ملخص
تلجأ الكاتبة المصرية رحمة ضياء في روايتها الجديدة "سيدة القرفة" إلى عالم المطبخ وتنطلق منه ساردة حكايات غرائبية وبوليسية.
شهد السرد العربي خلال الآونة الأخيرة اهتماماً خاصاً بعالم المطبخ والطعام فظهرت مجموعة أعمال تدور في هذا الفلك مثل "برتقال مر" للبنانية بسمة الخطيب، و"طبيخ الوحدة" للمصرية أمنية طلعت و"طاولة الخال ميلاد" لليبي محمد النعاس و"الطاهي يقتل الكاتب ينتحر" للمصري عزت القمحاوي. وضمن هذا النمط تأتي رواية "سيدة القرفة" (دار الشروق) للمصرية رحمة ضياء. وسبق للكاتبة رحمة ضياء الفوز عام 2021 بجائزة خيري شلبي للعمل الروائي الأول عن روايتها "النقشبندي".
استعانت رحمة ضياء بضمير المتكلم في سرد أحداث روايتها الجديدة، واعتمدت في حبكتها تقنية التعرف والتحول، أي إن يتعرف البطل على ما كان يجهله من أمور. ويتبع هذا التعرف تحول من موقف إلى موقف طبقاً لنظرية أرسطو في كتابه "فن الشعر". فنحن أمام الفتاة "ميمي" أو "مالابار توفيق" التي لم يكن لها عالم سوى عالم والدها، إلى أن فوجئت باختفائه لأيام ثم عثور الشرطة على جثته طافية على صفحة النيل. جراء الصدمة والوحدة الشديدة تقرر الفتاة ذات الـ20 سنة الانتحار إلا أنه في لحظة التنفيذ تستدعيها الشرطة لتكتشف عالماً خفياً عن والدها وعلاقاته النسائية المتعددة وعنفه مع المرأة. صورة مغايرة عما عرفته عنه طوال حياتها. وتتوالى الأحداث لتكتشف الفتاة أن أمها لم تمت كما ادعى والدها، فتنتقل من حال المحبة الشديدة إلى إدانة الأب الذي أصر على تضييق عالمها ومنعها من الاحتكاك مع محيطها الاجتماعي وتكوين صداقات "نمت للمرة الأولى في حياتي وأنا غاضبة منك. شعرت أنك خدعتني وخنت عهدي معك... رغبتك في الانتقام من نجوى آذتني قبل أن تؤذيها، عرفت أن لي شقيقة أريدها أكثر من أي شيء في الدنيا وأخفيتها عني متعمداً، كم شخصاً آخر انتزعته من حياتي بسبب إفراطك في الخوف علي ورغبتك في حمايتي" ص79.
وتعطي ضياء الرواية بعداً بوليسياً في رحلة كشف البطلة عن قاتل أبيها إلى أن تعرف أنه خطيبها. ثم تنتهي الرواية بصورة مفاجئة، بمسامحة "ميمي" للجميع بمن فيهم قاتل أبيها "سامحت نجوى وسامحتك يا أبي وأخيراً سامحت أحمد، ليس من أجله ولكن من أجلي أنا لأحرر قلبي من عبء الكره" ص164.
عالم المطبخ
بالغت الرواية في إضفاء طابع ملائكي على "ميمي" فبدت وكأنها آتية من عالم حكايات الأطفال وأفلام الكرتون. وحاولت رحمة ضياء أن تسير في عملها هذا على نمط رواية "كالماء للشوكولاتة" للمكسيكية لاورا إسكيبيل فاشتركت معها في جعل مكونات المطبخ وتفاصيله مصدراً للتشبيهات ونظارة ترى من خلالها البطلة العالم، تصف من تراهم من البشر بمفرداته "هو طويل ممشوق كشجرة القرفة، وشعره أسود فاحم كالباذنجان، وشعره بني كثمرة كيوي، أما طلته فما أبعدني عنها، بهية محببة للقلوب مثل التفاح الأحمر" ص16. وتصف والدها بأنه مثل "الفلفل الأسود محبوب من الجميع ويستطيع التناغم معهم وجذبهم إليه". وتصف قلقها بالقول "شعرت برأسي كبيضة في ماء مغلي".
وفي هذا الإطار تستدعي الكاتبة حوادث وشخصيات وأماكن تاريخية ارتبطت بالطعام والشراب لتخدم فكرة الرواية العامة مثل زيارة مقبرة "النبيل سنفر" القابعة في وادي الملوك بالأقصر، والذي كان مسؤولاً عن الكروم الملكية وحول سقف المقبرة إلى تكعيبة عنب تتدلى منها العناقيد تمسك بها ابنته "موت توي". وتنقل أن نيرون أحرق مخزون عام كامل من القرفة في طقوس جنازة زوجته الثانية. وتورد كذلك حكايات أسطورية قيلت حول نباتات وتوابل مثل القرنفل الذي تربطه بحكاية خيالية حول مكان نشأته في إندونيسيا، وأن الجن هم من كانوا يتولون أمور بيعه، ونظرة الناس عبر التاريخ لنوع معين من النباتات مثل الطماطم أو الباذنجان، وتحريم أطعمة معينة على النساء في حقب تاريخية مختلفة لارتباطها بدلالات جنسية.
وتشير المؤلفة في نهاية الرواية إلى المصادر التي اعتمدت عليها مثل كتاب "مطبخ زرياب" لفاروق مردم بك، و"التاريخ الكوني للتوابل" لفريد كزارا، ومشاركتها في "ورشة طعم الكلام" للكاتبة رانيا هلال التي تركز على الطعام وطقوسه وذكرياته في الحياة الشخصية وتستكشف العلاقة بين الطعام والفنون والأنثروبولوجيا.
واقعية سحرية
والأمر الثاني الذي تشترك فيه "سيدة القرفة" مع رواية "كالماء للشوكولاتة" هو ذكر وصفات أكلات عديدة من بلاد مختلفة، وتأثير الطعام في الحالة المزاجية وأخذ القرارات المصيرية. وسعت رحمة ضياء إلى مجاراة المكسيكية لاورا إسكيبيل في إضفاء جانب من الواقعية السحرية على "سيدة القرفة" التي تجسدها بطلة الرواية "ميمي" التي تستطيع معرفة أحداث جرت خلال الماضي، واستبصار ما سيجري في المستقبل، والقدرة على تلبس أجساد الآخرين. وهي استعانت بهذه الآلية في معرفة أن اكتئاب ما بعد الولادة كان السبب وراء أن أمها تركتها وهي صغيرة. وعبر هذه الحيلة تصالحت "ميمي" مع موقف أمها وأنها لم تكن تكرهها وأن تركها إياها لم يكن باختيارها وحدها فقد دفعها الأب إلى فعل ذلك، حين أخبر الابنة أن أمها ماتت "عدت من جديد إلى ميمي بعدما غادرني جسد نجوى وصوت أفكارها، جلست على السرير أتلمس جسدي لأتأكد أنه يخصني" ص57.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتمنح ضياء بطلة الرواية وسيلة أخرى للكشف عن العوالم المحيطة بها التي يصعب عليها الكشف عنها في الواقع وهي الأحلام. والفصل المعنون بـ"كاشفة الأسرار" دال على الجانب العجائبي لشخصية "ميمي" التي ترى في أحلامها ماضي الشخصيات المحيطة بها، مثل الصحافي "طارق" ورغبته في أن يكون وكيل نيابة، وعدم قدرته على الوصول إلى هدفه لغياب الواسطة التي تدعمه مما يغير موقف البطلة تجاهه من الكراهية إلى التعاطف. وهي كذلك ترى أموراً وقعت بالفعل ولم يروها لها أحد "انتهى الحلم هنا، استيقظت وأنا أشعر أن ما شاهدته في حلمي حدث بالفعل. أمسكت هاتفي وبحثت عن جريمة الفتاة الجامعية، لدهشتي عثرت على كثير من الأخبار، القضية حقيقية، وقعت بالفعل بنفس التفاصيل وعدد الطعنات، لم أقرأ ولم أسمع عنها من قبل..." ص128.
الحبكة البوليسية
وتكتشف عبر الحلم أيضاً الحياة السابقة لزميلها في الدراسة أحمد حسن خطيبها وقاتل أبيها، فترى ماضيه ومأساة وفاة والديه في انقلاب سيارة "حلمت بأحمد ورأيت ما وقع في الحادث بالتفاصيل... حكى لي التفاصيل بعد أن رأيتها بنفسي، شيء واحد ظل غامضاً ولم أعرف كيف أسأل عنه، الفتاة الصغيرة ذات العينين العسليتين الواقفة إلى جواره والتي لم يشر إليها قط في حديثه" ص131، إلى أن تعرفت من خلال الصحافي أن هذه الفتاة هي ابنة عمه وخطيبته، غرر بها والدها وحملت منه ما دفعها إلى الانتحار فقرر "أحمد" قتل الجاني، لكنه سرعان ما وقع في حب ابنته وقرر الزواج منها.
لكن من البداية وعبر تقنية الحلم تلك نعرف أن هذا الزواج لن يتم إذ تتنبأ لها عرافة في حلمها "آه يا فتاتي المسكينة، عمر حبك قصير. خذي حفنة الكبوش الشافية. تناولي واحدة منها كل يوم" ص 147. وفي اليوم المقرر لزفافها تعرف علاقة خطيبها بجريمة قتل أبيها.
وفي الأخير وشت هذه الرواية مع بدايتها بعمل آخر في السرد العربي يتكئ على عالم المطبخ في صياغة رؤية جديدة للعالم، إلا أنه سرعان ما نجد أنه يبدأ في التفكك وترك الخيط الأساس له، متجهاً في جانب منه إلى الأدب البوليسي في رحلة البحث عن قاتل الأب، ثم إلى ما يشبه أدب الرحلات مع تنقل البطلة من مكان إلى مكان، سواء مع والدها قبل وفاته أو مع أمها وأختها أو مع خطيبها. ويضاف إلى ذلك عدم الترشيد في استخدام المآسي التي تلاحق البطلة من كل جانب وبصورة مفاجئة من دون تمهيد مما أفقد العمل وحدته الموضوعية، إن جاز أخذ هذا المصطلح من عالم الشعر.