Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حتى تكايا الجوعى لم تسلم من حرب السودان

شكلت المطابخ الخيرية معركة يخوضها المتطوعون لإنقاذ نازحين تحولت أجسادهم إلى هياكل عظمية

اضطرت العديد من التكايا والمطابخ الخيرية الأخرى لتقليص وجباتها (حسن حامد)

ملخص

تدير مجموعات طوعية أكثر من 90 مطبخاً وتكية خيرية لتقديم وجبات غذائية للنازحين والعالقين وسط القتال في مختلف مناطق السودان، لكن تهاوي سعر العملة المحلية مقابل الدولار أدى إلى توقف أكثر من نصفها.

كالعادة منذ الشهر الثالث لنشوب حرب السودان، أي يوليو (تموز) 2023، ومثل كل الأيام السابقة خرج عبدالعزيز صديق أحد مواطني أم بدة جنوب أم درمان، عقب صلاة الفجر مباشرة حاملاً "جردلاً" من البلاستيك متوسط الحجم وتوجه إلى حيث المطبخ الخيري ليحصل على حصته اليومية من الرز المطبوخ، وهو على يقين بأن هناك من سبقوه وعلى استعداد للوقوف في قائمة الانتظار.

كثيرون صدموا مثل صديق عندما فوجئوا بغياب القدور المنصوبة وانطفاء نيران المطابخ الخيرية وتوقفها عن تقديم الوجبات اليومية المجانية، ولم يكُن أمامهم سوى شد الرحال والنزوح إلى مكان آخر يوفر لهم لقمة العيش، مما عزز المخاوف المتنامية من تدهور تام للوضع الغذائي المخيف في كثير من مناطق السودان.

معركة مختلفة

شكلت المطابخ والتكايا الخيرية منذ أشهر الحرب الأولى معركة من نوع آخر يخوضها المتطوعون في مواجهة شبح الجوع الذي يحاصر العالقين والنازحين في مناطق القتال بتقديم الوجبات المجانية، لكن تحت ضربات الضائقة المالية وعدم توافر المواد الأولية بدأت بالتساقط ويهدد توقفها بمضاعفة معاناة آلاف الأسر التي فقدت وجبتها الوحيدة في اليوم.

وظلت مجموعات طوعية تدير أكثر من 90 مطبخاً وتكية خيرية لتقديم وجبات غذائية للنازحين والعالقين وسط القتال في مختلف مناطق السودان، لكن تهاوي سعر العملة المحلية مقابل الدولار وارتفاع معدلات التضخم والزيادة الجنونية في أسعار المواد الغذائية أدت إلى توقف أكثر من نصف تلك المطابخ عن العمل تماماً، بينما تترنح أخريات للأسباب ذاتها.

 

 

وقبل التوقف التام اضطر كثير من التكايا والمطابخ الخيرية الأخرى إلى تقليص وجباتها اليومية، مما تسبب في ظهور صفوف طويلة وطوابير تشهد تدافعاً كبيراً عند مراكز توزيع الوجبات التي لا تزال تعمل في بعض المناطق الأخرى للحصول على حفنة من الطعام تكفي لوجبة واحدة.

وللمرة الأولى منذ اندلاع الحرب في منتصف أبريل (نيسان) 2023، كشف الجهاز المركزي للإحصاء في السودان عن بلوغ معدل التضخم خلال النصف الأول للعام الحالي في المناطق الحضرية 134.37 في المئة، وفي المواقع الريفية 137.37 في المئة مقارنة بـ136.67 في المئة خلال 2023.


توالي التساقط

ضمن سلسلة تهاوي وتساقط التكايا والمطابخ الخيرية، أعلنت غرف طوارئ محلية أم بدة أكبر محليات مدينة أم درمان كثافة سكانية، والمحتلة جزئياً من جانب قوات "الدعم السريع"، عن توقف 45 من المطابخ الخيرية من أصل 50 مطبخاً كانت تقدم خدماتها بسبب انقطاع الدعم المالي.

وتغطي المطابخ الخيرية في أم بدة، حاجة ما بين خمسة آلاف وسبعة آلاف أسرة في اليوم، بتقديم وجبات من العدس والفول والبليلة العدسية، وتعتمد العائلات عليها بصورة كاملة في الحصول على الحد الأدنى من حاجتها اليومية للطعام.

معضلة التمويل

سبقت محلية أم بدة مناطق أخرى في ولاية الخرطوم بالإعلان عن توقف عدد كبير من المطابخ والتكايا الخيرية في المنطقة خلال الفترة من أبريل حتى يونيو (حزيران) الماضيين، بسبب قلة الدعم لتمويلها.

وشكا عدد من المتطوعين في غرف الطوارئ بشرق النيل بالخرطوم بحري، من أن انقطاع الدعم والهبات والتمويل للتكايا والمطابخ كان العقبة الأساسية التي حالت دون استمرارها وأدت إلى تدهور الأوضاع المعيشية وهددت سكان المنطقة بالوقوع تحت براثن الجوع التام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأكد متطوعون توقف 85 مطبخاً من جملة 175 نتيجة ارتفاع الأسعار وتذبذب التمويل إلى جانب انقطاع المياه وصعوبة الوضع الأمني في المنطقة، خصوصاً أن معظم المطابخ تعتمد على دعم غرف الطوارئ القليل. وأشارت الغرف إلى أن توقف ذلك العدد الكبير من المطابخ قابله ارتفاع في أعداد الأسر التي تعاني سوء التغذية.

استغاثة تكية أم درمان القديمة

من جانبها، أطلقت تكايا منطقة أم درمان القديمة، نداءً عاجلاً لكل رجال الأعمال والخيّرين والمغتربين بحاجتها الماسة إلى تبرعاتهم ومساهماتهم ليس بالمال ولكن المساعدات العينية من المواد التموينية مثل العدس والدقيق والفاصولياء بعدما فوجئ القائمون على تلك التكايا بالأعداد الكبيرة التي تحتاج إلى الطعام.

وهذا كل طموح التكايا التي لا تزال صامدة في أم درمان، خصوصاً أن السكان بدأوا فعلياً بالعودة لأحياء المدينة القديمة لكن الإمكانات محدودة والحاجة كبيرة وتتزايد، وأعلنت مبادرة "سواعد الخير" أن الـ31 من يوليو الماضي كان آخر يوم لنشاط المطبخ التابع لها بعد عطاء دام أكثر من عام منذ اندلاع الحرب، بسبب عدم توافر المال اللازم لشراء المواد الخام.

نفاد المخزون

على نحو متصل، أعلنت غرفة طوارئ جنوب الحزام في الخرطوم عن توقف مطبخ منطقة الأزهري غرب الخيري الذي كان يوفر الوجبات لمئات الأسر، نتيجة انقطاع الدعم ونفاد مخزونه من المواد التموينية، بعدما ظل يقدم ما بين 100 ـ 250 وجبة يومياً، لم تكُن تكفي في الأساس جميع الأسر المحتاجة.

وعلى أمل عودة الدعم واستئناف المطبخ نشاطه الخيري مجدداً، ناشدت غرفة طوارئ جنوب الحزام في بيان لها المنظمات الإنسانية والإغاثية العالمية والمبادرات المحلية التدخل وتقديم الدعم لملايين الجوعى في ولاية الخرطوم.

 

 

وحذر البيان من توقف مطبخ الكبابيش أيضاً عن تقديم وجباته للجوعى بعدما ظل طوال خمسة أشهر مضت يقدم الوجبات بمعدل 120 وجبة في اليوم، إذ يعاني كذلك مع كثير من المطابخ في المنطقة المهددة بالإغلاق، تناقص الدعم المادي والمواد التموينية.

الأخطار والموارد

وفي منطقة الجريف غرب الخرطوم بحري التي تسيطر عليها قوات "الدعم السريع"، أوضحت غرفة الطوارئ أن المتطوعين تمكنوا من تقديم المساعدات الغذائية لمئات الأسر المتأثرة بالحرب، عبر 24 مطبخاً خيرياً موزعة على أحياء وحارات المنطقة تعمل طوال اليوم لضمان توفير الغذاء والمساعدات الأساسية للمواطنين المحاصرين، لتقدم لهم وجبات وسط جملة من الأخطار ونقص في الخدمات ومياه الشرب والموارد وصعوبة في التواصل.

وحول المناطق خارج سيطرة الجيش، أوضح مفوض العون الإنساني في ولاية الخرطوم خالد عبدالرحمن أن تلك المناطق يصعب إجراء تدخلات فيها لعدم تفهم "ميليشيات الدعم السريع" دواعي التدخلات الإنسانية، لذلك فإن غالبية التدخلات الإنسانية ضمن تلك المناطق تكون عن طريق المبادرات الشبابية الموجودة هناك.

صمود ولكن

في السياق، قال الريح عبدالقادر عضو لجنة الإشراف على "مشروع البليلة" الذي أنشئ بعد اندلاع الحرب بشهر واحد، إن تجربتهم بدأت محدودة ومحصورة على سكان منطقة بعينها، لكن سرعان ما تحولت إلى نموذج انتشر في مناطق أخرى عدة واجتذب كثيرين من المحتاجين.

 وشرح أن "مشروع البليلة" يقوم على التواصل مع الخيّرين داخل السودان وخارجه لتوسيع خدماته مع ارتفاع أعداد المستفيدين إلى ألف أسرة، مضيفاً أنه "على رغم المصاعب والعقبات لم يتوقف المشروع بفضل الصدقية التي اكتسبها لدى المانحين وتوافر البنية الأساسية من معدات مختلفة، إلى جانب أعداد الكوادر البشرية من المتطوعين، وأصبح كل المطلوب من الجهة الداعمة التكفل بالمواد الأساسية الغذائية، مما مكّن المشروع من الاستمرار وتفادي الانتكاسة التي حدثت لكثير من التكايا الأخرى".

غير أن المفارقة أنه ومع فتور الجهات المتبرعة، فإن أعداد المحتاجين ارتفعت بعد عودة مجموعات من سكان المناطق الآمنة، وتدفقات النازحين لاحقاً نحو هذه المناطق من ولايات الجزيرة وسنار وغيرها، مما شكل ضغطاً مهولاً عليها وعلى مواردها الشحيحة وتسبب في عجز التكايا واستنزاف كل المخزونات.

تدخل حكومي

على الصعيد نفسه، أوضح صديق فريني، مدير عام وزارة التنمية الاجتماعية في ولاية الخرطوم، "الوزير المكلف"، أن التكايا أصبحت منشطاً أساسياً في حياة الموجودين ضمن محلية كرري، ومن بينها ما يخدم ما بين ألفين إلى ثلاثة آلاف شخصاً، وأخرى تقدم وجبتين ويقدم بعضها وجبة واحدة، وأضاف أن الحكومة بعد حصرها للتكايا وتحديد أماكنها تدخلت لتنظيمها بمشاركة فاعلة من المجتمع، وهناك حتى الآن نحو 250 تكية قد يكون بعضها توقف عن النشاط، لكن في المقابل قد تكون هناك اثنتان أو ثلاث أو أربع تكايا دخلت الخدمة.

 

 

وأشاد الوزير المكلف بدعم السودانيين المغتربين أينما وجدوا في دول الخليج والمنطقة الأفريقية وآسيا أو روسيا أو أميركا، فأسهموا مع الأجهزة النظامية وعلى رأسها القوات المسلحة في بقاء المجتمع متماسكاً والمحافظة على حياة الإنسان في محلية كرري.

وعبّر فريني عن حزنه لفقد أرواح نتيجة الجوع في مرحلة من مراحل الحرب إثر حصار فرضته قوات "الدعم السريع" على المواطنين داخل أحيائهم ومنازلهم، بل إن كثيراً منهم باتوا عبارة عن هياكل عظمية نتيجة إنهاك الجوع في مشاهد محزنة للغاية.

وفيات الجوع

وحذر برنامج الأغذية العالمي من أنه وفقاً للتصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي، فإن هناك 13 منطقة في دارفور والخرطوم وكردفان والجزيرة معرضة لخطر المجاعة.

وقال المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة ستيفن دوجاريك مطلع أغسطس (آب) الجاري إن نحو 26 مليون شخص في السودان يعانون حالياً الجوع، من بينهم 755 ألفاً يعيشون في ظروف كارثية مع تسجيل وفيات مرتبطة بالجوع.

وأدت الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منذ أكثر من عام إلى تشريد ونزوح أكثر من 10 ملايين سوداني، فقد أكثر من نصفهم مصادر دخلهم بسبب توقف معظم القطاعات الإنتاجية والخدمية، من بينهم عشرات آلاف المزارعين الذين انهار الموسم الزراعي في مناطقهم.

المزيد من متابعات