ملخص
"لحم" رواية للكاتب التشيكي المعروف مارتين هارنشيك صدرت حديثاً في ترجمة فرنسية، وهي ذات نزعة ديستوبية، تتناول الفساد الذي يعم المجتمعات المستقبلية التي باتت تنتشر فيها ظاهرة أكل لحوم البشر.
ينتمي كتاب الروائي التشيكي مارتن هارنيتشيك "لحم" الصادر حديثاً في ترجمة فرنسية وقعها بنوا مونييه عن دار نشر صغيرة تدعى "مون ميتاليفير" (2024) إلى أدب الديستوبيا أو أدب المدينة الفاسدة، وهو أدب خيالي نقيض أدب اليوتوبيا يتحدث عن مجتمع مخيف، تسوده الفوضى ويحكمه الشر المطلق مع ما يرافقه من قتل وخراب وقمع وفقر ومرض. فيه يرسم هارنيتشيك صورة عالم توتاليتاري ليس فيه للبقاء على قيد الحياة سوى أكل لحوم البشر.
ففي مدينة ديستوبية توتاليتارية، لا أغنام ولا أبقار ولا طيور ولا خضراوات أو فاكهة فيها، مدينة بلا اسم، في زمان ومكان غير محددين، مبنية حول الأسواق التي تعج بالجائعين، يصف مارتن هارنيتشيك السكان المصطفين في طوابير والمنتظرين دورهم للحصول على قطعة من لحم البشر يقايضونها بتذاكر، وسط حضور قوي لرجال الشرطة الذين يمارسون سلطتهم بلا رحمة، بحيث يعاقب أقل خطأ يرتكبه أحدهم بـ"الذبح" الفوري، مما يمكن الشرطة والبوليس السري وأجهزة قمعه، في الوقت عينه، من ضبط الأمن وتزويد المدينة باللحوم الطازجة. فالجوع كافر والسكان الممنوعون من الكلام أو التجمع والجائعون دوماً، يسعون بكل الوسائل المتاحة، قانونية أو غير قانونية، للحصول على اللحم للبقاء على قيد الحياة.
ساكن هذا العالم الكابوسي، راوي "لحم"، الذي تتشكل البنية السردية للراوية من خلال أقواله، هو إنسان عادي، جائع دوماً، مهووس باللحم، يدرك أن أفضل وسيلة للحصول عليه هي التعاون مع الشرطة. لذا نراه في القالب الروائي الذي وضعه فيه الكاتب، يصارع من أجل البقاء حياً. فيتحول مخبراً محترفاً، تذبح على وشايته أجساد الرجال والنساء. غير أنه سرعان ما يواجه عديداً من الخيبات، فيصبح هو نفسه في أسفل أسافل المجتمع، ضحية لوشاية تتهمه بالكشف من طريقة حكم المدينة وإطعام أهلها. فيهدد بالذبح ويضطر إلى الهرب، بعد أن يكتشف خارج أسوار المدينة وجود مجتمعات مسالمة، يتحدث الناس فيها مع بعضهم بعضاً، ويساعدون بعضهم بعضاً، ويحبون ويتزوجون ويثمرون ويكثرون.
دوامة جهنمية
على تتالي صفحات هذه الرواية القصيرة نسبياً (133 صفحة) التي تأخذنا في دوامة جهنمية، نتعرف على كيفية مصارعة الراوي لنظام إرهابي يستعبد الناس من خلال الجوع، ويدفع بهم إلى إشباع حاجاتهم البيولوجية في ظروف بشعة، يتجرد فيها الإنسان من إنسانيته ويتحول فيها المجتمع إلى مجموعة من المسوخ تناحر بعضها بعضاً.
"كل قريبك قبل أن يأكلك"، هذا هو شعار هذه المدينة الفاسدة، التي أصبح الحصول فيها على اللحم البشري الطازج وبصورة قانونية صعبة، مما دفع بعديد من سكانها إلى المخاطرة، على رغم تهديدات الشرطة بالذبح وبيع لحم المخالف للقوانين بتذاكر الإعاشة في أسواق المدينة المقسمة إلى ثلاثة أقسام: سوق الدرجة الأولى، حيث اللحم الطازج والغالي الثمن، وسوق الدرجة الثانية حيث اللحم أرخص وأقل جودة لأنه لحم جيف أو لحم أناس ماتوا موتاً طبيعياً، وأخيراً سوق الدرجة الثالثة التي تبيع لحماً قذراً، فاسداً ورخيصاً.
هذه الأسواق الثلاث ورفوف جزاريها متاحة أمام المواطنين الذين يرتادونها على مدار الساعة. ولعلها تشير إلى عالم النقص، حيث لا طعام ولا وقود، حتى إن النظام الحاكم في هذه المدينة المتخيلة سمح بهدم المنازل الخشبية لتوفير بعضا من الطاقة... فالنقص يشمل كل شيء ولا يتمكن من سده إلا بعض الأثرياء. لذا تنعدم الثقة بين الناس وتتدمر الروابط الاجتماعية ويغيب التضامن. فالآخر كما تصوره الأيديولوجية الحاكمة هو أولاً وقبل كل شيء هذا الذي يحاول أن يستولي، بالسرقة أو الوشاية أو القتل، على الموارد القليلة التي بحوزتي، أكانت بعضاً من اللحم أو الوقود أو التذاكر. والتذاكر التي يوزعها النظام على السكان، والتي تسمح بالدخول إلى السوق وشراء اللحم تشير إلى التقنين. أن تكون في السوق دون تذكرة أو دون اللحم الذي اشتريته، جريمة يعاقب عليها القانون بالذبح حتى الموت. وقانون العقوبات في عالم "لحم" قانون بسيط جداً: كل شيء تقريباً جريمة، وكل جريمة تعاقب بالذبح الذي يتم تنفيذه فوراً على يد الشرطة. ويبدو أنه بسبب الطلب المتزايد على اللحم، غالباً ما يكون رجال الشرطة أكثر قسوة من المعتاد، لا سيما عند ضرورة إعادة تزويد رفوف قصابي الدرجة الأولى باللحم الطازج. في هذه الأجواء، كان البقاء على قيد الحياة ليس بالأمر السهل. فالشرطة حاضرة و"الذبح السري" الذي يقوم به بعض الأفراد في الشوارع بغرض التغذية الشخصية أو لحساب المواطنين الأثرياء الذين يدفعون "لصياديهم" مبالغ طائلة تمكنهم من الحصول على التذاكر أو التزود المباشر باللحم حاضر أيضاً.
تسلط هذه الرواية المخيفة الضوء على القضايا الموجودة في العالم الواقعي المتعلقة بالمجتمع والاقتصاد والأنظمة السياسية الشمولية المتجردة من الإنسانية والمرتبطة بانحطاط كارثي، ولعلها سجل حي يكشف عن عالم التوتاليتاريات في خيط سردي يشد القارئ ولو أزعجه في بعض الأحيان.
نشرت هذه الرواية المثيرة للاهتمام للمرة الأولى في تورنتو سنة1981 بمساعدة من فاكلاف هافيل والناشر التشيكي الكندي جوزيف شكفوريتسكي، الذي عرف بدعمه الأدب المحظور في بلاده في الحقبة الشيوعية، بعد أن قرأت سراً في تشيكوسلوفاكيا السابقة، قبل أن تتمكن من عبور الستار الحديدي. وهي تستحق فعلاً انتباه القراء على قسوتها وجرأتها في تناول موضوع المجتمعات التوتاليتارية وهيمنتها على حياة البشر. فمؤلفها المولود سنة 1952، سنة محاكمات براغ، في بلد كان يحكمه سابقاً نظام استبدادي مستوحى من الماركسية اللينينية يقوده الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي، منشق سبق له أن وقع على ميثاق 77 بعد إخضاع براغ بالدبابات لتكون تحت سلطة الحكم الشيوعي. وقد تعرض لمضايقات اضطرته إلى الإقامة في منفاه الألماني، وعانى ما عاناه من السلطة القمعية القائمة في بلاده.
سلاسة وإزعاج
لا يحاول كاتب رواية "لحم" تحريك مشاعر قارئه أو إثارة تعاطفه، ولا يبذل جهداً لجعله يحبها. ولعله يتعمد أن تكون قراءتها، على رغم وضوح وسلاسة لغتها، مزعجة ومقلقة، لكن هذه الرواية لا تترك القارئ أبداً غير مبال. فهي رواية تتناول آليات الشر، عالمها عالم حال الطبيعة الهوبزية، إذ الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، عالم يكون فيه المرء ضحية سهلة للآخرين، للشرطة أو للجزارين، الذين يقتلون الناس بصورة قانونية، أو ضحية للقتلة غير الشرعيين الذين يهاجمون بعضهم بعضاً للحصول على قطعة لحم، والمتكاسلين المتعاونين مع الشرطة لقاء مكافآت لحمية، تقيهم شر الموت من الجوع.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
غير أن هذه التوتاليتارية التي يفترض بها حماية الأفراد بعضهم من بعض، هي التي تضطهدهم في الواقع، منتجة بصورة حتمية مجتمعاً يدمر نفسه. فالراوي، كالجميع، يريد البقاء على قيد الحياة، وهو في سبيل ذلك، قادر على القيام بأبشع الأفعال، مسترشداً ببوصلة واحدة، هي الحفاظ على نفسه. القتل والوشاية وسرقة التذاكر الضرورية لتأمين اللحم، ليست بشيء في مجتمع آكلي لحوم البشر، إذ لا مكان للثورة في وجه اللوياثان القابض على المدينة بأسرها. فقد تم تدجين الناس وتطويعهم وإخضاعهم وضرب منظومة قيمهم، من خلال مزج الخوف بالحرمان والصدمات، حتى أصبح كل شخص شرطي نفسه. هنا لا يأتي الخلاص إلا من خارج النظام، وهو في الرواية الخروج من المدينة، علماً أن الخلاص ليس مؤكداً. فكثر هم الذين حطمتهم الأنظمة الشمولية بشدة إذ لم يعد بوسعهم إعادة بناء علاقات طبيعية مع الآخرين.
كتاب "لحم" كتاب مزعج، لكنه يقول لنا الحقيقة عن الأنظمة الشمولية وما تفعله بالأفراد. سرده الكابوسي لمجتمع دموي، منحط وقاسٍ لا يترك لمواطنيه مخرجاً، يرسم لنا، على سواده ولونه الأحمر كالعالم الذي يتحرك فيه الراوي المجهول، صورة قاتمة عن الحكومات التوتاليتارية التي تسحق الأفراد وتعمل على التحكم الكامل في حياتهم من خلال ترويعهم بخطر دائم محدق وإشغالهم عن المطالبة بحقوقهم الطبيعية بالسعي وراء تأمين حاجاتهم اليومية المقننة، التي يصبح الحصول عليها حلماً صعب المنال.
لا يملك هذا الأدب الديستوبي في مواجهة الواقع المحبط، إلا سرد يوميات الناس المسكونة بالموت والعاجزة عن المواجهة، معبراً عن استيائهم ومرارتهم من حياتهم الخاضعة تماماً لرقابة النظام الحاكم، والمفتقدة لما يحدد هوياتهم كبشر. وهي تشبه بمعنى ما رواية جورج أورويل "1984" وكتابات فرانتز كافكا.
باختصار، تشكل رواية "لحم" صرخة تحذير واستغاثة تكشف عن الوجه الحقيقي للأنظمة الاستبدادية في عالم أصبح لا يعرف أن الإنسان خلق للإنسان وأن المعية والتضامن توضحان لنا معنى الحياة ومصيرها.