Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أسباب التصعيد الإسرائيلي الأخير

المخاطرة بتنفيذ الاغتيالات محاولة يائسة لاستعادة القدرة على الردع

تظاهرة في لبنان إثر اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية (رويترز)

ملخص

بعد الإحراج الذي تعرضت له إسرائيل عقب السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يمكن لتغطيات الإعلام الغربي لواقعتي الاغتيال الأسبوع الماضي أن تعطي انطباعاً يشير إلى استعادة الجيش الإسرائيلي قوته ومناعته من جديد. لكن هذه التأويلات في الحقيقة تسيء قراءة الوقائع الصعبة التي تواجهها إسرائيل.

لقد تجاوز الصراع المستمر منذ 10 أشهر بين إسرائيل و"حماس" في غزة منذ زمن رقعته الجغرافية المحلية، مما أدى إلى تصعيد عسكري كبير في جميع أنحاء الشرق الأوسط – منها مناوشات مميتة على طول الحدود الإسرائيلية – اللبنانية، وهجمات حوثية في البحر الأحمر وعلى تل أبيب، وهجمات تنفذها ميليشيات حليفة لإيران ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا، وحتى صدام مباشر بين إسرائيل وإيران. ثم وفي غضون 24 ساعة خلال الأسبوع الماضي، أعلنت إسرائيل مسؤوليتها عن اغتيال القائد العسكري بـ"حزب الله" فؤاد شكر في بيروت رداً على هجوم صاروخي نفذه "حزب الله" في مرتفعات الجولان. كذلك يفترض أن تكون إسرائيل وراء مقتل رئيس المكتب السياسي لـ"حماس" إسماعيل هنية في طهران. وقد جاءت تلك الضربتان المتتاليتان اللتان وجهتهما إسرائيل لتدفع مراقبين كثر إلى التخوف من نشوب صراع إقليمي أشد تدميراً.

ولكن لماذا تصعد إسرائيل الآن على هذا النحو المحفوف بالمخاطر؟ الهجمات الأخيرة التي نفذتها إسرائيل للتأكيد، ليست بحد ذاتها جديدة وغير مسبوقة. إذ لهذا البلد سجل حافل في عمليات اغتيال قادة فلسطينيين وقتلت المئات من مقاتلي "حزب الله" في لبنان وسوريا. وأظهرت إسرائيل منذ زمن قدرات استخباراتية سمحت لها بالاختراق عميقاً داخل إيران. ولم تؤد جولات التصعيد التي شهدناها على مدى الأشهر الـ10 الماضية إلى حرب إقليمية شاملة، بيد أن جهود تخفيف التصعيد والاحتواء المرتقبة لن تكون مضمونة دائماً. إذ كل حسابات عقلانية تظهرها أية دولة وتؤثر ضبط النفس يمكن تجاوزها فجأة عبر وقائع على الأرض، فيؤدي الأمر إلى أخطاء غير محسوبة أو حتى إلى قرارات استراتيجية مدروسة تهدف إلى إشعال نزاع أوسع. وقد أتت الهجمات الإسرائيلية خلال الآونة الأخيرة بوتيرتها وطبيعتها لتزيد على نحو دراماتيكي أخطار تصعيد أكثر جدية. ويفهم قادة إسرائيل من دون شك أن الاغتيالين المتتاليين لشكر وهنية – وحقيقة أن طريقة اغتيال الأخير في طهران بلغت بإذلال إيران إلى حده الأقصى – يرجح أن يدفعا طهران وربما الجماعات المسلحة الأخرى التي تدعمها إلى الرد.

لكي نفهم العقلية الإسرائيلية الحالية من الضروري أن ندرك التحول الكبير في نفسية البلاد منذ السابع من أكتوبر

 

وقد مالت تغطيات الإعلام الغربي لواقعتي الاغتيال الأسبوع الماضي إلى إبراز البراعة العسكرية والتكنولوجية التي تتمتع بها إسرائيل في تنفيذ هجمات متطورة في عمق أراضي العدو. فبعد الإحراج الذي تعرضت له إسرائيل عقب السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 يمكن لهذه التوصيفات والتغطيات أن تعطي انطباعاً يشير إلى استعادة الجيش الإسرائيلي قوته ومناعته من جديد. لكن هذه التأويلات في الحقيقة تسيء قراءة الوقائع الصعبة التي تواجهها إسرائيل. إذ إن الأخيرة ربما تقوم بتخطي الحدود في العمليات التي تنفذها بالمنطقة ليس لأنها تشعر بالقوة، بل لشعورها بالضعف. وهي على نحو أساس لا تعتمد في قراراتها سوى على القليل من الحسابات الاستراتيجية بعيدة المدى. إذ إن هجوم "حماس" خلال السابع من أكتوبر 2023 ألحق بصورتها الردعية ضربة قاصمة. وإسرائيل الآن، المستعدة لخوض أخطار أكبر وتحمل كلف أعلى تسعى إلى امتلاك مزايا تكتيكية متى استطاعت، وذلك في محاولة محمومة لاستعادة قوتها الردعية (المفقودة).

عامل الخوف

ولكي نفهم العقلية الإسرائيلية الحالية من الضروري أن ندرك التحول الكبير في نفسية البلاد منذ السابع من أكتوبر. فقبل هجوم "حماس" كانت إسرائيل في قمة ثقتها معتقدة أن الدول العربية ستقبلها من دون حل الصراع الفلسطيني، وأنها قادرة على ضرب إيران وحلفائها من دون عواقب تذكر، وكل هذا في حين تحافظ على الدعم القوي من جانب الولايات المتحدة. ولكن هذه الثقة تحطمت فجأة مما جعل إسرائيل تشعر بالضعف الشديد. ففي زيارة إلى تل أبيب أواخر يونيو (حزيران) الماضي أخبرني خبراء الأمن ومسؤولو الدفاع السابقون مراراً وتكراراً أن السابع من أكتوبر غير بصورة جذرية وجهة نظر إسرائيل في شأن قوتها. فقد عمل هجوم "حماس" على تفكيك بعض الافتراضات الأساس التي كان الإسرائيليون يؤمنون بها، وهي أن تفوقهم العسكري والتكنولوجي من شأنه أن يردع الأعداء وأن الحدود الآمنة من شأنها أن تحافظ على سلامتهم وأن الرخاء الاقتصادي يمكن أن يتحقق من دون إحراز تقدم كبير في السلام مع الفلسطينيين. والآن هناك اعتراف متزايد داخل المؤسسة الأمنية بأن "إسرائيل ليست قوية إلى هذا الحد"، كما قال أحد مسؤولي الأمن القومي السابقين بصراحة.

كذلك فإن إسرائيليين كثر ممن يحللون مسائل الأمن القومي أو يعملون في هذا الحقل يشعرون بالغضب من حكومتهم بسبب إخفاقها الأمني الشامل خلال السابع من أكتوبر، وما تلاه. وهم غاضبون أيضاً من عدم محاسبة المسؤولين الذين فشلوا في حماية البلاد. وتسود في هذا السياق مواقف انعدام ثقة بالحكومة. وعلى رغم أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو حاز تصفيقاً حاراً حين ألقى كلمة أمام الكونغرس الأميركي خلال يوليو (تموز) الماضي، فإن مستشاره للأمن القومي تزاخي هانيغبي كاد لا يلقى موقفاً مؤيداً واحداً عندما تحدث في مؤتمر للأمن الإسرائيلي بـهرتزيليا قبل أسابيع من كلمة نتنياهو. إذ قام أفراد من جمهور المؤتمر بمقاطعته مراراً واتهموا الحكومة بتجاهل أمن إسرائيل وخذلان الرهائن الذين ما زالوا قابعين في غزة.

كذلك ثمة اعتقاد سائد داخل إسرائيل اليوم يرى أن نتنياهو ربما يطيل أمد الحرب من أجل مصلحته السياسية. ويعكس هذان التوتر والغضب تحديات داخلية حقيقية وملموسة للأمن القومي الإسرائيلي. فقوات جيش الدفاع الإسرائيلي منتشرة على نحو متفرق في جبهات متعددة من غزة إلى الضفة الغربية وشمال إسرائيل وغيرها من المناطق الأبعد. وسبق لمحاولة نتنياهو إصلاح السلطة القضائية في البلاد خلال النصف الأول من عام 2023 أن أدت إلى خلق انشقاقات جدية بين القادة المدنيين وقيادة الجيش العليا. إذ في رد فعل على اندفاعة ائتلاف نتنياهو حينها قام آلاف من أفراد الاحتياط في الجيش الإسرائيلي بالتهديد بعدم أداء واجبهم في الخدمة. ويواجه الجيش في السياق عينه تهديدات غير مسبوقة من متطرفين داخليين، بينها تهديدات صادرة من مواقع في الجيش نفسه ومن أوساط حكومية. وقبل أسبوع فقط اقتحم ناشطون وسياسيون من اليمين المتطرف إحدى قواعد الجيش الإسرائيلي للاعتراض على توقيف جنود احتياط متهمين بسوء معاملة سجناء فلسطينيين. وفي إطار متصل تعاني إسرائيل من حال نزف مستمر لجهة الدعم الدولي الذي تلقاه، وذلك بسبب الحصيلة الهائلة لعدد القتلى في غزة والدمار اللاحق بالقطاع، كما تواجه أيضاً بالمحافل القضائية في لاهاي تدقيقاً متزايداً بطريقة شنها للحرب وباحتلالها المستمر للضفة الغربية الفلسطينية.

أكاذيب أبريل     

لقد تم التقليل من شأن تأثير الهجوم الإيراني على إسرائيل خلال أبريل (نيسان) إلى حد كبير خارج البلاد. إذ من الواضح أن إسرائيل أخطأت في تقدير الموقف عندما استهدفت قادة في قوات الحرس الثوري الإيراني بمبنى في دمشق يعده الإيرانيون موقعاً دبلوماسياً. وهي لم تتوقع من إيران ردة فعل مباشرة غير مسبوقة وبهذا الحجم، استخدمت فيها مئات الطائرات المسيرة والصواريخ التي أطلقت على إسرائيل من الأراضي الإيرانية. وعلى رغم تقدير الإسرائيليين للغطاء الدفاعي المتطور والمنسق بقيادة الولايات المتحدة والذي صد الهجوم فإن الأمر شكل طعناً في صورة الإسرائيليين التي تقدمهم كطرف يعتمد عن نفسه. وقد طغى على أي شعور بالانتصار عند الإسرائيليين آنذاك ناقوس خطر مصدره أن إيران أقدمت على هذا الهجوم الخطر في المقام الأول، وقلق من ألا يكون صد الهجوم اللاحق (الذي قد تقوم به إيران) بهذه السهولة. وقد شعر المحللون الإسرائيليون بالرضا من أن الرد الإسرائيلي – الذي تمثل بغارة محدودة على قاعدة عسكرية إيرانية في أصفهان استهدفت نظام دفاع جوي – أظهر قدرة إسرائيل على ضرب أهداف دقيقة داخل إيران، بما في ذلك مواقع قريبة من المنشآت النووية الإيرانية.

لكن المسؤولين العسكريين الإسرائيليين لا يشعرون بالضرورة بالارتياح تجاه الاعتماد على "الردع بالإنكار" – وهي استراتيجية تهدف إلى منع الخصوم من الهجوم من خلال إقناعهم بأن جهودهم ستفشل – وهذا النهج مفضل لدى الولايات المتحدة ويركز على بناء أنظمة دفاعية قوية يمكنها إحباط أو تحييد أي هجوم، بالتالي تثبيط العدو عن المحاولة. وفي رأي أولئك المسؤولين فإن الدفاع عن إسرائيل خلال أبريل لم يمثل نجاحاً مطلقاً، لأن التحالف الدفاعي في نهاية المطاف لم يمنع حصول الهجوم من أساسه ولم يقم إلا بالحد من أضراره. بل إن المخططين العسكريين الإسرائيليين يفضلون الردع من طريق المعاقبة – أي الإظهار للأعداء أن الهجمات ستستدعي عواقب (مكلفة). ويشعر عديد من المحللين الأمنيين الإسرائيليين بالقلق إزاء تآكل موقع إسرائيل الإقليمي، ويخشون من تزايد قوة إيران وحلفائها ومن تصاعد دوافع إيران لعسكرة قدراتها النووية إن شعرت طهران بأن قدرتها غير كافية لردع إسرائيل عبر الطرق التقليدية. فهم يعتقدون أن الجمهورية الإسلامية تدفع إلى مركز الدرجة الثانية بين الدول فيما هي تحاول بلوغ "رابطة الأبطال"، وفق تعبير أحد مسؤولي الأمن القومي السابقين، فيما إسرائيل في المقابل تخسر قوتها الردعية "بمستوى لم نشهده من قبل"، وفق تعبير مسؤول سابق آخر في الأمن القومي. لكن على رغم هذا تستمر القيادة السياسية الإسرائيلية بالقول لشعبها إن بلدهم يحقق الانتصار.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لقد أدى الهجوم الإيراني خلال أبريل إلى تفاقم شعور الإسرائيليين بأن "روح" الشرق الأوسط تغيرت بصورة جذرية. فأعداء إسرائيل برأي الإسرائيليين قد يفكرون الآن بأن تدمير هذا البلد في الحقيقة بات هدفاً واقعياً. ربما هذا خوف مبالغ به – إذ لدى إسرائيل القدرات العسكرية الأكثر تطوراً في المنطقة وما زالت تحظى بالدعم القوي من الولايات المتحدة وغيرها من القوى الغربية في معركتها ضد إيران. إلا أن محللين إسرائيليين متشائمين باتوا يعبرون اليوم عن قلقهم إزاء خطر وجودي يرونه مختلفاً عن أي خطر يمكن أن يكونوا قد واجهوه منذ استقلال البلاد عام 1948. لكن على عكس الحال في الـ1948 وفق ملاحظة أحد مسؤولي الأمن القومي السابقين، فإن إسرائيل لا تستجيب اليوم للدروس التي تعلمتها من رئيس وزرائها الأول ديفيد بن غوريون. إذ إن السبيل الأمثل لتعويض الضعف يتمثل بتقوية التماسك الاجتماعي وتعميق العلاقات الدبلوماسية والسعي إلى السلام، وفق ما أوصى بن غوريون، فيما إسرائيل راهناً تتحرك بالاتجاه المعاكس في مختلف تلك الجبهات.

في مسار التشدد      

خلال زيارتي إلى إسرائيل قال لي أحد المسؤولين السابقين في الحكومة إن "الأرض تتبدل تحت أقدامنا". الأمر صحيح من نواح عديدة، ومن نواح أخرى يبقى مجرد تصور وصورة معاكسة للثقة الزائدة بالنفس التي كان يشعر بها الإسرائيليون قبل السابع من أكتوبر. لكن بالنظر إلى تصور وواقع الضعف المتزايد – وثقة الإسرائيليين بأنهم سيحتفظون بدعم الولايات المتحدة – فإن من المرجح بقاء موقف إسرائيل العدواني تجاه المنطقة، حتى لو أدى ذلك إلى زيادة خطر اندلاع حرب إقليمية أوسع. إذ بعد صدمة السابع من أكتوبر قد يكون قبول المجتمع الإسرائيلي بالواقع الخطر ورغبته في القيام بأفعال هجومية ارتفعا بدورهما أيضاً. وكما قال لي محلل إسرائيلي فإن "كل شيء بات يمكن تخيله الآن". لكن إسرائيل تتجه نحو الانهيار من دون أية استراتيجية سياسية. إذ إن المراهنة كلياً على القوة العسكرية المجردة لاستعادة الهيبة الردعية وخوض المواجهة مع إيران وحلفائها من دون خطة سياسية أو استراتيجية، لن تغير على الأرجح الديناميكيات الصاعدة في المنطقة والتي تقلق المخططين العسكريين الإسرائيليين. ومن غير المرجح أن تردع إسرائيل أعضاء "محور المقاومة"، الذين بدورهم قد يضاعفون أساليبهم غير المتوقعة ويفاجئون إسرائيل مرة أخرى.

إنهاء الحرب في غزة سيسهم بالتأكيد في تخفيف التهديدات الهائلة التي تواجهها إسرائيل الآن، على رغم عدم ترجيح أن تؤدي جولة التصعيد الراهنة إلى تقريب احتمال الوصول لاتفاق وقف إطلاق نار أو إلى الإفراج عما تبقى من رهائن إسرائيليين. لكن حتى توقف الصراع في غزة لن يحل كلياً المعضلة الاستراتيجية الأكبر أمام إسرائيل. وإن كانت إسرائيل ما زالت ترى أن إدماج نفسها بصورة أكمل في الشرق الأوسط عبر عقد اتفاقات تطبيع مع جيرانها العرب سيهمش الجماعات المتطرفة المدعومة من إيران ويقلص العداء للدولة العبرية، عليها أن تتصالح مع حقيقة أن نزاعها مع الفلسطينيين هو التهديد الوجودي الأكبر لها. فالعمليات العسكرية التكتيكية المدهشة والمثيرة للإعجاب قد تمنحها وهماً بالنصر، غير أن السلام الدائم مع الفلسطينيين يبقى الأمر الوحيد الذي يثمر أمناً حقيقياً وراسخاً.

مترجم عن "فورين أفيرز" 5 أغسطس (آب) 2024

داليا داسا كاي باحثة رفيعة في "مركز بيركلي للعلاقات الدولية" بجامعة كاليفورنيا (UCLA).   

اقرأ المزيد

المزيد من آراء