ملخص
قبيل انطلاق الألعاب الأولمبية، اقترح تكتل "الجبهة الشعبية الجديدة" اليساري اسم لوسي كاستيه كمرشحة لرئاسة الحكومة بعد نقاشات وجدل استمر نحو أسبوعين.
مع انتهاء الألعاب الأولمبية في باريس ومرور فترة الهدنة السياسية التي فرضت نفسها، تستعد الأوساط السياسية في فرنسا لاستئناف معركة اختيار رئيس الوزراء ومفاوضات تشكيل حكومة جديدة.
وفي ظل الاستقطاب والتحديات السياسية الحالية، يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون صعوبات كبيرة تتعلق بشرعيته وقدرته على ضمان استقرار الحكومة، وهذه الديناميكيات المعقدة تثير تساؤلات حول تداعيات الجمود السياسي المستمر على استقرار المؤسسات السياسية في فرنسا.
في هذا السياق، قالت المتحدثة باسم الحزب الاشتراكي كلوي ريديل إن ماكرون "لا يمكنه الاستمرار في تعطيل المؤسسات والبلاد لفترة أطول"، داعية إلى "احترام الوضع الذي أوجده ونتائج الانتخابات"، ومع تأكيداتها على أهمية "الوحدة والانسجام" خلال فترة الألعاب الأولمبية دعت ماكرون أيضاً إلى "الاعتراف بنتائج الانتخابات" واستئناف "محادثات تشكيل الحكومة".
في الأثناء، تتداول الأوساط السياسية في فرنسا حالياً أسماء عدد من الوزراء السابقين كمرشحين محتملين لتولي منصب رئيس الحكومة، مثل كزافييه برتران وميشال بارنييه وجان لوي بورلو من اليمين، وبرنار كازنوف من اليسار المعتدل.
قبيل انطلاق الألعاب الأولمبية، اقترح تكتل "الجبهة الشعبية الجديدة" اليساري اسم لوسي كاستيه كمرشحة لرئاسة الحكومة بعد نقاشات وجدل استمر نحو أسبوعين، وتشغل كاستيه حالياً منصب مديرة المالية والمشتريات في مدينة باريس، بعدما أمضت ثلاثة أعوام مستشارة لعمدة باريس آن هيدالغو، إذ كانت مسؤولة عن الموازنة والتمويل الأخضر. على رغم ذلك، يعتقد ماكرون بأن الجمعية الوطنية تتعجل في إقالة الحكومة المقترحة، مما يثير مخاوف في شأن استقرار الحكومة الجديدة.
وضع سياسي معقد
في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، قال الباحث في الشؤون الأوروبية محمد رجائي بركات إن الدستور الفرنسي يفرض على رئيس الجمهورية تكليف الحزب الذي يحقق أعلى نسبة في الانتخابات تشكيل الحكومة، غير أن التحدي يكمن في أن التحالف اليساري، بما في ذلك الحزب الاشتراكي، لم ينجح في تحقيق الغالبية في البرلمان، مما يجعل تشكيل حكومة برلمانية أمراً معقداً.
وفي ما يتعلق بشرعية ماكرون السياسية، يشير بركات إلى أن الرئيس إيمانويل، بصفته رئيس الجمهورية، يتمتع بشرعية دستورية تتيح له الاستمرار في الحكم حتى نهاية ولايته، ويضيف أن هذا الوضع ليس غريباً في الأنظمة الأوروبية، إذ يشهد التاريخ حالات مشابهة مثل تجربة بلجيكا التي كانت أمام مشاورات طويلة لتشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات الأخيرة استغرقت أكثر من 600 يوم.
وعن الخيارات الديمقراطية، أوضح أن كل طرف يعتبر أنه يملك الحق في تشكيل الحكومة نظراً إلى عدم تحقيق أي طرف للغالبية الكافية، مما يعكس التحديات الراهنة في التوصل إلى توافق سياسي واسع، ومن ناحية أخرى يرى بركات أن ماكرون قد يفضل إبقاء الحكومة الحالية في منصبها لتسيير الأمور اليومية بصورة موقتة من دون اتخاذ قرارات حاسمة حتى يتم تشكيل حكومة جديدة، لكنه يشير إلى وجود معارضة لهذا النهج.
علاوة على ذلك، يرجح بركات أن يسعى ماكرون إلى تأخير تعيين مرشح لتشكيل حكومة جديدة، نظراً إلى أن جزءاً كبيراً من الفرنسيين يرى أن التحالف اليساري لا يمثل كل الشعب لعدم تحقيقه غالبية كافية، مضيفاً أنه "إذا استمر التأخير، من الممكن أن يلجأ ماكرون إلى اختيار شخصية مستقلة من خارج الأحزاب السياسية لتشكيل حكومة تكنوقراط تدير البلاد حتى نهاية ولايته، وربما يلجأ كذلك إلى اختيار شخصية سياسية بارزة تحظى بموافقة كبيرة من أعضاء الجمعية الوطنية مثل ميشال بارنييه الذي شغل منصب وزير في الحكومة الفرنسية وهو عضو في المفوضية الأوروبية ومتخصص في الشأن الاقتصادي معروف في الأوساط الأوروبية والعالمية".
الاستقرار يظل متماسكاً
وعلى رغم عدم تشكيل حكومة جديدة على الفور، يرى بركات أن النظام الفرنسي القائم على المؤسسات سيسهم في ضمان استمرارية العمل الحكومي، مما يقلل من احتمالية تأثير هذا التأخير في استقرار البلاد بصورة كبيرة، معتبراً أن تعقيد الوضع يتزايد بسبب عدم التوصل إلى اتفاق واضح بين أحزاب اليسار حول مرشح رئاسة الجمهورية، إضافة إلى التحالف الأخير بين هذه الأحزاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقال "حتى الآن، لم يتم التوصل إلى توافق مباشر على شخصية محددة لقيادة الحكومة المقبلة، كما أن الشخصية التي تم اختيارها حالياً تواجه انتقادات من بعض الأوساط. وعلى رغم استمرار الأوضاع على ما هي عليه، فإن مؤسسات الدولة الفرنسية ستظل مستقرة ولن تتأثر بصورة كبيرة".
هشاشة اليسار وتحديات ماكرون
من ناحية أخرى، يرى الباحث السياسي نبيل شوفان أن اليسار المتحالف يبدو هشاً حتى الآن، فحركة "لا فرانس أنسوميز" التي التزمت الصمت على نحو غير معتاد خلال الألعاب الأولمبية، تستعد للعودة مع بداية العام الدراسي بهدف واحد، وهو تمهيد الطريق لجان لوك ميلانشون ليصبح الشخصية المركزية في اليسار قبل الانتخابات الرئاسية عام 2027 وقبل ظهور منافسين آخرين من الأحزاب المتحالفة.
في الوقت نفسه يحاول الأمين العام للحزب الاشتراكي أوليفييه فورالحفاظ على توازن داخل حزبه، بينما يرتفع صوت المشككين في جدوى التحالفات الحالية، معربين عن اعتقادهم بأن أوليفييه فور يبالغ في الظن بأن ميلانشون سيفسح له المجال عام 2027، وأدى ذلك إلى تأجيل "اتفاقية التوضيح" التي اقترحها خصوم فور الداخليين، مما أسفر عن تأجيل المؤتمر العام للحزب.
ويضيف شوفان أن بعض الاشتراكيين يفكرون في أشكال من المعارضة البناءة لحكومة ماكرون، مما يهدد وحدة اليسار ويؤثر في قدرته على تولي السلطة، ومع ذلك يرجح أن يستمر الوضع السياسي الحالي إلى نهاية الألعاب البارالمبية، قائلاً إن بعضهم يؤيد معسكر الرئيس عندما يشير إلى أن جميع الأحزاب لا تتفق على أي شيء فعلياً، مما يراه مراقبون صحيحاً، خصوصاً أن الفرنسيين صوتوا لتحالف اليسار فقط لتجنب صعود أقصى اليمين.
من ناحية أخرى، يتهم خصوم ماكرون المعسكر الرئاسي بأنه يبحث عن استراتيجيات لعرقلة وصول مرشح يساري، في إطار سعيه إلى تسمية رئيس وزراء يميني اجتماعي ومعتدل، يكون قادراً على الصمود لمدة عام حتى موعد الانتخابات الجديدة.
وقال شوفان في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن "الأرنب" الذي يتعين على ماكرون "سحبه من قبعته" يجب أن يكون قادراً على جمع الأطراف وفق صيغة التناوب بدلاً من التعايش، كما يقول معسكر الرئيس، بمعنى أن تكون الشخصية من معسكر واحد لكنها قادرة على التواصل مع الجميع، وستكون هذه الشخصية مكلفة مهمة شبه مستحيلة تتمثل في توحيد فريق متماسك وإبرام عقد حكومي يمكنه إقناع غالبية النواب في المجلس باعتماد النصوص، بدءاً من موازنة 2025، في وقت تواجه فرنسا خطر اتخاذ إجراءات بسبب العجز المفرط من قبل بروكسل.
وفي التصريحات التي صدرت من المعسكر الرئاسي، يقول وزير الداخلية جيرالد دارمانان "ليس من غير الطبيعي أن يقود شخص من خارج عائلتنا السياسية الحكومة"، مشيراً إلى احتمال تعيين كزافييه برتران، المنتمي لحزب الجمهوريين اليميني الوسطي، رئيساً للوزراء.
شرعية ماكرون ما زالت قائمة
بحسب شوفان، لا يوجد اعتقاد من وجهة نظر موضوعية بأن شرعية ماكرون موضع تشكيك، ليس بتلك السهولة أبداً، وإن أثار بعضهم نقاشاً حولها فهذه لفتة مبكرة وربما بغير مكانها، فقبل كل شيء، الشرعية إلى جانب صفتها القانونية الدستورية تدعم أيضاً بمعايير اجتماعية وثقافية سياسية مقنعة بين أفراد الطبقة السياسية من أعضاء الشيوخ وزعماء المعارضة والنقابات والمجتمع المدني ورواد الإعلام.
ويشير إلى أن شعبية الرئيس ارتفعت وفقاً لأحدث استطلاع أجرته مؤسسة "إيلاب" في نهاية يوليو (تموز) الماضي، إذ أظهر زيادة قدرها نقطتين في معدل ثقة الرئيس، لتصل إلى 27 في المئة. وعلى رغم أنها نسبة منخفضة مقارنة بما حدث مع جاك شيراك خلال تنظيم فرنسا لمونديال 1998، إلا أن ماكرون قد يستفيد من أجواء الاحتفالات التي خففت من الاحتقان وجعلت الناس أكثر تساهلاً. وأجرت صحيفة "ويست فرانس" استطلاعاً حول ما إذا كان الفرنسيون يتطلعون إلى تعيين رئيس وزراء جديد بعد انتهاء الألعاب الأولمبية، وكانت النتائج كالتالي، 60 في المئة قالوا إنهم لا ينتظرون التعيين بفارغ الصبر، و30 في المئة ذكروا أنهم ينتظرون، بينما خمسة في المئة لم يكن لديهم رأي.
في الأثناء يقول عالم السياسة ستيفان روزيس إن الرياضة في فرنسا تُعدّ مناسبة موحدة للأمة، فيتلاشى الانقسام بفضل النجاح الباهر في تنظيم الألعاب وحصد الميداليات، ومع ذلك يتوقع ألا يغير التأثير الإيجابي للألعاب الأولمبية الأمور بصورة جذرية، وسيعود الواقع الذي خلفته الانتخابات التشريعية الأخيرة للظهور بسرعة، مما يجعل الفرنسيين يشعرون بأن تصويتهم بدأ يؤتي ثماره.
ضرورة توافق الأحزاب
ويؤكد شوفان أن على ماكرون أن يأخذ في الاعتبار نتائج الانتخابات وأن يعمل على الحفاظ على ثقة الفرنسيين بمؤسسات بلادهم الديمقراطية الليبرالية، وعليه أيضاً أن يشارك الجميع في إيجاد أفكار جديدة تضمن استمرار حياة الديمقراطية.
وبناءً على تصريحات وزير الداخلية الأخيرة، من المؤكد أن ماكرون يحتاج إلى اختيار رئيس وزراء. ومع ذلك، يجب أن توافق الأحزاب الحاكمة أيضاً على هذا الاختيار، ففي بعض الأحيان يبدو أن السياسيين لم يعودوا يرغبون في الحكم خوفاً من الصعوبات والعراقيل التي تسببت فيها الطموحات والتنافس والتقاطب غير المسبوق بين السياسيين في فرنسا.
أمام ما سبق وفي ظل التوترات الراهنة، ستعتمد قدرة الحكومة المقبلة على الاستقرار بصورة كبيرة على كيفية تعامل ماكرون مع هذه التحديات وقدرته على تحقيق توافق بين الأطراف السياسية، فنجاحه في إيجاد حلول توافقية سيكون له تأثير بالغ في استمرارية الحكومة المقبلة وفي فعالية النظام الديمقراطي في فرنسا، فهل سيتمكن من تجاوز الانقسامات السياسية وبناء توافق فاعل أم ستظل البلاد تواجه حالاً من عدم الاستقرار تهدد النظام الديمقراطي؟.