ملخص
في الذكرى المئوية لرحيل الكاتب فرانز كافكا تحضر السيرة الشاملة والضخمة لصاحب "المحاكمة" التي كتبها الباحث الألماني راينر ستاغ في ثلاثة مجلدات خلال أعوام عدة. تتواصل ترجمة هذه السيرة إلى لغات عالمية بصفتها مرجعاً كاملاً لقراءة تجربته. وحديثا صدر الجزء الثالث منها بالترجمة الفرنسية.
إنها الذكرى المئة الأولى لوفاة فرانز كافكا (1883 - 1924) أحد آباء الرواية الحديثة والمعاصرة، فأي مناسبة أعز من هذه للاحتفاء بالكاتب الذي أقلق جمهور الأدباء والقراء على حد سواء في الغرب وسائر بلدان العالم، ومنها بلداننا العربية؟ ولعل مكانة الروائي والقاص كافكا تكاد تعادل بأثرها مكانة كل من بروست وقبله فلوبير وفوكنر، للحساسية الجديدة الخاصة به التي أدخلها إلى النوع، وللرؤية إلى العالم التي قدمها للجمهور، ولا سيما البعد الغرائبي والمتشائم الذي يتفق في سمات كثيرة مع الاتجاه الفلسفي الوجودي والعدمي الذي ساد العالم الغربي، قبيل الحرب العالمية الأولى وبعيدها.
سيرة كافكا كاملة
في الذكرى الـ 100 لوفاة كافكا تستعيد الأوساط الألمانية والعالمية السيرة الكاملة التي تتناول صاحب "المحاكمة" والتي أنجزها الكاتب الألماني راينر ستاغ (1951)، الباحث والأكاديمي المتخصص في الأديب كافكا، والتي أحدثت "ثورة" في عالم الدراسات والسير الكافكاوية، وصدرت في ثلاثة أجزاء - مجلدات على التوالي بالألمانية، الأول بعنوان "زمن القرارات" ويغطي الأعوام الخمسة الأولى (1910 - 1915) من حياة كافكا الأدبية التي بدأها بعمر الـ 27، وطبع في ألمانيا عام 2002.
أما المجلد الثاني وهو بعنوان "زمن المعرفة" والصادر عام 2008، فيغطي كل الأعوام التسعة الباقية إلى وفاته (1915 - 1924)، في حين أن المجلد الثالث الصادر عام 2014 يعالج فيه الكاتب ستاغ طفولة كافكا ومسار دراساته وأعوام عمله الأولى.
وللحديث عن المنهج الذي اتبعه الكاتب ستاغ في وضعه سيرة كافكا والتي وصفت بأنها الأكثر دقة وصدقية وشمولاً من كل السير التي سبقت هذه في الغرب، يمكن القول إن الباحث اتبع فيها خليطاً من المناهج المعروفة، من مثل ركونه إلى التاريخ السياسي لتشيكوسلوفاكيا ومدينة براغ، وإفادته من التحليل النفساني كلما استدعته النصوص، ولا سيما اليوميات منها والمراسلات وغيرها، ولكن الكاتب يشاء أن يبسط كل هذه المعطيات عبر خيط من السرد المشوق عزّ نظيره في سائر السير، على ما قاله بعض النقاد الغربيين لدى صدور هذه المجلدات، فاستحق بذلك جائزة ألمانية تعنى بالسيَر (فون هيميتو دوديرر) لعام 2008.
كافكا ومدينة براغ
إذاً لا يروي كاتب سيرة كافكا وقائع وأحداثاً كان المعني بها الشخص من يوم ولادته إلى وفاته وحسب، بل يخط أيضاً مساراً لمدينة براغ التي كانت يوماً عاصمة إقليمية للإمبراطورية النمسوية الهنغارية، ذات ثقافات عدة من ألمانية وبوهيمية وتشيكية، و أديان ومذاهب مختلفة ومتداخلة مثل الكاثوليكية والبروتستانتية واليهودية، وحياة اجتماعية وفنية وإبداعية صاخبة ومشعة عبر أوروبا كلها، وهي سمات لم تعرفها برلين ولا أي من المدن الألمانية في حينه.
أما الداعي إلى رسم هذا الإطار الخارجي لمدينة براغ، قبل الكلام على سيرة المؤلف كافكا وفي خلال تفصيل وقائعها، فهو منهجه النقدي التاريخي والتكويني الذي يرى إلى إبداعية المبدع، سواء كان أديباً أو فناناً أو غيره، على أنها نتاج بيئته الصغيرة والكبيرة التي توفر له كل أسباب تفتح الموهبة ونماء الشخصية المبدعة وشيوع إبداعها، وفي هذا أحد التصويبات الكثيرة للأخطاء التي وقع فيها كتّاب سيرة كافكا العديدون ممن لا يقدرون إطاره الثقافي الذي نشأ فيه حق قدره. ومن قبيل ذلك يقول الكاتب إن كافكا ولد عام 1883 وسط عالم مغرق في القدم ومتعدد الثقافات ومنشغل بماض لم يمض، ذلك أن أعوام شباب المدينة (براغ) بدأت عام 1620 بمعركة الجبل الأبيض التي قمع فيها الإمبراطور فردينان الثاني ثورة البروتستانت على السلطات الكاثوليكية وأدام سيطرة الأخيرة على البلاد، وينتهي عام 1911 حين صارت المدينة عاصمة الإمبراطورية البوهيمية القديمة.
الولادة والفتوة
ولئن كان كاتب السيرة راينر ستاغ يخالف التسلسل الطبيعي لكتابة السيرة جاعلاً سرد وقائع ولادة كافكا وطفولته، في الجزء الأخير (المجلد الثالث) من السيرة، باعتبار أن الجوهري في سيرة كاتب بهذه القامة إنما يكون بلحظة شروعه في الكتابة، فإن ولادته حدثت عام 1833 بمدينة براغ في الثالث من يوليو (تموز)، وهو اليوم الذي تجاوز فيه تعداد الناخبين التشيكيين وفقاً للقواعد الأكثر ديمقراطية في أوروبا، أعداد أمثالهم الناخبين الألمان، وتلك هي الثورة التي اجترحتها المدينة وصنعت فرادتها، أي أن تكون عنوان الديمقراطية في أوروبا الوسطى والغربية في آن، على ذمة الكاتب، نصير براغ واليهود فيها.
ولا ينسى الكاتب أيضاً أن يشير إلى ظروف عيش طائفة اليهود في براغ التي يتحدر منها كافكا، ذاكراً كيف أن السلطات الملكية كانت قد حصرت أعداد العائلات اليهودية في 8541 عائلة، وكيف أن الجد جوزيف أمكن له أن يشتري الحق في الزواج والإنجاب لابنه ووسيك (أي والد فرانز) من السلطات، بعد موته.
ربيَ الطفل فرانز، على اسم إمبراطور النمسا، في أسرة ميسورة إجمالاً بين والد تاجر وشديد القسوة حياله وأمّ ذات اتجاه روحي على غرار عائلتها الأولى، أما موت أخويه جيورج وهنريش باكراً فقد أورث في نفس والدته حزناً مقيماً انعكس عليه وعمّ بقية حياته، ولئن عاشت أخواته الثلاث الباقيات، غبريالا وفاليريا وأوتيللي، بعده، فإنهن قضين جميعهن في خلال حملات الإبعاد والإبادة بمعسكرات أوشفيتز عام 1942.
ومع ذلك يقول الكاتب ستاغ إن نقاباً من المجهولية كان لا يزال يكتنف أجزاء من حياة كافكا، ولا سيما طفولته الأولى، على رغم المعلومات الشائعة حول ولادته ونشأته ومراحل تعليمه الأولى المتداولة في مدارس براغ، ودخوله إلى كلية الحقوق ليتخرج فيها موظفاً في دائرة التأمين نهاراً، فيما يقضي الليل منصرفاً إلى القراءة والكتابة الأدبية إلى أن انكشف بعض من هذه الغوامض الباقيات، من خلال جردة الحساب الشهيرة التي أجراها فرانز في حق أبيه، إذ خاطبه برسالة ذات دلالات كثيرة وضع لها عنوان "رسالة إلى أب"، غير أنه لم يجرؤ مطلقاً على تسليمها له إبان حياته.
وفي الرسالة يضع فرانز اللائمة على التربية الصارمة بل الشديدة التي لقيها من أبيه منذ طفولته الأولى، والتي كرسته في أذهان أبنائه والبنات حاكماً وحيداً ومتسلطاً لا يناقش في شيء، ويملك حكمه الُبرم على كل شاردة وواردة في العائلة من دون أي رد أو اعتراض، ويذهب كافكا، بالرسالة الآنفة، في تصويره أباه إلى اعتباره نموذجاً في النرسيسية التي كانت تحمله على تدمير أبنائه وبناته معنوياً. أما شر ما فيه فهو اعتباره الأديب طفيلياً في مجتمعه وغير مفيد حيثما حل، ولعل هذا ما يفسر تفسيراً تحليلياً فرويدياً الحافز النفسي الذي كان يحث كافكا على إسقاط صورة أبيه على بعض الصور النموذجية والرمزية، في كتاب "المسخ" أو التحول مثلاً، وغيرها، على حد ما خلص إليه مؤلف السيرة، وفي نبرة ترجيحية غير يقينية.
الأدب وفلوبير
وبالانتقال إلى مفهوم الأدب وتصور الكتابة القصصية والروائية عند كافكا، والتي انطوى عليها المجلدان الأول والثاني، يُفهم من المؤلف راينر ستاغ أن صور الأدب القصصي والروائي لديه تطورت بشكل ملموس منذ أن شرع في محاولاته الأولى وهو في الـ 24 من عمره، وكانت عبارة قد بلغ الـ 30 من عمره. ومما كتبه كافكا وتلاشى أثره وكاد يمحي من خزينه الأدبي "وصفُ معركة تحضير للزواج في الريف"، وقد أخضعه الكاتب لتحليله النفسي، أما النصوص الأولى التي نشرها في "مجلة هيبيريون" فكانت قطعاً قصيرة جعلها تحت عنوان "تأمل". أما الجملة الأولى التي أطلقها كافكا ولم يكن قد بلغ الـ 14 بعد فكانت عبارة دوّنها في ألبوم قصائد كتبها صديقه الذي صار فيلسوفاً، وهو هوغو برغمان المتوفى في القدس عام 1975، "إننا نأتي ونمضي، فنقول وداعاً من دون أن نلتقي أبداً".
ولن نتناول ما اجتهد به مؤلف السيرة في شأن جملة كافكا وأبعادها ودلالتها على نبوغ باكر وانكسار عاطفي عميق، ونؤثر الكلام على التطور الذي أصاب رؤية كافكا الأدبية، إذ يقول ستاغ ما مفاده أن كافكا، ولئن تأثر حيناً برأي صديقه الحميم ماكس برود، في إيثاره أعمال الأديب الألماني غوستاف مايرينيك التي مال فيها إلى الحكمة والتصوف والنظرية الإشراقية واليوغا، وليس له سوى رواية "غوليم" التي عوض فيها فشله في المجال المصرفي، فإنه لم يلبث أن انتصر لكتابة فلوبير، الروائي الفرنسي، بعد أن قرأ له روايته "التربية العاطفية" وبالفرنسية. ومضى يدعو صديقه برود إلى التبصر بلغة الأخير الأدبية قائلاً له "إن من يتشرب من نثر فلوبير يكن محصناً ولمرة أخيرة من فراشات مايرينيك المبرقشة"، وفي هذا إشارة إلى رفضه نزعة مايرينيك الصوفية والإشراقية، كما فيها إحالة إلى أحد منابع لغته ( كافكا) السردية المتأثرة بالرواية الفرنسية الرفيعة (فلوبير)، والساعية إلى بناء عالم أقرب ما يكون إلى جوهر الواقع المطعم بالخيال، والمحاكي لمصير الكائن البشري المستوحد، والناظر في عبث مصيره ولا معناه ووجوده، والمرتعب من الموت القادم إليه بعد حرب عالمية أهلكت ملايين البشر.
والحال أن موقف كافكا هذا من مايرينيك يضاف إلى الشهرة التي حصدها بعيد موته في العالم أجمع، جاعلاً صديقه برود يعدل عن تخصيص الأديب مايرينيك بأي فصل من كتابه عن رفيق دربه كافكا، وهو كاتم أسراره ومنفذ وصاياه، إلا تلك المتعلقة بإحراق كل أوراقه ومخطوطاته بعد الممات.
كافكا والمرأة
قيل كثير عن علاقة فرانز كافكا بالنساء ولا يزال الأكثر قيد الكشف، سواء عبر الرسائل التي خطها للحبيبات أو للصديقات أو غيرهن من اللواتي جمعته بهن علاقة عابرة، ولا يعني هذا الأمر أن كلاً من هؤلاء الباحثين أصاب في تحليله شأناً لم يدع له صاحبه كثيراً من الأدلة القاطعة عليه سوى رسائله إلى النساء، صديقات وخطيبات لم يتسن له أن يحقق مع إحداهن حلمه بتكوين عائلة لأسباب غالباً ما تعود له، على ما أجمع الباحثون واختلفوا في تعيينها، ومن هؤلاء تقول الكاتبة الفرنسية جاكلين راوول دوفال في روايتها "كافكا الخاطب الأبدي" والتي نقلها إلى العربية الكاتب المغربي محمد آيت حنا، ما مفاده أن المرأة لدى كافكا إنما كانت وقوداً للكتابة الأدبية والمراسلات وحافزاً للاستزادة فيها، ولم تكن لتمثل وجوداً أنسياً قائماً بذاته ومعترفاً بطبيعتها الأنثوية وبلمساتها الخاصة، وحضورها الفاعل في عالمه القاتم.
في حين يعزو بعضهم عجز كافكا عن إكمال علاقاته الغرامية أو صداقاته بالنساء أو اللواتي خطبهن، فيليس بوير وجولي وهرينزك وميلينا جيزنسكا ودورا ديامان، إلى شاغل أو بُعد كابوسي كان يحول دون إقراره بمكانة المرأة في حياته الوجدانية العميقة، وتالياً في أعماله الأدبية، بدليل أنك لا تجد في هذه الأعمال سوى صورة المرأة الأخت والعاملة والخادمة والزوجة والمغنية، على حد قول فهمي الدسوقي لدى ترجمته "رسائل إلى ميلينا" التي خطها كافكا.
وفي المقابل يرسم كاتب سيرة كافكا الكاملة، راينر ستاغ، صورة كانت لا تزال ناقصة في سجل علاقة كافكا بالمرأة، فيقول في المجلد الثالث الذي عنيَ بالكشف عن وثائق وكتابات تثبت جانبا كان لا يزال مخفياً في هذا الشأن، إن الأخير قام بأولى تجاربه الجنسية عام 1903 لدى بلوغه الـ 20، إذ إنه قصد المبغى بعد أن أوعز إليه أبوه بذلك، ربما احتفاء برجولة ابنه وإعداداً لزواج محتمل، وأيا يكن الأمر فإن كافكا لم يستسغ التجربة مع المومس، وإنما عاد منها منغصاً متألماً.
على أن العلاقة العاطفية والجنسية إلى حد ما، والتي يعتد بها بحسب الكاتب ستاغ، فتعود للعام نفسه 1903 حين كان طالباً في كلية الحقوق، وكان لا يزال يدرس بنشاط مضجراً، تاريخ القانون الروماني، لفته خيال شابة عاملة في مخازن الألبسة المقابلة فمضى ينتظرها، ولما أدركت الشابة أنه يترقبها أشارت إليه بانتظارها حالما تنتهي من العمل، ولدى خروجها من العمل كان ثمة شاب في استقبالها، ولكن المغامرة مع الشابة المستهلة بنظرة، لم تنته عند هذا الحد وظل يلاحقهما في المقهى ويضرب لها موعداً حالما تصير وحدها في الفندق القديم، إلى أن قامت "بعمل دنيء (لا مجال لذكره)، بل وساخة صغيرة (لا لزوم لذكرها)"، بحسب ما ورد على لسان كافكا بالذات، في إحدى رسائله إلى ميلينا بعد 17 عاماً على تلك المغامرة التي لم يشف من إثارتها، وإن كشفت عن ميل إلى تجنب الفعل الجنسي وتفضيل العيش بذكرى صاحبة الإثارة.
السباحة والسينما
أمران آخران تكشف عنهما سيرة كافكا الكاملة لمؤلفها راينر ستاغ، وهما هواية السباحة التي لم يكف عنها وشغفه بالسينما، ويروي ما مفاده أن كافكا الشاب لطالما كان يقصد مدرسة السباحة الأهلية في براغ ويمضي أوقاتاً فيها لممارسة هوايته، وليحافظ على اسمرار سحنته السمراء أصلاً، أما حبه للسينما فما كان يخفيه، إذ لطالما تردد إلى صالات المدينة براغ يوم كانت الأفلام صامتة، ولطالما أدهشته الإعلانات التي تروج لهذه الأفلام وأثارت مخيلته ودفعت به إلى محاكاتها في كتاباته السردية، ولما كان مقيماً في مدينة برلين أواخر أيامه عام 1924 وقد شغف بأفلام شارلي شابلن، تناهى إليه أن صالات السينما في المدينة باشرت بعرض فيلم "ذي كيد" الجديد له، فهمّ بمشاهدته إلا أن اشتداد عوارض المرض (السل) عليه حال دون تحقيق رغبته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولكن لا يضير كاتب السيرة الكاملة لأديب عالمي مثل كافكا أن يدافع عن طرحه القائل بأن فرانز كافكا كان صهيونياً، وأنه كان على وشك السفر إلى فلسطين لولا أمور كثيرة ومنها اعتلال صحته، ومن تلك الأدلة أن أحد أصدقائه الخلص كان الفيلسوف هوغو برغمان الذي توفي في القدس عام 1975، وهذا من دون الكلام على بيئته اليهودية وتعرفه إلى التراث اليهودي التلمودي على يد خطيبته الأخيرة دورا ديامان المتصهينة والداعية إلى توجه اليهود صوب فلسطين.
ولكن الرد على هذا الطرح لا يتأخر حتى من طرف مؤرخي كافكا والأدباء التشيك الناطقين بالألمانية، بالقول إن فرانز كافكا نشأ في كنف عائلة ميسورة نسبياً وغير متزمتة دينياً، بدليل أن أفراد عائلة كافكا ومنهم فرانز لم يطأوا أرض كنيس اليهود في المدينة سوى أربع مرات، وأن حياة المدينة المنفتحة والكوزموبوليتية التي دفعت بإحدى أخوات كافكا الثلاث أن تتزوج بشاب كاثوليكي، على خلاف رغبة الأب، لا توحي بأن التعصب عامل أساس في توجهات سائر أفراد عائلة كافكا، ثم إن كثيراً من الباحثين يوردون كلاماً مقتبساً من رسائل كافكا وأعماله السردية تدل على تبرمه من التقاليد اليهودية والصهيونية، أما البينات الحاسمة في هذا الأمر فهي خلو أعمال كافكا قاطبة من أي ذكر للصهيونية أو أية دعوة إلى تبني هذا الفكر السياسي المتشدد، بل لعل هذا الخلاف الضاري بين نقاد أدب كافكا في نسبة أعماله إلى الفلسفة الماركسية حيناً والوجودية حيناً آخر، والعبثية العدمية أحياناً، خير دليل على أن أبعاد أعماله تنغرز في جذور أزمة الإنسان الفرد في عالمنا المعاصر، وأن دلالات أعماله الأدبية تلبث أعم وأشمل من كل قياس أو قيد.
وأياً يكن فإن هذه السيرة الشاملة لأحد أرباب الرواية والقصة في العصر الحديث، فرانز كافكا، والتي أعدها الباحث الألماني راينر ستاغ بمجلداتها الثلاثة وترجمها إلى الفرنسية ريجيس كاتروسو، وصدرت عن دار متواضعة هي "لو شيرش ميدي"، تعتبر حدثاً مهماً ومرجعاً لا غنى عنه لأي باحث وقارئ معني بالأديب كافكا.