ملخص
اعتمد المخرج المصري محمود الحسيني، نص "ماكبث" لويليام شكسبير، في تقديم عرضه "ماكبث المصنع" مستبدلاً بأجواء شكسبير القديمة، أجواء العصر الحالي، التي يسيطر عليها الذكاء الاصطناعي، وإن ظلت مأساة البطل واحدة.
في مسرحية "ماكبث" لويليام شكسبير، يصدق ماكبث نبوءة الساحرات الثلاث بأنه سيصبح ملكاً، أو إن تلك النبوءة غذت لديه أطماعه في العرش، أي صادفت هوى في نفسه، فيرتكب جريمة قتل الملك دنكان، بتحريض من ليدي ماكبث، ويستولي على عرش اسكتلندا. وفي مسرحيته "ماكبث المصنع" استبدل المخرج محمود الحسيني، الذكاء الاصطناعي بساحرات شكسبير، فهل أراد، ضمن ما أراد، توجيه إدانته، أو تحذيره، إلى تلك الوسائل الجديدة، التي تتلاعب بالإنسان، مثلها مثل الساحرات الشريرات؟
إن أكثر ما يميز هذا العرض المسرحي، ثلاثة أشياء، أولها هو تلك الجرأة التي تعامل بها المخرج، مع نص ماكبث لويليام شكسبير، وثانيها قدرته على تطويع النص ليواكب اللحظة الراهنة، أو تطويع اللحظة الراهنة لاستعادة نص قديم وفق شروطها وتحولاتها، أما آخرها فهو اعتماده على فريق من الهواة (طلاب كلية طب الأسنان جامعة القاهرة) في تقديم العرض، الذي تأهل للمشاركة في المهرجان القومي للمسرح (ينتهي 15 الشهر الجاري) وكذلك مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي، الذي ينطلق في الأول من سبتمبر (أيلول) المقبل، ممثلاً لمصر مع عرض آخر، للهواة أيضاً، هو "حيث لا يراني أحد".
عرضان للهواة يمثلان مصر، وحدهما، في مهرجانها التجريبي، وهو أمر جدير بالمناقشة، ربما في سياق آخر، ليس هنا مكانه.
الابن الطامع
ماكبث العصري هنا هو ذلك الابن الطامع في احتلال مكانة والده الراحل كمدير للمصنع، وعندما يسأل عمه، الذي يترأس إدارة المصنع، متى يحل الدور عليه، وينتقل من مجرد عامل على سير الإنتاج، إلى مدير للمصنع، وصاحب خوذة فضية، يخبره العم بأن ذلك ربما يتم خلال عام أو ألف عام.
وكما دفعت ليدي ماكبث زوجها إلى قتل عمه لتولي عرش اسكتلندا، فإن زوجة ماكبث العصري تدفعه كذلك، وإذا كان ماكبث الأصلي قد تلقى نبوءة الساحرات الثلاث بأنه سيكون ملكاً، فقد استبدل المخرج بالساحرات تطبيقاً للذكاء الاصطناعي اسمه "مدركة" ليدله على طريقة للتخلص من عمه، ليصبح صاحب الخوذة الذهبية، لا الفضية فحسب، أي يكون الرجل الأول في المصنع لا الثاني، وإن كان ذلك مقابل أن يفقد يداً وساقاً وعيناً، أي أن يلازم تشوهه الداخلي تشوهه الخارجي، فيقبل ماكبث المصنع العرض ويتخلص من عمه، في انقلاب سيارة يقودها هو، ويتولى مكانه. ربما يحيلنا ذلك أيضاً إلى الحكاية الألمانية الشعبية عن الدكتور فاوست الذي يحقق نجاحاً كبيراً في عمله، ولكنه غير راض عن حياته فيُبرم عقداً مع الشيطان يسلم إليه روحه في مقابل الحصول على المعرفة المطلقة وكافة الملذات الدنوية. فالعقد بين ماكبث وتطبيق "مدركة" يتضمن فقده لبعض أجزاء من جسده، وفيه كذلك "شيطنة" لتطبيق الذكاء الاصطناعي.
تساؤلات العرض
يطرح العرض عدة تساؤلات، منها: هل كان العم مخطئاً بتسويفه في تحديد الموعد الذي يصبح فيه ماكبث رجلاً ثانياً في المصنع، هل كان يحتفظ بذلك المنصب لابنه عندما يكبر، هل كان يرى ماكبث غير جدير بهذا المنصب؟
لم يجب العرض عن ذلك، وهذه ليست مهمته بالتأكيد، بل ترك الأمر لتخمين المشاهد، وربما تكون الإجابة الأقرب إلى الدقة أن العم أراد بتسويفه هذا، أن يدفع ابن أخيه إلى الاجتهاد، ويجعله لا يعتمد فقط على ماضي أبيه. فالجريمة التي سيرتكبها هاملت ليست بدافع الانتقام الناتج من الإحساس بالظلم، بقدر ما هي بدافع طمعه وتشوهه الروحي في الأساس.
لم يحتمل ماكبث هذا التسويف، وسارع إلى قتل العم، بل إنه عندما سيطر على المصنع قام بطرد ابن العم، الذي لا حول له ولا قوة، ليصبح كل شيء تحت سيطرته هو. ارتكب ماكبث خطيئة القتل مدفوعاً بطمعه وتحريض زوجته، ومساعدة الذكاء الاصطناعي، وصار مشوهاً، داخلياً وخارجياً، وساءت علاقته بالزوجة، التي أصيبت بحالة من الجنون والهذيان، ما لبثت أن انتقلت إليه، لتسوء حالتهما وحالة المصنع، الذي لم يعد منتجاً كما كان، ولم يعد قادراً على تلبية حاجات طالبي منتجاته. لقد ساءت حالة ماكبث، وظل شبح عمه يطارده في المصنع، وانتابه الشك في زوجته فقام بقتلها، ليكتشف بعدها أنها كانت تحمل جنيناً في أحشائها لتكتمل المأساة وتصل إلى ذروتها.
يبدأ العرض بمشاهد سريعة تعكس إيقاع العصر وجموده ولا إنسانيته، وتحول الإنسان إلى آلة، ما بين عمل ماكبث في المصنع، وذهابه إلى البيت، ونومه، واستيقاظه للذهاب إلى العمل. علاقات آلية وباردة ومجردة من أية مشاعر طيبة، لا وقت لشيء سوى العمل والإنتاج. أدار المخرج هذه الانتقالات بأسلوب أقرب إلى الفوتو مونتاج السينمائي.
ركز المخرج في إدارة ممثليه على ما يمكن نسبته، في كثير من الحالات، إلى منهج "البيو مكانيك" الذي اعتمده الروسي مايرهولد في طريقة عمل الممثل، حيث يبدأ الممثل من الحركة وإيقاعها ليصل إلى المشاعر الداخلية، فضلاً عن الاقتصاد في التعبير، والابتعاد عن الثرثرة اللغوية، والإحساس أوتوماتيكياً بالانفعالات الداخلية، وتغيير حركة جسمه بشكل متواصل، وتقسيمها إلى حركات صغيرة، لخلق علاقة بين قدرات الممثل الجسمانية وأحاسيسه الداخلية. الحوارات سريعة وخاطفة ومقتضبة، والأداء والانفعالات تم ترشيدها في حدودها الدنيا، إلا في ما ندر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى رغم أن ممثلي العرض زياد محمد، ومحمود طاهر، ويمنى فتحي، وأحمد مكاوي، وهيلانا ناصف، وسيف الدين إسلام، ويوستينا هشام، من الهواة، الذين لم يتمرسوا كثيراً على مثل هذه الأداءات، فقد بدت جهود المخرج واضحة في ترجمة ما تدربوا عليه بشكل جيد، فاستطاعوا، من خلال الحركة وعلاقتهم بالفضاء المسرحي، إرسال إشارات، أو تأويلات، ربما لم يطرحها النص، وهو ما منح العرض، وصورته، مزيداً من الثراء، وفتح الباب كذلك، أمام المشاهد ليقرأ العرض بمعرفته، ويبحث عن شفراته، لا أن يجلس للتلقي والاستمتاع فحسب، ويخرج مثلما دخل.
تجريبية واضحة
لقد امتاز العرض بتجريبيته الواضحة، التي لم تركن إلى السائد، وحاول مخرجه الاقتصاد والتكثيف، واستغل الفيديو بروجيكتور في تجسيد مشاهد كثيرة ومتوالية، أسهمت في تسريع إيقاع العرض، وإن خفت إيقاعه قليلاً في دقائقه الأخيرة، واختفى تماماً توظيف البروجيكتور. فهل كان المخرج قد استنفد طاقته بعد كل هذا اللهاث الذي تضافرت فيه عناصر الصورة والحركة، والانتقالات السريعة والضربات المتلاحقة، أم أنه أراد تقديم المأساة في ذروتها، في هدوء وتركيز لتصل الرسالة إلى المشاهد؟
امتاز العرض كذلك بديكوره المائل إلى الرمزية (تصميم روماني جرجس) الذي استطاع من خلال عدة بانوهات تجسيد أكثر من منظر، بإعادة تشكيلها، أو تدويرها، بحرفية شديدة، أضفت ثراء بصرياً على صورة العرض، وأسهمت في ضبط إيقاعه.
في ذروة انشغاله بالصورة والاحتفاء بها، فات المخرج أن يمهد، ولو بإشارة سريعة، للتحول الذي أصاب زوجة ماكبث، وشعورها بالندم، ورفضها أن تنجب من زوجها، فالتحول الذي حدث لها، لم يكن له أي تمهيد أو مبرر يلمسه المشاهد ويسلم به، ما الدافع الذي جعلها تندم على فعلتها؟ نعم هي كانت ترى الدم على يديها، تماماً مثلما رأته ليدي ماكبث، ربما تطلب الأمر حدثاً ما أو جملة ما، لتبرير هذا التحول المفاجئ، بعيداً من الأحلام والكوابيس التي لا تعد سبباً كافياً، هنا تحديداً، لهذا التحول الدراماتيكي، بخاصة أننا بصدد عصر مختلف يسيطر عليه، أو يكاد، الذكاء الاصطناعي.