ملخص
تشهد مدينة الرقة ومناطق مختلفة في شمال شرقي سوريا زيادة في تعاطي المخدرات على رغم تكثيف العمليات الأمنية لمكافحتها، وباتت مراكز العلاج من الأمراض النفسية والإدمان ضرورة ملحة للسكان.
يدخل جاسم العبد (اسم مستعار) يبلغ من العمر 30 سنة، برفقة أحد أقاربه إلى مركز "الأمل" الواقع وسط مدينة الرقة في شمال شرقي سوريا بحثاً عن علاج الإدمان على المخدرات التي بدأت تنخر جسده وقواه العقلية والنفسية.
يمتنع معظم المتعاطين للمخدرات في هذه المدينة التحدث عن كيفية تورطهم في هذه الآفة، ومنهم جاسم، وذلك خشية من وصمة قد تلاحقهم في مجتمعهم المحلي الذي خرج منذ أعوام قليلة من سيطرة تنظيم "داعش" بعدما حل الدمار في الأرجاء ولا تزال آثاره ماثلة للعيان على رغم كثرة مشاريع إعادة الإعمار وبرامج إعادة الحياة إليها.
وتفتقد هذه الظاهرة المنتشرة إلى حصر أعداد شاملة لعدد المتعاطين بها، مثل بقية البلدان، لكن ثمة تداولاً كبيراً في الأوساط الشعبية وحتى الرسمية أحياناً من انتشار تعاطي المخدرات بين الفئات المختلفة من المجتمع. ويعزو بعض أسباب انتشارها لسوء الأوضاع الاقتصادية والمعاشية وقلة فرص العمل إلى جانب ما خلفته الحرب في نفوس أبناء المدينة بعد سيطرة التنظيم عليها وارتكاب القتل والعنف في حق السكان، ولاحقاً الحرب على التنظيم التي لا تزال كل مخلفاتها شاهدة على تلك الحقبة.
وفي المقابل وباعتبارها من مفرزات الأحداث الكبيرة في المدينة التي يبلغ عدد سكانها وريفها القريب أكثر من مليون شخص، لا سيما بعدما أصبحت مكاناً لنزوح سوريين من مناطق النظام والمعارضة على حد سواء، إضافة إلى سكانها ونازحين آخرين جراء العمليات العسكرية التركية، فإن الصحة النفسية أيضاً تدهورت في المدينة، وتُقدِّر منظمة الصحة العالمية أن سورياً واحداً من بين كل 30 يعاني حالات نفسية شديدة، من قبيل الاكتئاب أو الذُّهان أو أي صورة من صور القلق، وأن سورياً واحداً من بين كل خمسة يعاني حالات نفسية متوسطة إلى معتدلة، من قبيل الاكتئاب المتوسط إلى المعتدل أو الاضطرابات الناجمة عن القلق.
ومن دون أدنى شك، فإن عدداً من الأهالي يبحثون عن طريق النجاة من الأزمات النفسية التي تصيب أبناءهم والتي تترافق مع عواقب جسدية مؤلمة لاسيما بالنسبة إلى أولئك الذي يتعاطون المخدرات منذ فترة طويلة، وتكثر الحالات المذكورة بين المراهقين في المدينة.
وعلى رغم إطلاق الجمعيات والمنظمات المدنية غير الحكومة مشاريع توعوية تحذر من أخطار الإدمان وحملات تتضمن لقاءات مع الأهالي ونشر رسومات ومناشير في أرجاء المدينة، إلى جانب مشاريع عدة في تقديم الرعاية والدعم النفسي، فإن جهود المركز شبه غائبة عن المدينة، بحسب ناشطين في المجال.
فكرة افتتاح المركز
خلال الأشهر القليلة الماضية صادف الطبيب فراس ممدوح الفهد، وهو صاحب مشروع عيادات خيرية في المدينة، حال إدمان يعانيها مراهق يتيم أرسل إلى خارج مناطق الإدارة الذاتية للعلاج، لكن أحد المراكز في العاصمة دمشق رفض معالجته بالمجان، لتكون قصة هذا الفتى المحفز الرئيس للطبيب الفهد الذي سارع إلى تأسيس مصح للأمراض النفسية وعلاج الإدمان، خصوصاً أنه لا توجد أي مستشفى أو مركز من هذا النوع في عموم مناطق شمال شرقي سوريا.
وبحسب رواية مدير المركز الفهد، فإن الخطوات الأولى لافتتاح المركز الطبي بدت صعبة في البداية واعتبر بعض من استشارهم في المجال الطبي أنه "يستحيل افتتاح مثل هذا المشروع بسبب مخاوف غير منطقية مثل منعه من قبل تجار المخدرات وتجار الحروب"، لكن السلطات المعنية في الإدارة الذاتية رحبت بفكرته ومنحته رخصة افتتاح أول مركز متخصص لعلاج الإدمان والأمراض النفسية وذلك بعد إتمام الشروط الفنية والعلمية المطلوبة، بحسب الفهد.
واتخذ المركز من أحد المنازل (فيلا) في الحي القريب من مستشفى الطب الحديث، ويضم تسع غرف تأوي أسرة المرضى المقيمين فيه إلى جانب صيدلية مرخصة تحوي أدوية العلاج النفسي والإدمان، كما خُصص في المبنى مكان لمعالجة المدمنات أيضاً.
حالات شفاء تام
ويشرف على علاج المرضى في هذا المركز ثلاثة أطباء متخصصين في معالجة الأمراض النفسية والإدمان إلى جانب كادر تمريضي. ومنذ افتتاحه في مايو (أيار) الماضي وحتى بدايات أغسطس (آب) الجاري، زاد الإقبال عليه، مما دفع بالإدارة إلى تجهيز الغرف الموجودة لتتسع لـ40 مريضاً دفعة واحدة، كما أن 40 حالة إدمان من المخدرات شفيت تماماً خلال فترة علاجها في مركز "الأمل" حتى الآن.
علاجات عدة
وفي بيئة اجتماعية محافظة، يعمل المركز وفق أصول المهنة وبسرية تامة لجهة التكتم على سرية البيانات والمعلومات الشخصية للمتعالجين، كما أن أسلوب العلاج يتطلب الإقامة في المركز تحت المراقبة والإشراف الذي تستدعيه شدة المرض، وتراوح ما بين خمسة إلى 10 أيام وذلك بناءً على تخليص جسم المريض من المادة التي يتعاطاها، وفي كلا الفترتين تعتبر المدة قصيرة نسبياً وذلك في مسعى إلى توفير الكلفة المالية على المريض، كما أن مدة الإقامة والخضوع للعلاج في المركز يعتمدان على نوعية المواد التي يتعاطاها الشخص والعمر والجنس والمدة التي كان يتعاطى فيها المريض، إضافة إلى الأمراض العضوية المرافقة بحسب الطبيب المعالج محمود بدرخان المتخصص بالأمراض النفسية ومعالجة الإدمان.
غالبية الحالات التي ترتاد المركز تعاني اضطراب القلق واضطراب ما بعد المرض واضطراباً اكتئابياً والذهان (انفصام الشخصية) ثنائي القطب وغيرها وتتم المعالجة من طريق الدواء أكثر من السلوكية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في حين أن المتعاطين الذين خضعوا للعلاج كانوا يتعاطون أنواعاً مختلفة من المخدرات مثل الكريستال والمنشطات العصبية والمواد التي تحوي البينزوديازبينات والبيوغابالين (أسماء لمواد مخدرة) والحشيش، في حين أن بعض المرضى تكون معقدة تتداخل فيها الاضطرابات النفسية مع التعاطي المزمن.
ويشدد بدرخان أن الخضوع للعلاج يتطلب أن يكون المريض قد قرر وأصبح على قناعة ويريد التخلص من الإدمان من دون إكراه، وينوه إلى أن العلاجات متوفرة في المركز بصورة عامة كما أن فترة ما بعد الاستشفاء وسحب المادة من جسم المتعاطي تتطلب مراجعة المركز بصورة دورية وعلى فترات محددة لمتابعة وضع المريض "لا سيما أنه يخرج من المركز بوصفة طبية لأدوية محددة يفترض أن يتناولها المريض بصورة منتظمة، وتتغير مع تطور حالة الشفاء للحفاظ على مستوى التعافي".
يولد من جديد
ويركز الطبيب النفسي على أن الشخص يبدأ خلال فترة العلاج باستعادة نشاط حياته الطبيعية وبالعادة يسعى إلى إحداث تغيير فيها مقارنة بفترة تعاطيه، وكأنه "ولد من جديد في الحياة".
كما أن الإدمان يسيء لشخصية المتعاطي ومكانته في المجتمع، وقد يسبب في إفقار أشخاص كانوا أغنياء قبل التعاطي "فهو آفة حقيقية على جميع المستويات الشخصية والعائلية والمجتمعية، وهو نشوة آنية تنعدم مع الوقت ويترك الشخص كل شيء في حياته وحياة من حوله ويصبح همه الأساس كيفية الحصول على المادة التي يتعاطاها مهما كلفه ذلك".
المخدرات تقلق المنطقة
ويقلق انتشار المخدرات قوى الأمن الداخلي "الآسايش" في الإدارة الذاتية، وعلى رغم أن نظرتها تجاه الإتجار بها وتعاطيها جزء من مشكلة عامة سواء في سوريا أو دول العالم، فإن مصدر القلق هذا نابع من انتشار الآفة بين فئة الشباب مما يعوق نهوض المجتمع وفق قول المسؤول في شعبة مكافحة المخدرات التابعة لـ"الآسايش" حسن كانو، إذ يعتبر أن هذه المواد المخدرة تزيد معدل الجريمة والعنف في منطقة شمال شرقي سوريا.
ليست الرقة وحدها
وفي اليوم العالمي لمكافحة المخدرات، أعلنت قوى الأمن الداخلي وتحديداً الإدارة العامة لمكافحة المخدرات، عن حصيلة عملها لعام كامل في ضبط ومحاربة المخدرات في عموم مناطق سيطرة الإدارة الذاتية، إذ بلغ عدد الملفات 2387 ملفاً، وأدى إلى إيقاف كامل المتورطين ما بين الإتجار والترويج والتعاطي والذي بلغ عددهم 3485 موقوفاً، في حين بلغت الكميات المضبوطة 41 ألفاً و622 كيلوغراماً من الكريستال الميث و272 ألفاً و575 كيلوغراماً من الحشيش، و275 سيجارة حشيش، و16 ألفاً و241 من الحقن المخدرة، و3 ملايين و92 ألفاً و742 حبة كبتاغون، و70 ألفاً و700 حبة من أنواع مختلفة، و570 غراماً من مادة الهيروين، و35.5 غرام ونصف من الكوكايين، و541 شتلة من نبتة الحشيش، وألف و745 كيلوغراماً من بذور الحشيش، و117 غراماً من مادة غبار الحشيش، وألف و849 كيلوغراماً من زيت الكبتاغون، إضافة إلى مجموعات كبيرة من أدوات التعاطي.
العضو في قوى الأمن الداخلي يعتبر أن حربهم على المخدرات ومكافحتها في شمال شرقي سوريا، لا تقل أهمية عن مواجهة الإرهاب، "بل إن المخدرات أحد أوجه الإرهاب في المنطقة"، وفق تعبيره. ويعيد كانو سبب انتشار المخدرات في الرقة بالتحديد إلى عهد تنظيم "داعش" بغية السيطرة على المجتمع، في حين أن عمليات "الآسايش" باتت مكثفة ضد مروجي المخدرات وتجارها في المنطقة وخصوصاً في ريف دير الزور، مما أدى إلى ضبط كميات كبيرة خلال الفترات السابقة، في حين أن العمليات تبقى مستمرة وتبقى مكافحة هذه الآفة هدفاً رئيساً لقوى الأمن الداخلي وخصوصاً في الرقة على وجه التحديد، وفق المسؤول في "الآسايش".