Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دراما المحاماة... خيال منفصل عن الواقع العربي

اهتمام مفاجئ من صناع الدراما بنقل التجارب الغربية في هذا المجال وتعريبها

يحقق مسلسل "مفترق طرق" حالياً نسبة مشاهدة جيدة بينما تبدي هند صبري سعادتها بتشخيص مهنتها الأصلية (مواقع التواصل)

ملخص

بعدما ناضلت المحاميات على شاشة السينما قبل عقود، جاءت الدراما التلفزيونية لتنتصر للنساء اللاتي يعملن بالقانون، لكن لا تزال هناك مآخذ أبرزها تغاضي تلك الأعمال عن معاناة المحاميات الحقيقية.

تحولت الشاشات العربية أخيراً إلى ما يشبه ساحة القضاء، مرافعات مهيبة وأحكام سريعة النفاذ وثغرات قانونية يتم التحايل عليها واستعراض لمهارة المحامين المفوهين ذوي البديهة الذين يرتدون الروب الأسود، فيلجمون من أمامهم بهذا المظهر الذي يضفي جدية ووقاراً على محياهم.

بدا الأمر وكأن صناع الدراما يعيدون اكتشاف مدى ثراء شخصية المحامي، إنه الشخص الذي يمكنه أن يلقي خطاباً مباشراً حول المبادئ والقيم، ويلخص هدف العمل كله في بضع دقائق من دون أن يتهمه أحد بالمباشرة، وهو أيضاً المراوغ الفاسد الذي لا يعرف عن القانون إلا طرق التحايل عليه، والنتيجة أن الجمهور يتابع على مدى المواسم الدرامية المتوالية قصصاً شديدة التعقيد والتداخل عن هذا العالم، لكن هناك سمات رئيسة عدة تتميز بها، أبرزها أنها تتصف بالتشويق والإثارة وأن كثيراً منها يجري تصويره داخل ديكورات فارهة، كما أن الحضور النسائي فيها طاغٍ بصورة ملحوظة.

من أشهر مسلسلات القانون على المستوى العالمي هناك مثلاً ""American Crime Story (قصة الجريمة الأميركية) و"How to Get Away with Murder" (كيفية الإفلات من جريمة القتل) و"Your Honor" (شرفك). أما "Better Call Saul" (من الأفضل أن تتصل بسول) فهو أحد أكثرها شعبية، إذ إن جيمي ماكغيل، أو سول غودمان، هو البطل الأكثر مراوغة وذكاء وحباً لمهنته الذي يساعد الأخيار والأشرار على السواء مخلصاً لمبدأ أن من حق الجميع أن يجدوا من يمثلهم قانوناً، حتى لو كان عملهم الأساسي يقتضي مجابهة القانون والخروج عنه والإضرار بأركانه عمداً.

حقق الفيلم جماهيرية كاسحة من خلال تلك التركيبة، وفي حين كانت الدراما والسينما العربية على مدى أعوام قدمت نسخها الخاصة من المحامين بأدوار عالقة في الأذهان مستقاة من الحياة الواقعية، لكن طاول هوس التعريب أخيراً تلك المهنة من أوسع أبوابها، وخلال فترة قصيرة أصبح المحامون يملأون الشاشة العربية بقصص أجنبية في الواقع لكنها تترجم بتصرف إلى اللسان العربي، كما شاهدنا سيطرة للمحاميات في الأدوار الرئيسة بعدما تعلق الجمهور على مدى عقود بشخصيات محامين رجال صنع نجوم الفن من خلالها مجدهم التمثيلي.

مرافعات نسائية

مثل كثير من المهن قدمت السينما العربية عالم المحاماة وفقاً لسياق العصر، وكان اقتحام النساء لتلك العوالم محفزاً للصناع الذين أبدعوا قصصاً مثل "الأستاذة فاطمة" (1952) لفطين عبدالوهاب و"الأفوكاتو مديحة" (1950) ليوسف وهبي، ثم عام 1985 ظهرت ليلى طاهر في "عفواً أيها القانون" بشخصية المحامية المتميزة عنايات عبدالحميد للمخرجة إيناس الدغيدي.

وما بين هذا الزمن والوقت الحالي، تغيرت المحامية تماماً بعد أن كانت فقط تكافح من أجل الاعتراف بقدراتها المهنية ومن أجل تقبل المجتمع لممارسة السيدات تلك المهنة المرموقة التي كانت حكراً على الرجال. ومنذ أسابيع قليلة بدأ الجمهور بمتابعة هند صبري في مسلسل "مفترق طرق" الذي يخرجه أحمد خالد موسى، وهو النسخة العربية من "الزوجة الجيدة" (The Good Wife) الذي دار حول محامية تحاول الحفاظ على أسرتها من التفسخ وتعود لمهنتها بعد انقطاع طويل.

 

 

ويحقق المسلسل المعروض حالياً نسبة مشاهدة جيدة، بينما تبدي هند صبري سعادتها بظهورها في ثوب مهنتها الأصلية، فهي حاصلة على درجة الماجستير في القانون، وتقدم في العمل دور أميرة التي يتورط زوجها في قضية مخلة بالشرف فتضطر إلى العودة لمهنتها القديمة لتعول الأبناء، وتلك العودة تسببت في كثير من المآخذ على البناء الدرامي للعمل، إذ وجد المتخصصون أن من غير المنطقي أن تعود البطلة بين يوم وليلة لمهنتها وتتمكن من حل ألغاز القضايا من دون أن تأخذ فترة تمهيدية تنعش فيها لياقتها القانونية.

ولكن للدراما أحكاماً، كما أن المسلسل هو نسخة عربية من قصة منسوجة بتفاصيل متشعبة قدمت عالمياً على مدى سبعة أجزاء وما يقارب 160 حلقة، استعرضت بدورها حكاية واقعية حدثت في الولايات المتحدة الأميركية، فما سر الانتباه الجماعي لمهنة المحاماة من جديد، ليتم تقديم أعمال عدة خلال وقت قياسي، واللافت أن جميعها جذبت الجمهور، فهل هذا العالم شيق إلى هذه الدرجة؟ وهل هو مثالي للدراما بالصورة التي تجعله حصاناً رابحاً ورائجاً في معظم الأوقات؟.

انفصال عن الواقع

يعتقد الناقد الفني محمد عبدالرحمن بأن دراما المحاماة في العالم العربي واسعة وتفاصيلها كثيرة، وحتى تلك التي تعرض قضايا متكررة من دفاتر الأحوال الشخصية مثل الطلاق والخلع وحضانة الأبناء تظل جذابة للمشاهدين، مشدداً على أن عدداً كبيراً من الأعمال التي تناولت المحاماة أخيراً هي عبارة عن فورمات يتم تعريبها أو تمصيرها، لكن بالنسبة إليه "مفترق طرق" من أكثرها حنكة، فالقضايا المعروضة هي من صميم المجتمع ولم تترجم حرفياً، وأشار إلى أن بعض المسلسلات الأخرى اعتمدت على مبالغات غير منطقية وتضمنت أخطاء قانونية وتداخلاً بين مهمات المحامي وعمل النيابة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

لكن عضو لجنة المرأة في نقابة المحامين المصرية مها أبو بكر تضع يدها على أزمات ملموسة بالنسبة إليها كامرأة تعمل في المحاماة، لافتة إلى أنها كانت تتمنى أن تقترب الدراما بصورة أكبر مما يجري في كواليس المحاكم وما تواجهه هي في مهنتها، إذ قطعت النساء شوطاً كبيراً وحققن تميزاً، ومع ذلك لا تزال هناك أشياء تؤرق سير عملهن.

وتتابع المحامية أن "الدراما القانونية أصبحت تنتصر للشكل على حساب الواقع، وتنقل عوالم المحاماة من ثقافات أخرى بلا مراعاة لخصوصية كل بيئة، وهناك شيء إيجابي متعلق باستعراض نماذج للمحاميات النجاحات، مع ذلك فالانتصار يكون للفانتازيا والتشويق في ما يتعلق بتفاصيل الجرائم، في حين أن المحاميات يعانين بصورة يومية في المحاكم المكتظة، كما أن أبسط الأمور مثل دورات المياه في أماكن الاحتجاز تكون غير ملائمة للنساء، بل حتى الدورات المخصصة لهن يستعملها الرجال أيضاً، ومطلوب منا المكوث 12 ساعة في المكان نفسه من دون خدمات من هذا النوع، هذه مأساة تجعل مسألة غسل اليدين نفسها بحاجة إلى إجراءات وتعقيدات، وهي تفاصيل على ما يبدو لا تحبها الدراما، بالتالي لا يزال الانفصال عن الحياة مسيطراً على مثل هذه الأعمال الدرامية".

في العالم الحقيقي

كانت غادة عادل (أماني النجار) أيضاً هي صاحبة مكتب المحاماة الشهير الذي يعمل فيه بطل مسلسل "حالة خاصة"، نديم أبو سريع الذي يعاني التوحد ويثبت براعته في المهنة بينما رئيسته في العمل قاسية القلب ظاهرياً وصعبة المراس، وهو العمل الذي حقق شعبية كبيرة إبان عرضه مطلع هذا العام، وهو كذلك مأخوذ من مسلسل كوري.

أما "نعمة الأفوكاتو" الذي عرض في موسم رمضان الماضي، فقد قدمته مي عمر بنكهة شعبية تماماً وبتيمة انتقامية كثيراً ما برع المخرج والسيناريت محمد سامي في اللعب عليها.

وللمحاميات أيضاً دور بارز في مسلسل "سوتس بالعربي" الذي عرض عام 2022، والعمل مأخوذ عن المسلسل الأميركي الشهير "سوتس" المعروض على مدى تسعة أجزاء، واستعرض في نسخته العربية كواليس ما يحدث في مكتب محاماة ذائع الصيت، وكيف تتم صفقات القضايا والحرب لانتزاع الموكلين الأكثر تميزاً والمنتمين إلى طبقة عليا، في حين أن أحد أبرز العاملين في الشركة لم يحصل على شهادة القانون أصلاً وانتحل شخصية شقيقه، لكن مديره يقوم بالمدارة عليه لتحقيق المصلحة.

 

 

تشير المحامية مها أبو بكر إلى أنها متابعة جيدة للدراما التي تغوص في عالم المحاماة، لكنها تلفت النظر إلى أنها فوجئت بأن الأعمال التي قدمت في خمسينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي استعرضت مشكلات النساء في هذه المهنة بصورة أكثر مصداقية، إذ كن يكافحن من أجل نيل ثقة المجتمع بقدراتهن على الوقوف أمام القاضي وانتزاع حق موكليهن، وهي أفكار كانت مناسبة تماماً للحقب التي أنتجت خلالها، وحتى لو كان بعضها مقتبساً من قصص عالمية فقد تم تنفيذه بطريقة تتماهى تماماً مع طبيعة المجتمع المصري وقتها.

ترفض أبو بكر فكرة استيراد المشكلات والقضايا الدرامية، معتبرة أن الصورة المبهرة تمنح العمل بريقاً لكنه يظل منفصماً عن الجمهور الذي يعرض له، فالاهتمام بالمظهر والديكور أمر جميل في رأيها، لكن البعدين الإنساني والمجتمعي يجب أن يكونا أكثر عمقا،ً وأن يهتم الصناع بوضع أياديهم على صميم الأزمات الحقيقية.

محاكمات قانونية للدراما

المعروف أن المحامي هو حلقة الوصل بين الفئات المتضررة من الدراما مثل الأطباء والمعلمين ومن يعملون بالتمريض وغيرهم حينما يضيقون ذرعاً بالأعمال الفنية ويعتبرون أنها تشوه صورتهم، فيلجأون إلى رجال القانون لإدراك حقهم، وبالطبع لن يتأخر المحامون عن أداء تلك المهمة حينما يتعلق الأمر بصميم عملهم، وهو ما حدث بعدما تم رفع دعوى ضد مسلسل "نعمة الأفوكاتو" للمطالبة بإيقاف عرضه بحجة الإساءة لصورة المحامي.

لم تختلف الحال أيضاً عربياً، إذ اتخذت نقابة المحامين في سوريا موقفاً مشابهاً بعد النجاح الواسع الذي حققه مسلسل "كسر عضم" بجزءيه الذي اعتبرته النقابة مسيئاً للمهنة ويركز على أكثر نماذجها سوءاً. والملاحظ أن مهنة المحاماة بين الرجال والنساء تعتبر مادة درامية مفضلة للدراما السورية، وظهرت من خلال مجموعة من أشهر الأعمال بينها "الفصول الأربعة" و"فوضى" و"ذكريات الزمن القادم".

 

 

على مدى عقود قدمت السينما والدراما التلفزيونية العربية أنماطاً لشخصية المحامي التي كانت تستهوي كبار نجومها، فكشفت عن جوانب لامعة من مواهبهم التمثيلية، وارتبط كثيرون منهم بصورة المحامي سواء الفاسد أو الطموح أو المثابر أو المتردد، حتى إن بعضهم دفع ثمن قدراته في التقمص ومنهم عادل إمام صاحب دور "حسن سبانخ" في "الأفوكاتو" (1983) الذي صدر حكم ضده بالحبس لمدة عام، وكذلك مخرج ومؤلف العمل رأفت الميهي، ونقل عن القاضي حينها، وهو المستشار مرتضى منصور، أنه وجد الفيلم مهيناً لمهنتي القضاء والمحاماة، وإن كان الحكم لم ينفذ لكنه عكس حساسية كبيرة في شأن تناول هذا المجال.

ومن أبرز سمات "حسن سبانخ" أنه محامٍ يمارس الحيل ويتجاوز القانون بطريقته، وعلى رغم ذلك يقع في مأزق بعدما يحبس لمدة شهر بتهمة إهانة المحكمة، وخلال احتجازه يتعرف إلى مجرمين مخضرمين، ومن خلال صداقته معهم ينجح في إخراجهم من القضايا.

نجوم في روب المحاماة

المحامي "فتحي نوفل" أيضاً من الأدوار التي لا تنسى لعادل إمام في فيلم "طيور الظلام" عام 1995، فشكّل منعطفاً أساسياً في مشواره، وتناولت القصة صعود الجماعات المتطرفة وتوغلها في المجتمع، والفيلم من تأليف وحيد حامد وإخراج شريف عرفة.

وعلى رغم أن يحيى الفخراني قدم أكثر من مرة شخصية المحامي على مدى مشواره الفني، ومن بين أعماله في هذا الاتجاه "ابن الأرندلي" و"نصف ربيع الآخر"، لكن دوره الأيقوني كان في مسلسل "أوبرا عايدة" عام 2000، وهو من إخراج أحمد صقر وتأليف أسامة غازي. وفيه نجد المحامي "سيد أوبرا" صاحب المرافعات الذكية اللماحة التي لا تخلو من الهزل وترسخ لعبقريته الفذة في القانون ولم تترجم أبداً طبيعة المحيط الذي يعيش فيه.

 

 

الفنان الراحل أحمد زكي قدم مرافعة بارزة في فيلم "ضد الحكومة" الذي عرض عام 1992، ويتناول العمل قصة "مصطفى خلف" الذي يتم فصله من النيابة بسبب عدم التزامه ليتجه إلى المحاماة ويبرع في قضايا التعويضات من دون الاهتمام بنصرة المظلومين، فيتفنن في تجاوز القانون معتمداً على ثغراته، لكن حياته تتغير حينما يجد ابنه الوحيد يكاد يفقد حياته نتيجة حادثة سير فتتغير قناعاته. والعمل من توقيع السيناريست بشير الديك وإخراج عاطف الطيب الذي قدم مع أحمد زكي أيضاً شخصية المحامي الذي ينتصر لإنسانيته في "التخشيبة" عام 1984.

كذلك كان محمود المليجي جسد بإتقان دور المحامي أكثر من مرة من بينها في فيلم "إسكندرية ليه"، وكذلك دور "جاك فيرجس" الذي دافع عن المناضلة جميلة بوحيرد في فيلم "جميلة"، إضافة إلى نجوم كثر ارتدوا روب المحاماة وقدموا مرافعات استثنائية، من بينهم شكري سرحان في "المرأة المجهولة"، وسيطرت الكوميديا أيضاً على بعض الأفلام ومنها "محامي خلع" لهاني رمزي و"اللمبي 8 جيجا" لمحمد سعد.

مهنة تحبها الشاشة

إنها إحدى المهن التي تحبها الشاشة ويبرع فيها النجوم الموهوبون، وعلى رغم أن كثيراً من تلك الأعمال حرص صناعها على التأكيد من خلال مقدماتها على أنها لا تمت للواقع بصلة وأن شخصياتها من نسج الخيال، فإن مصداقية الحكاية جعلت الجمهور يربط فوراً بين الحياة الحقيقية وما يراه معروضاً على الشاشة، نظراً إلى مناقشة الأزمات من منظور يلمس هموم الناس ويستشعر خبايا عالم المحاماة كما يحدث في الواقع.

وخلال الأعوام الأخيرة استحوذت الدراما التلفزيونية على النصيب الأكبر من قصص المحاماة، بخاصة تلك التي تركز على النساء ومن بينها "الميزان" و"الخروج" و"هي ودافنشي" و"مع سبق الإصرار"، والأخير قامت ببطولته غادة عبدالرازق عام 2012، كما سبق وجسدت شخصية المحامية التي تنتصر لمبادئها في "قهوة المراغي" عام 2009 أمام خالد الصاوي الذي جسد شخصية الزوج المحامي أيضاً ولكن بمبادئ مغايرة تماماً.

فهل أفسدت موجة الفورمات الأجنبية في الدراما العربية المنطق ونزلت بالمستوى الفني للأعمال بدليل أنه قبل سيطرة هذه الموضة كانت قصص عالم القانون أكثر التصاقاً ببيئتها وتعبيراً عنها، لا ينكر الناقد محمد عبدالرحمن أن بعض الأعمال المعرّبة تفتقر في تفاصيلها إلى الواقعية، حتى إن المكاتب نفسها تظهر بصورة فارهة وكأنها تتعلق بمحامين يعملون في مجال القضايا الاقتصادية وليس الجنائية وقضايا التعويضات على سبيل المثال، ويلفت إلى أن بعض الإنتاجات حاولت الاقتراب من طبيعة الأزمات المتداولة في المجتمع العربي مثل الابتزاز والتشهير، لكن في رأيه إذا كان لا بد من التعريب فينبغي عدم التزام النقل الحرفي للسيناريو كي لا يفقد العمل هويته بالنسبة إلى المشاهد في منطقتنا.

المزيد من فنون