Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية "الهروب الكبير" التي صنعت لونستون تشرشل مكانته

"بطل الإمبراطورية البريطانية" يخوض حرب البوير ليحقق فيها تلك المآثر التي ستحوله من دون تمهيد إلى الزعيم الكبير

ونستون تشرشل: محافظ واستعماري منذ صباه المبكر (غيتي)

ملخص

جاءت الأقدار الأقدار بمعجزة صغيرة للزعيم البريطاني ونستون تشرشل في شبابه، فهو بشكل ما تمكن ذات ليلة من أن يتسلق سور سجن خلال حرب البوير ويهرب من جلاديه متابعاً طريقه عابراً المدينة التي لا يعرفه أحد فيها، إذ كانت تعج بأبناء جلدته، وصولاً وعلى قدميه أيضاً كما سيقول هو نفسه إلى مناطق مجاورة تقع في مستعمرة موزمبيق البرتغالية.

لا شك في أن الزعيم البريطاني ونستون تشرشل لن ينكر طوال حياته ما للصحافة من فضل عليه ومن دور في "صنعه" ليس زعيماً لبلاده خلال الفترة السابقة على الحرب العالمية الثانية أو تلك اللاحقة لها، بل أكثر من ذلك وأهم منه، في الفترة القديمة جداً التي كان خرج فيها لتوه من سن المراهقة، في زمن اندلعت فيها حربا البوير الأولى ثم الثانية في مستعمرة جنوب أفريقيا وكان هو في عشرينياته، وانصرف لتوه للعمل في الصحافة، فما كان منه لإيمانه بالاستعمار وبعظمة بلاده إلا أن التحق بالقوات البريطانية هناك ولكن كمراسل صحافي أكثر منه جندياً مقاتلاً. وهو على ذلك النحو بدأ حياته "المهنية" التي كانت هي طريقه، بأفكاره الكولونيالية المحافظة للوصول إلى المكانة التي ستكون له في تاريخ بلاده والعالم بعد ذلك بعقود طويلة، غير أن الصحافة التي سيمضي تشرشل حياته وهو يشعر بالدين لها ليست تلك التي عينته مراسلاً لها خلال حرب البوير، بل الصحافة الأخرى التي قدمته في بريطانيا نفسها إبان اندلاع حرب البوير الثانية في الأقل بوصفه صاحب "بطولة لا تضاهى" معنونة مقالة نشرتها عنه في الصفحات الأولى للصحيفة الشعبية في ذلك الحين "يوركشير ايفننغ بوست"، و"بطولات السيد تشرشل"، والحقيقة أن لتلك الحماسة خلفية من المؤكد أن لاعلاقة لها بالسياسة ونتائج لم تنعكس على أية حال على مصير سياسي كان ذلك الشاب يتوخى تحقيقه، وأولاً عبر ترشحه عن المحافظين في الانتخابات التشريعية، إذ لم يلاق نجاحاً أول الأمر كما نعرف، لكن الحكاية ملأته بنوع من الثقة بالنفس حددت له مستقبله، فما تلك الخلفية؟

سياق مغامرة ما...

هي خلفية عسكرية فيها قدر من المغامرة على أية حال، وتبدأ مع تعيين صحيفة "مورننغ بوست" الشاب ونستون تشرشل عام 1899، وهو في الـ24 من العمر مراسلاً حربياً لها في حرب البوير كما أسلفنا، براتب قدره ألف جنيه في مقابل تحقيقات يزودها بها من الجبهة المندلعة طوال أربعة أشهر، والحقيقة أن تشرشل كان سبق له قبل ذلك أن شارك في حروب ومعارك كولونيالية خاضها الإنجليز في السودان والهند، ليعود بعدهما محاولاً استغلال تلك المشاركة في عمل سياسي انتخابي لم ينجح فيه على الإطلاق، ومن هنا بات أمله كله محصوراً في تجربته الحربية الثالثة في حرب البوير التي أمل منها أن تكون نوعاً من التعويض، وبالفعل ستكون كذلك، ولكن في شكل لم يكن ليخطر له في بال. فخلال توجهه إلى الجبهة هناك قبض عليه البوير الأعداء وأرسلوه مخفوراً مرغمينه على الانتقال وسط حراسة وعلى الأقدام إلى بريتوريا، إذ ينتظره سجانوه بلا مبالاة. وهنا بالتحديد، وتحديداً بفضل تلك اللامبالاة التي لم يكن الصحافي الشاب ليأمل بها، جاءته الأقدار بتلك المعجزة الصغيرة التي لم يدر هو نفسه كيف حدثت، إذ يبدو واضحاً أنها ستغير حياته كلها. فهو بشكل ما تمكن ذات ليلة من أن يتسلق سور السجن ويهرب من جلاديه متابعاً طريقه عابراً المدينة التي لا يعرفه أحد فيها، إذ كانت تعج بأبناء جلدته، وصولاً وعلى قدميه أيضاً كما سيقول هو نفسه إلى مناطق مجاورة تقع في مستعمرة موزمبيق البرتغالية.

معجزة مباغتة

كانت تلك هي المعجزة غير المأمولة والبداية الحقيقية لذلك الشاب الطموح الذي لم يتمكن أبداً من أن يشرح كيف حدث ذلك، لكنه وكما تروي كاتبة واحد من أقوى الكتب التي تناولت سيرته، "بطل الإمبراطورية: تصنيع ونستون تشرشل"، كانديس ميلارد التي ما إن أصدرت كتابها هذا في عام 2016 ليعتبر من أفضل الكتب عن تشرشل حتى ترجم إلى عدد كبير من اللغات كاشفاً عن حكايات عدة من هذا النوع، أوضحت كثيراً من الأمور الغامضة التي رافقت حياة ذاك الذي بدأ منذ ذلك "الهروب الغامض الكبير" يشق طريقه "نحو القمة" بحسب تعبير الصحافة الأميركية والبريطانية التي حيت صدور الكتاب بقوة. والحقيقة أنه لئن كان ثمة إجماع من حول هذه السيرة الجديدة لتشرشل، فإنه إجماع اعتبر أن ما في الكتاب وفي مجال توضيحاته في شأن البدايات الحقيقية لأكبر زعيم سياسي بريطاني ظهر في القرن الـ20، يفسر بدايته الحقيقية التي تقوم على أية حال انطلاقاً من حادثة الهرب، ولكن تحديداً انطلاقاً من استخدام ونستون نفسه، إعلامياً في الأقل، لتلك الحادثة لبناء مستقبله السياسي بمساعدة محيطين به ساعدوه حقاً في استخدام الحكاية استخداماً ينتمي إلى البروباغاندا السياسية عن كثب. فالحقيقة أن ذلك المرشح الذي فشل في انتخابات عام 1899 النيابية يبدو الآن بطلاً قومياً حقيقياً و"فرخ زعيم كتبت له مغامرته البطولية الأسطر الحقيقية الأولى لمستقبل سياسي باهر" بحسب ما كتب أحد المعلقين الأميركيين على الكتاب، مضيفاً "غير أن هذا لا يهم حقاً، وحتى ولو أن مشاركته في حرب البوير الثانية لم تتسم بما يكفي من حكايات وأمجاد في إمكانها أن تكفي مادة لكتاب يحتفي بكل ذلك. ففي نهاية الأمر ها هي حكاية "هربه البطولي"، سواء كان حقيقياً أم مزعوماً، تكفي لذلك بل تزيد". والحقيقة أن كاتب تلك الأسطر يبدو موفقاً في هذا الاستنتاج بالنظر إلى أن انتشار تلك الحكاية غير تماماً الصورة التي انطلق الصحافي الشاب منها إلى الآفاق السياسية الرحبة، فهل تراها كانت صحيحة أم غير صحيحة؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هذا ما صنع تشرشل

طبعاً لم تكن هذه النقطة شديدة الأهمية ما دام أن مؤلفة الكتاب لا تطرحها للنقاش، أو لكي تقول إن تشرشل ما كان ليوجد لولاها. بل كانت غايتها في أكثر الحالات ارتباطاً بسوء الظن أن تظهر الفاعلية الكبرى للدعاية في صنع السير التاريخية لـ"كبار القوم" وحتى من دون أن توضح ذلك. ففي النهاية يمكننا بعد كل شيء أن نقول إن أمرين أساسيين هما ما صنع ونستون تشرشل، كما يصنعان عادة غيره من كبار زمنه وكل الأزمنة: الطموح الشخصي واللحظة التاريخية التي تحول ذلك الطموح برنامج عمل من ناحية، وبساطة الناس وطيبتهم التي تجعلهم يصدقون كل شيء وأي شيء يريدون أصلاً تصديقه، وهو أمر لا بد أن نذكر هنا بكيف أن الكاتب البلغاري الأصل في اللغة الألمانية إلياس كانيتي الحائز لاحقاً على جائزة نوبل الأدبية كان من بين الذين عالجوه بإسهاب، وذلك في كتابه "الجمهور والسلطة"، بحيث لم يترك في هذا المجال التحليلي العميق زيادة لمستزيد. وهذا ما يعيدنا في هذا السياق لكتاب كانديس ميلارد الذي هو موضوعنا هنا، لنذكر أن الصورة التي تبقى مما تسرده الكاتبة في هذا النص الشيق حول ونستون تشرشل الشاب، هي في نهاية الأمر صورة فتى خرج من المراهقة إلى سن الشباب لتوه ليجد نفسه مختلفاً عن مجايليه وبقية مواطنيه، وفي الأقل بالنسبة إلى طموحه الذي لا يحد. وآية ذلك نجده في ثنايا رسالة بعث بها إلى أمه، حين كان يقاتل في عداد القوات الاستعمارية البريطانية في الهند، إذ يقول "لا شك أن الآلهة كلها مجتمعة ليس من شأنها أن تخلق كائناً مثلي لكي يصل إلى غاية واضحة وجلية وضوح الغاية التي أتطلع لبلوغها". ولعل في مقدورنا أن ننطلق من مثل هذه الكلمات كي نؤكد نظرة رئيس الحكومة البريطانية المقبل إلى الواقع الاستعماري الذي كان يتبناه تماماً. ففي النهاية وكما يقول أحد التعليقات الإنجليزية على هذا الكتاب "لا شك أن وينستون الذي ولد عام 1874، لم يخامره منذ صباه المبكر أدنى شك في صوابية التوجه الإمبراطوري لبلاده، ومن هنا يمكننا بالطبع أن نفهم أنه كان وقد أضحى نائباً معارضاً في مرحلة بين الحربين، كان الأكثر شراسة في مجلس العموم في رفضه لمشروع الحكم الذاتي للهند الذي كانت اقترحته حكومات تلك المرحلة المتعاقبة".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة