم بمخالفة الدستور ما دام الموضوع هو اتهامات مالية لنجل بايدن. أما القلة، فإنها ترى في الخسارة نفسها ربحاً سياسياً مؤجلاً. وهي تعيد التذكير بكتاب برندا وينيابل "العازلون: محاكمة إندرو جونسون وحلم أمة عادلة". والخلاصة فيه هي "أن الوقوف مع المبدأ أحياناً ولو بثمن في المدى القريب يجعل من بعض الهزائم انتصارات. إذ إن عزل جونسون فشل، لكن النظام ربح".
والواقع أن الديمقراطيين لم يتوقفوا عن ارتكاب الأغلاط منذ انتخاب ترمب. أضاعوا أشهراً في الجدل حول النظام الانتخابي المعمول به، حيث فاز ترمب بالأصوات الـ 270 المطلوبة في "الكلية الانتخابية" على الرغم من حصول منافسته هيلاري كلينتون على أكثرية الأصوات الشعبية بفارق مليوني صوت لمصلحتها. وأضاعوا أكثر من سنة في تحقيق أجراه المحقق الخاص موللر حول اتهامات بالتدخل الروسي في المعركة لمصلحة ترمب عبر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي لتشويه صورة المرشحة الديمقراطية. وهاهم يتجمعون لإضاعة سنة المعركة الانتخابية في لعبة محكومة سلفاً بالفشل. وكل هذا، بدل تقديم برامج اقتصادية واجتماعية وصحية تستقطب الرأي العام وتكشف سياسة ترمب. وبدل لعب دور جدي في السياسة الخارجية غير الدور المتراجع حتى عن دور ترامب الهارب من العولمة إلى "أميركا أولاً" والمتردد في الدفاع عن مصالح أميركا وحلفائها في العالم.
لا بل إن ترمب الذي يحمل توقيعه كتاب "فن الصفقة" سعى إلى الحصول على أسوأ الصفقات. وبينها "ثلاث كوارث كاد ترمب أن يصنعها لو لم ينقذ جون بولتون أميركا منها" قبل إقالته، بحسب مقال في "نيويورك تايمس". وهي "اتفاق مع كيم جونغ أون على تقديم مساعدات مهمة ملموسة مقابل وعود غامضة بالنسبة إلى السلاح النووي. انسحاب من سوريا في صفعة للكرد الذين قاتلوا للقضاء على داعش، وترك المنطقة فارغة ليملأها الإيرانيون والأتراك والروس والأسد. وتفاوض واتفاق مع طالبان من دون إشراك الرئاسة الأفغانية".
وإذا كان جو بايدن يصف ترمب بأنه "تهديد وجودي لأميركا"، فإن الأخير يصل إلى ذروة الدراما – الكوميديا بالقول "إن مصير أميركا في خطر لا مثيل له". أي خطر؟ "خطر" أن يصبح هو خارج البيت الأبيض. كأن أميركا القوة العظمى جمهورية موز.