Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التحديات التي يواجهها النقد الثقافي في قراءة الشعر القديم

هشام زغلول يستعرض قضية الحداثة والتراث من جوانب عدة

من حروفيات الرسام ضياء العزاوي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

تعددت المناهج النقدية في مقاربة ذخائر الشعر العربي، سواء كان جاهلياً أو منتمياً للعصرين الأموي والعباسي، بدءاً من التفسيرات اللغوية البسيطة عند حسين المرصفي، ومروراً بالمناهج التاريخية والنفسية والأسلوبية وانتهاء بالبنيوية والتفكيكية. ولا شك أن النقد الثقافي هو أحدث هذه المناهج، وربما أكثرها رحابة واستعارة، حسب رؤيته وإجرائياته، من بعض منجزات المناهج السابقة.

من الكتب المهمة التي ظهرت حديثاً في حقل النقد الثقافي كتاب "تحديات النقد الثقافي في قراءة الشعر القديم" (الهيئة المصرية العامة للكتاب) لهشام زغلول الذي ترجم من قبل أحد أهم الكتب الرئيسة في النقد الثقافي لفنسنت ليتش. أما كتابه الجديد فهو استعراض واع لأهم تيارين في هذا النقد وهما: التيار الذي أسسه السعودي عبدالله الغذامي، ويقوم على إيضاح النسق المضمر الدال على العقلية العربية ورؤيتها للعالم، والمتخفي خلف ستار من الجماليات المجازية الجاذبة. فالغذامي يتخذ من الشعر تحديداً مادة خصبة للوصول إلى بنية العقل العربي في استعلائها على الآخر، المغاير دينياً أو مذهبياً أو نسباً أو لوناً أو جنساً، كما يبدو في رؤيته للمرأة بخاصة في العصر الجاهلي. وتبعه تلاميذ كثر لم يلتفتوا إلى جماليات النص الشعري، بعد إعلانهم "موت النقد الأدبي" وحلول النقد الثقافي مكانه. أما التيار الثاني فقد تزعمه الأردني عبدالقادر الرباعي، بوضع كتابه الأم في هذا الاتجاه "جماليات الخطاب في النقد الثقافي". هذا التيار الجديد المتحاور مع أطروحات الغذامي دفع بعض الكتاب إلى القول بأنه "يدير دفة النقد الثقافي". ومع ذلك، فأنا لست مع اختزال النقد الثقافي في شخص هذا الناقد أو ذاك، بقدر ما يشغلني أنه أصبح منقسماً على نفسه ومجدداً رؤاه.

التجديد دائماً

ومن هنا تأتي أهمية كتاب هشام زغلول الذي استفاد من كل الإسهامات الفارقة في هذا المجال، واتخذ نهجاً خاصاً به، كما أنه "يجنح لقراءة النصوص النقدية من داخلها، لا من خارجها، أي نقدها وفق ما تبنته وارتضته مدخلاً للقراءة". يرى زغلول أن التيارات النقدية الحديثة لم تكف عن فعل التجديد طوال عقود متتالية، لكنه يلاحظ أن بعضها كان مجرد تحوير طفيف لمقولات الموجة السابقة. ومع ذلك تظل هناك محطات كبرى منضوية على طاقات أكثر جذرية وعمقاً، وهي بذلك تمثل رؤية نقدية تثويرية تسعى إلى أن تتحول كلياً بدفة الخطاب النقدي عن مساراته المألوفة إلى مساحات محدثة من القراءة. ويعد النقد الثقافي، على رغم كل ما يثيره من إشكالات، في طليعة هذه المحطات النقدية الكبرى. وبعد مضي ما يزيد على عقدين من تلقينا للنقد الثقافي فإننا في حاجة ماسة إلى مراجعته، وهو ما فعله زغلول على مدى أبواب الكتاب الثلاثة التي تدور حول تيمات المقاربة الثقافية، مروراً بتياراتها المختلفة، وانتهاء بأهم مزالقها وأبرز إشكالاتها. وهو يقوض في كل ذلك التراتب التقليدي بين النظرية والممارسة، ويشايع الرباعي وتلاميذه الذين ضفروا الثقافي بالأدبي/ الجمالي. وفي رأيي أن الجمالي ليس محايداً أو مجرد وشاح لأنساق مضمرة، فهو، بنفسه، دال على رؤية الشاعر. فعندما يخاطب صلاح عبدالصبور - مثلاً - حبيبته بـ"يا صديقتي"، فإن ذلك يعد نقلة حضارية في علاقة الرجل والمرأة تقوم على الندية، كما أن اختيار قصيدة النثر يعد موقفاً رؤيوياً وجمالياً في الوقت نفسه.

تأويلات مغلوطة

في مبحث "أنساق الفحولة"، يؤكد هشام زغلول أن هذا المصطلح قديم قدم الثقافة العربية، وأن حقوله الدلالية بالغة التنوع والثراء، فهو يشمل الفحولة المادية التي انسحبت من الحيوان إلى الإنسان، والفحولة المعنوية التي منها فحولة اللغة والفحولة الشعرية. ويلاحظ أن بعض النقاد الثقافيين توسعوا في مفهوم "الفحولة" فقسموها إلى ضربين: الفحولة الفردية المقترنة بالأشخاص، والفحولة الجمعية المقترنة بالقبيلة. ويتوقف زغلول في هذا السياق أمام بعض التأويلات المغلوطة، ومن ذلك ما ذهب إليه البعض من أن انكسار الشاعر العذري وضعفه أمام حبيبته، هو من أنساق الفحولة على رغم ما يصاحب هذا الضعف والانكسار من سخرية الآخرين وإشفاقهم. فكيف يستقيم هذا مع وصف العاشق العذري بالفحولة؟ وقريب من هذا ما يراه أحد الباحثين من أن "عينية" أبي ذؤيب، توحي بتضخم الذات، وهو عكس ما نرى فيها من توجع وتفجع. ولا تفسير لهذه التأويلات المغلوطة سوى السعي الدائم إلى إثبات أن هناك نسقين: ظاهراً ومضمراً، يقومان مقام الضدين المتصارعين. وهذا ما جعل بعض الباحثين يفسر ما يمتدح به الرجل من شجاعة وجلد وإكرام للضيف بأنها من "قبيل الفحولة الثقافية التي يقصد بها ضرب من البارانويا أو تضخم الذات". وما أراه هو أن هشام زغلول وقع أحياناً في ما يمكن تسميته ـ "الإفراط التأويلي"، وهو تحميل النص فوق ما يحتمل. ومن ذلك توقفه أمام ريح الجنوب وريح الشمال في معلقة امرئ القيس، إذ إنه يرى بينهما مفارقة بين ما تركته ريح الجنوب في ذاكرة الشاعر من صراع مع النسق المضاد/ القبائل المعادية، وريح الشمال التي رآها رمزاً للسلطة المسلوبة من الشاعر. وأرى في ذلك غلواً، لأنه لم يعتمد على إشارات دالة داخل النص الشعري، وهذا شرط أساسي لصحة أي تأويل في الشعر أو النثر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

تعد "السلطة" أحد المفاهيم المهمة التي حظيت بأهمية كبيرة في الممارسات الثقافية، وذلك حين تركز هذه الممارسات على التمثيلات الأدبية للأيديولوجيا المعززة لنفوذها. والقبيلة هي أحد أنساق هذه السلطة في بنائها على ما يسمى حديثاً بـ"العقد الاجتماعي". وفي ضوء ذلك، يمكننا أن نفسر هيمنة الـ"نحن" على الـ"الأنا" في النظام القبلي وفي الشعر. ولعل معلقة عمرو بن كلثوم خير مثال على ذلك، وارتباط الشاعر/ المادح بنسق الجماعة أكثر من كونه طالباً للعطاء. ويقسم الباحث أنساق القبيلة هكذا: جائرة وغادرة ومناصرة. على أنه ينبغي الاستدراك لنقول إن شخصية الشاعر لم تكن ذائبة بالكلية في القبيلة، وهذا ما يفسر - مثلاً - مأزق طرفة بن العبد مع قبيلته في تمسكه بفلسفة اللذة التي كانوا رافضين لها.

وإذا ما اتفقنا على أن الأنثى تمثيل رمزي - في بعض الأحيان - للقبيلة، فسنلاحظ تعدد صور هذه التمثيلات طبقاً لعلاقة بها فنرى: القبيلة/ الأنثى العازلة كما في قول الشاعر: "تعيرنا أنا قليل عديدنا/ فقلت لها إن الكرام قليل". إن الشاعر هنا لا يعتد بالكثرة بل بالمنعة والكرم، ثم تأتي القبيلة/ الأنثى المستباحة، وهذه الصورة ظهرت كثيراً في شعر امرئ القيس الذي تجاوز أحراساً ومعشراً حراصاً على قتله حتى يصل إليها. وثالثاً السلطة/ الأنثى المخاتلة، ومثلتها ابنة عم أبي فراس، كما يبدو في قوله "فلا تنكريني يا ابنة العم إنه/ ليعرف من أنكرته البدو والحضر". ومن الوارد أن نعتبر ابنة العم - هنا - تمثيلاً رمزياً لسيف الدولة الذي خذل الشاعر ولم يسعفه في أسره. وأخيراً: السلطة/ الأمة الخرقاء، ويظهر هذا في علاقة المتنبي مع السلطة الإخشيدية وأساليبها في التعامل معه حين يقول "جوعان يأكل من زادي ويمسكني/ لكي يقال عظيم القدر مقصود".

الأنساق المهمشة

 ويبقى أن نشير إلى ما قدمه هشام زغلول عن الأنساق المهمشة والممثلة في "الهجين"، الذي لا يتمتع بنقاء النسب العربي والأسود والعبد. ومعنى ذلك أن التهميش نابع من عنصرية اللون أو النسب أو كليهما، ومثل الباحث لذلك بأشعار عنترة بن شداد والسليك بن السلكة والشنفري، وقد عرفوا جميعاً بأغربة الشعراء لسواد لونهم. يضاف إلى ذلك ما يسمى القهر الجنسي - نسبة إلى الجنس بمعنى النوع - الذي يقع على المرأة ويهمشها. هذا كتاب مهم للقارئ العام، ولمن يريد التوسع في معرفة النقد الثقافي بتنويعاته وإجراءاته وقضاياه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة