ملخص
تعد حرب المصطلحات جزءاً لا يتجزأ من الصراعات، إذ تسعى الأطراف المتنازعة إلى تشكيل صورة إيجابية عن نفسها وتشويه صورة الطرف الآخر. ويؤثر الإعلام في استخدامها على الرأي العام، ويحدد كيفية فهم الأحداث.
انتشر فيديو منذ أيام عقب الغارة الإسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت التي أودت بحياة سبعة مدنيين والمسؤول العسكري لـ"حزب الله" فؤاد شكر لشاب يقاطع مراسلة "سكاي نيوز" وهي تقدم رسالتها، إذ ذكرت عبارة "ميليشيات"، ليقول الشاب إنها مقاومة منذ عام 1982.
مثل صغير يطبق على حرب المصطلحات الدائرة منذ نشأة السياسة والإعلام. فهذا المقطع يمكن أن يصاغ بمفردات ومصطلحات تسبغ عليه عباءة وثقافة صاحبها، إذ يمكن صياغته على هذا الشكل: انتشر فيديو لشاب مثقف من الضاحية وهو يصحح بلغة إنجليزية متقنة لمراسلة قناة "سكاي نيوز" رافضاً تسميتها مقاومة الاحتلال بالميليشيات وهي تغطي الغارة التي شنها العدو الإسرائيلي وراح ضحيتها سبعة قتلى من المدنيين، إضافة إلى القائد العسكري فؤاد شكر "الحاج محسن". أو قد يصاغ هكذا: انتشر فيديو لشاب مؤيد لميليشيات "حزب الله" الشيعي الموالي لإيران وهو يتدخل بعمل مراسلة صحافية تقدم رسالتها طالباً منها عدم لفظ كلمة ميليشيات أثناء الحديث عما سماه المقاومة، عند تغطيتها الغارة التي طاولت منطقة الضاحية الجنوبية وراح ضحيتها سبعة قتلى وأحد مسؤولي الصف الأول في "حزب الله". وتوجد طرق أخرى كثيرة لصياغة هذا الخبر أعلاه. فكل الدروب تؤدي إلى روما، كما يقول المثل العالمي، أي أن المعلومة وصلت، ولكن كل صياغة استقلت حافلتها من المفردات والمصطلحات، وسلكت موجة الإعلام والسياسة والبروباغندا الخاصة بها.
مصطلحات بمعنى واحد ولكن!
في سياق منفصل، يغرق لبنان، بلد الأزمات التي لا تعد ولا تحصى، في دوامة المصطلحات والتعابير التي يمكن أن يتمسك بها كل طرف. فيقف المسؤولون على حوافي شد الحبال من دون أية نتيجة. وقد يكون المصطلح في بعض الأحيان المانع الأول في الوصول إلى أي اتفاق.
بعض المصطلحات التي دخلت معجم حياة اللبنانيين يحتاج كثير منها إلى فقرات من ترجمة الوضع الذي أنجب هذا المصطلح وظروفه والقصد منه. من هذه المصطلحات: استعادة الأموال المنهوبة ومحور الممانعة والحياد وطاولة الحوار والـ30 سنة والنأي بالنفس. هذا عدا المصطلحات المتشابهة المعنى كالتشاور والمشاورات وطاولة الحوار والمشاورات الحوارية والمحادثات والتي يتمسك كل فريق لبناني بعبارته ما يظهر عقم التواصل، أو عدم الرغبة في التواصل تلطياً بالمصطلح.
مثل آخر، وفي الواقع يمكن إيجاد الأمثلة على مدار الساعة، عندما قتل مصور وكالة "رويترز" عصام عبدالله في أكتوبر (تشرين الأول) من العام الماضي، وأصيب عدد من المراسلين والمصورين لعدد من وسائل الإعلام بقصف إسرائيلي على بلدة علما الشعب في جنوب لبنان، أصدرت الوكالة بياناً جاء فيه "بحزن شديد، تبلغنا أن مصورنا عصام عبدالله قد قتل" من دون الإشارة إلى الجهة التي قتلته، مما أثار حينها موجة من الاستنكار حول تجهيل الفاعل، وهذه واحدة من أدوات حرب المصطلحات، إلى أن نشرت الوكالة بعد نحو الشهرين نتائج تحقيقها أن دبابة تابعة للجيش الإسرائيلي قتلت صحافياً من "رويترز" وأصابت ستة صحافيين في لبنان، طالبة من إسرائيل التوضيح.
المصطلح سيد اللغة
في البحوث العلمية تعد المصطلحات وتعريفها جزءاً من عناصر البحث. وقد نشر عديد من الكتب والمعاجم التي تشرح المصطلحات المستخدمة في مجالات مختلفة من العلوم كافة المجردة والطبيعية والإنسانية، لإقامة علاقة أفقية في فهم المعاني وانتشارها لاستخدامها من دون إعادة شرحها، ولكن تعد حرب المصطلحات في الشؤون السياسية والدولية ساحة معركة معقدة ومتطورة، حيث تشكل اللغة التصورات والسياسات، وهي ليست مجرد نزاع لغوي، بل هي صراع على تسويق وجهة نظر وكيفية التأثير في الجمهور، إذ يمكن للغة أن تشكل الوعي الجمعي وتعيد تعريف الحقائق والقيم، مما يبرز أهمية الدراسات اللغوية والسيميائية في فهم الأبعاد الخفية للخطاب السياسي والإعلامي وتأثيره في الرأي العام وصنع القرار، حيث تعد صياغة المصطلحات والألفاظ أداة قوية يمكن استخدامها لتعزيز أو تقويض قضايا معينة، وفي بعض الأحيان لتوجيه الأجندات السياسية.
المصطلحات مرآة السياسة
يرافق مصطلح "الشهيد" و"القتيل" و"الضحية"، والذي يعني أن الشخص قد فارق الحياة ثقافة مجتمعية ودينية ونفسية لها أبعاد موغلة في تاريخ كل بلد. فعبارة "شهيد" تحمل قدسية دينية لدى اليهودية والمسيحية والإسلام والسيخ والهندوس، وقد كرس هذا التبجيل وطنياً. وهذه العبارة تطلق على الأشخاص الذين ضحوا بأنفسهم من أجل عقائدهم وأوطانهم.
ويتفق لغوياً أن "الشهيد" هو من أراد عن سبق تصور وتصميم دفع حياته ثمناً لعقيدته، أما "الضحية" فهو الذي دفع ثمن الحرب أو أي فعل من دون أم يكون له فيها ناقة أو جمل، ومثله "القتيل".
قوة المصطلحات
تؤكد المدارس الإعلامية أهمية فهم هذه المصطلحات في محيطها الاجتماعي والسياسي، إذ غالباً ما تستخدمها الجهات الحكومية والإعلامية لتأكيد الروايات والتأثير في الرأي العام، علماً أن الخطاب حول هذه المصطلحات ليس ثابتاً، وتتم إعادة تعريفه باستمرار من خلال التفاعل الديناميكي بين القوى العالمية والمحلية والتمثيل الإعلامي والخطاب الأكاديمي.
ويعد فهم الفروق الدقيقة في هذه المصطلحات أمراً بالغ الأهمية لفهم النسيج المعقد للعلاقات السياسية والدولية في كل بلد. ومن خلال نظرة دراسات الإعلام والاتصال، يمكن للمرء أن يقدر قوة المصطلحات في تشكيل المشهد الإعلامي في أية منطقة، إذ إن فهم استخدام المصطلحات لا يتطلب فهم تعريفاتها المعجمية فحسب، بل يتطلب تقدير سياقاتها التاريخية والثقافية والسياسية.
مصطلحات رائجة
والمصطلحات لا تعد مجرد وسيلة اتصال، بل أداة للنفوذ السياسي وتشكيل الهوية. ففي لبنان والعالم العربي، تحمل مصطلحات مثل "السيادة" و"المقاومة" و"التدخل" وزناً كبيراً ودلالات تاريخية. فيرتبط مصطلح "المقاومة" في لبنان ارتباطاً وثيقاً بالنضال ضد الاحتلال الأجنبي، وقد تم اعتماده من قبل مجموعات سياسية مختلفة كـ"حزب الله" ضد إسرائيل، والقوات اللبنانية ضد سوريا، وهو يحمل شحنة عاطفية وتاريخية قوية. ومصطلح "السيادة" يتردد صداه بعمق في منطقة تتسم بالتاريخ الاستعماري والتدخلات الخارجية المستمرة منذ ما قبل تأسيس الدولة. ويستخدم مصطلح "التدخل" لوصف تصرفات القوى الخارجية داخل المنطقة، والمقصود التدخل غير المرغوب فيه في الشؤون الداخلية. وهذا المصطلح مثير للجدل بصورة خاصة عند مناقشة أدوار القوى العظمى العالمية أو الجهات الفاعلة الإقليمية في تشكيل المشهد السياسي.
ومما لا شك فيه أن وسائل الإعلام تلعب دوراً محورياً في صياغة المصطلحات السياسية، وغالباً ما تشكل التصور العام والخطاب.
تختلف وسائل الإعلام في استخدامها لمصطلحي "المهاجرين" و"اللاجئين"، على سبيل المثال، بناءً على السياسات والهويات السياسية. وفي مقال بحثي نشر في مجلة "دراسات اللاجئين" في جامعة أوكسفورد، تحت عنوان "تسميات أكثر ولاجئين أقل: إعادة صياغة مسمى اللاجئ في عصر العولمة " كتب الباحث روجر زيتر عن مصطلح "المهاجرين" معتبراً أنه "قد يستخدم لوصف الأشخاص الذين ينتقلون لأسباب اقتصادية، في حين يستخدم 'اللاجئون' للإشارة إلى الذين يفرون من الصراعات والاضطهاد. يمكن لهذا التمييز أن يؤثر في سياسات الهجرة والرأي العام في شأن القضايا الإنسانية".
وتتناقض المصطلحات في التصريحات والتغطيات الإعلامية مثلاً في شأن الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي. ويمكن تطبيق عدد من نظريات الاتصال عليها مثل نظرية الإطار التي تتناول تشكيل فهم الجمهور للأحداث بناءً على "إطارات" معرفية مسبقة. فغالباً ما تقدم الأحداث من خلال إطار "الإرهاب" مقابل "المقاومة"، مما يحد من فهم الأبعاد المعقدة للصراع. فيستخدم الفلسطينيون إطارات مثل "المقاومة المشروعة للاحتلال" أو "الحق في استرجاع الأرض المحتلة"، بينما تستخدم إسرائيل إطارات مثل "الإرهاب" و"الدفاع عن النفس".
وفي تحليل لبعض المصطلحات التي راجت أخيراً بعد تهديدات إيرانية بالرد على عملية اغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة "حماس" إسماعيل هنية في طهران، مثل "لن يبقى بلا عقاب" تجد أن إيران استخدمت عبارة قوية تعطي انطباعاً بأن الرد سيكون حاسماً، واستخدمت أيضاً مصطلح "في الزمان والمكان المناسبين" كعبارات مبهمة تتيح تأجيل الرد أو ربما نفيه، وتستخدم أيضاً لتجنب الالتزام بجدول زمني محدد.
وبرز أيضاً مصطلح "قواعد الاشتباك" الذي يشير إلى وجود قيود للضربات العسكرية بين "حزب الله" وإسرائيل تفادياً للانزلاق نحو حرب شاملة، على رغم أنها تخترق من وقت لآخر.
اختيار الكلمات والتلاعب بالمعاني
ويعد اللغويون أن اختيار الكلمات والصوت المبني للمجهول يمكن أن يتلاعب بالمعاني والآراء لمصلحة روايات معينة. كأن يغيب الفاعل، كما حصل في البيان الذي أصدرته وكالة "رويترز" عن مقتل مصورها عصام عبدالله، أو أن تستخدم تعابير بهدف معين مثل "الإصلاح الاقتصادي" بدل "التقشف"، إذ تستخدم الحكومات تعبير "الإصلاح الاقتصادي" لتبرير تطبيق سياسات تقشفية. ويحمل كل مصطلح دلالات إيجابية أو سلبية بناءً على الاتجاه السياسي للمصدر الإعلامي والجمهور المستهدف، كما ذكر المتخصص الاقتصاد السياسي مارك بليث في كتابه "التقشف: تاريخ فكرة خطرة". أو استخدام المصطلحات المشحونة التي تحوي إيحاءات قوية وعاطفية تؤثر في مشاعر الجمهور، وسواها من أدوات صياغة المصطلحات وتوظيفها.
وفي وسائل الإعلام غالباً ما يزود الصحافيون والموظفون بكتيب حول التعابير والمصطلحات التي تخدم سياسة ووجهة نظر المؤسسة الإعلامية، منها ما يرتبط بمدارس إعلامية تعلن أنها محايدة وموضوعية وبعيدة من المؤثرات العاطفية، ومنها ما يتبع أجندات داخلية أو خارجية غالباً ما تكون مرتبطة بالجهة الممولة أو الداعمة.
يبقى أن المصطلح أداة قد لا يقصد بها التعريف والتوضيح دائماً، إنما تحمل في طياتها قصصاً كثيرة ومواقف وأجندات وثقافات، كما قد تحجب بعض المصطلحات وقائع أكثر مما تخبر عن أحداث، وهو ما اصطلح على تسميته "المسكوت عنه في الإعلام"، بحيث يتم تجاهل أمر ما أو استخدام مصطلحات تخفف من وهج حدث ما، إذ تسعى وسائل الإعلام إلى بناء أجندة معينة لدى الجمهور، فتركز على قضايا معينة وتتجاهل قضايا أخرى.