Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مصير غامض ينتظر مفاوضات جنيف لإنهاء الحرب في السودان

الانقسامات العميقة بين الجيش و"الدعم السريع" تجعل التوصل إلى اتفاق غير وارد على المدى القريب

اكتسبت المفاوضات حول الحرب في السودان زخماً كبيراً على المستويين الإقليمي والدولي (غيتي)

ملخص

يتفق عدد من العسكريين مع القوى السياسية التي تنادي بوقف الحرب في السودان، حول أنه بمنطق الحرب الحالية، فإن حسمها عسكرياً بعيد عن التصور.

على رغم إعلان الحكومة السودانية اختتام مشاوراتها التي عُقدت أخيراً بمدينة جدة السعودية، مع المبعوث الأميركي الخاص إلى السودان توم بيرييلو من دون التوصل إلى تفاهمات واتفاق في شأن محادثات السلام، وتعثر المشاورات التحضيرية في شأن أجندة التفاوض والمفاوضين، فإن وزارة الخارجية الأميركية أنهت الاستعدادات لمحادثات وقف إطلاق النار بين الأطراف المتحاربة في السودان بدءاً من اليوم الأربعاء في جنيف. وأعلنت واشنطن تمسكها ببدء محادثات جنيف "حتى في غياب" ممثلين عن الجيش بقيادة عبدالفتاح البرهان، إذ لم يتلق الجانب الأميركي تأكيداً من قيادة الجيش على الحضور، حسب ما أوضح بيرييلو في مؤتمر صحافي عقده عقب محادثات معمقة أجراها مع الجيش السوداني.
وكانت الخارجية الأميركية دعت طرفي الصراع إلى مفاوضات جنيف بهدف بحث وقف القتال، وإيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين في مناطق الصراع والنزوح، على أن تكون برعاية السعودية وسويسرا الدولة المستضيفة والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي والإمارات ومصر بصفة مراقبين، لتسهم في وقف الحرب. وتحدث وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن مع البرهان في الخامس من أغسطس (آب) الجاري، مشدداً على أهمية المشاركة في مفاوضات جنيف. وحضّ طرفي الصراع على التفاوض لوقف إطلاق النار.

هذه المفاوضات التي اكتسبت زخماً كبيراً على المستويين الإقليمي والدولي، تتعرض لضغوط من فريقين، يتألف الأول من متشددين مؤيدين لاستمرار الحرب، والثاني يضم مناهضين لها، ويقود الفريقان حملة شعبية لدعم موقفهما، مما يحيط نتائج الجهود بدائرة واسعة من الشك.

وبعد فشل اللقاء التشاوري بين وفدي السودان وواشنطن في جدة، أصبح التساؤل حول لقاء جنيف ملحاً، لا سيما أنه لا يتعلق بهذه المفاوضات وحدها وإنما بمصير السلام في السودان ككل، فمنذ بدايتها قبل 15 شهراً، استدعت الحرب حراكاً دولياً وإقليمياً واسعاً إلى جانب القوى السياسية والمدنية المنادية بضرورة المضي لإنجاح المفاوضات وإنهاء الحرب. وفي الإطار العام، تحذيرات جدية بثتها المنظمات الإنسانية الدولية بأن الحرب أثرت مباشرة في نصف سكان السودان، حيث تركت حوالى 25 مليون شخص في حاجة إلى المساعدات، وحوالى 755 ألف شخص يواجهون المجاعة. كما يُعتقد أن أكثر من 14 ألف شخص قُتلوا، وأصيب حوالى 33 ألفاً آخرين، وفر حوالى 11 مليون شخص بين نازحين ولاجئين.

مواقف الطرفين

عندما وجهت الخارجية الأميركية، الدعوة إلى مفاوضات جنيف، لقائد الجيش الفريق عبدالفتاح البرهان، وقائد قوات "الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي) في الـ22 من يوليو (تموز) الماضي، تحفظت قيادة الجيش على التسمية، ومع ذلك أرسلت وفدها إلى جدة للتشاور مع الوفد الأميركي حول الدعوة. وفُسرت هذه الخطوة تبعاً للظرف المحيط وتبعاته، بأن قرارات بعض قيادات الجيش تحتاج إلى مزيد من الجدية. ويعضد هذا الاعتقاد، التردد في المشاركة، واختيار وزير المعادن محمد بشير أبو نمو الذي يُصنف ضمن تشكيلة الوزراء الجدد منخفضي المستوى، ودون خبرات تنفيذية لازمة، وكل مؤهلاته تتلخص في أنه ينتمي إلى "حركة تحرير السودان- جناح مني أركو مناوي"، وتم تعيينه ضمن المحاصصات السياسية لاستقطاب الحركات المسلحة، إذ نال زعيم الحركة منصب حاكم عام إقليم دارفور.
ومع ذلك تعللت الحكومة التي تتخذ من بورتسودان مقراً بديلاً لها بتمسكها بضرورة تنفيذ "اتفاق جدة" الموقع مع "الدعم السريع" في الـ11 من مايو (أيار) 2023، وبعدم وجود مزيد من الضمانات والتنازلات في شأن أجندتها والمشاركين فيها وصيغتها، والاعتراف بمفاوضيها باعتبارهم وفد "حكومة السودان"، وليس مجرد وفد "القوات المسلحة السودانية".
في المقابل، أعلن قائد قوات "الدعم السريع" موافقته على المشاركة في مفاوضات جنيف، داعياً الجيش للاستجابة للدعوة والمشاركة. ولكن "الدعم السريع" ظل على موقفه الذي صرح به من قبل بأنه لن يتفاوض إلا مع القوات المسلحة، معلناً عدم اعترافه بالحكومة بسبب انقلاب الـ25 من أكتوبر (تشرين الأول) 2021، وعدم السماح لأية مؤسسة أخرى مثل وزارة الخارجية السودانية بالمشاركة في المفاوضات.


مستويات متفاوتة

وفي ما يتعلق بالمبادرات السابقة، يزعم كل من البرهان وحميدتي بأنهما تعاطيا مع المبادرات المطروحة للتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار بإيجابية، ويتهم كل منهما الطرف الآخر بـ"التعنت". ولم تسفر المفاوضات التي عُقدت في الـ12 من يوليو الماضي في جنيف عن أية نتائج، إذ اجتمع ممثلون من الجيش و"الدعم السريع" بصورة منفصلة مع رمضان لعمامرة المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، في محادثات غير مباشرة.
وقبل ذلك، انهارت المبادرة السعودية-الأميركية المعروفة بـ"منبر جدة"، برعاية السعودية والولايات المتحدة. وكان "منبر جدة" قد انطلق في جولته الأولى في السادس من مايو 2023 واستمر حتى الـ12 منه، إذ وقّع الجيش و"الدعم السريع" اتفاقاً يقضي بحماية المدنيين ويتضمن سبعة بنود لا تتضمن وقفاً لإطلاق النار، وهي حماية المدنيين، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية وتوزيعها، والتوصل إلى هدنة وتطبيق إجراءات لبناء الثقة تمهد الطريق للتوصل إلى وقف دائم للعدائيات، والتمهيد لمحادثات سياسية بين السودانيين أنفسهم لوضع الحل الذي يعيد البلاد إلى مرحلة الانتقال الديمقراطي. لكن لم يتم الالتزام بأي منها، وعُلقت لتعود في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 بانضمام الهيئة الأفريقية للتنمية (إيغاد) ممثلة أيضاً للاتحاد الأفريقي، وأكدت هذه الجولة تنفيذ ما اتُفق عليه سابقاً، ومع استمرار عدم التزام الطرفين، فقرر ميسرو المفاوضات تعليقها في ديسمبر (كانون الأول) 2023.
ولم تكن هذه المبادرات وحيدة، وإنما طرحت قوى دولية وإقليمية ومحلية مبادرات عدة أخرى منها مبادرة الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد)، ومبادرة دول الجوار في القاهرة وضمت مصر وإثيوبيا وجنوب السودان وتشاد وليبيا وأفريقيا الوسطى وإريتريا، إضافة إلى "وثيقة المنامة" التي جمعت نائب قائد الجيش شمس الدين كباشي ونائب قائد "الدعم السريع" عبدالرحيم دقلو، بواسطة ثلاث دول، وانهارت في مهدها.
وتتواصل بعض هذه المبادرات بمستويات متفاوتة، أبرزها المبادرة السعودية- الأميركية التي تأتلف أخيراً مع مفاوضات جنيف، كما أن "مبادرة القاهرة" تحاول أن توازن بين طرفي الصراع والقوى السياسية الأخرى من جهة، وأن تجمع بين قيادة الجيش ورؤساء دول الجوار والإقليم من جهة أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


خصائص المفاوضات

لمفاوضات جنيف خصائص محددة عدة تميزها عن أنواع المفاوضات الأخرى في السودان خصوصاً محادثات حرب جنوب السودان التي تمت في كينيا وأسفرت عن اتفاق نيفاشا 2005 الذي مهد لانفصال الجنوب عام 2011. فخلال مفاوضات نيفاشا كان تنظيم الإخوان المسلمين الحاكم طرفاً أساسياً في مواجهة الطرف الآخر (الحركة الشعبية لتحرير السودان) بقيادة جون قرنق، فكان الإسلاميون من خلف الكواليس يركزون على معالجة مصالحهم الخاصة الغامضة، التي غضت الطرف عنها الولايات المتحدة الراعية للمحادثات، في سبيل الوصول إلى النتيجة النهائية وهي الانفصال. أما في هذه المفاوضات، فينشط تنظيم الإخوان من وراء الكواليس ويبث مثبطات تجاه بُنية التفاوض وأساسه حتى يستسلم الجيش لإغراءات القوة، وبدلاً من تحسين شروط التفاوض وتعزيز أدائه، ينصرف إلى التمسك بشروط أخرى.
إذا تم التفاوض، وهو سيناريو بعيد التحقق، دون إتاحة الفرصة لمشاركة أعضاء النظام السابق تحت جناح الجيش، وكانت النتائج مربحة للجيش و"الدعم السريع"، وتخدم مصالحهما، سيكون على الإسلاميين التعامل معها باعتبارها الهدف النهائي لأي موقف تفاوضي. وذلك يعني أن أي اتفاق سيفضي إلى عملية سياسية، وهي بالنسبة إلى أعضاء النظام السابق، تعد النهاية الحقيقية، لأن وقعها سيكون أشد عليهم من إسقاط النظام السابق، فعلى رغم فقدانهم سلطة ثلاثة عقود، لكنهم بدؤوا بالتأقلم مع الوضع الجديد لترتيب صفوفهم والعودة بصورة أو بأخرى.
وبالنظر إلى مواقف الجيش المتأرجحة لا سيما في مفاوضات جدة الأخيرة، بين رفض وقبول الجلوس إلى طاولة التفاوض في جنيف، فهو يشير إلى أن موقف الجيش مدعوم بادعاءات ذاتية من قبل الإسلاميين، وقد كانوا يسعون للمشاركة في المفاوضات، أو إفشالها. فعلى أقل تقدير سيضمنون استمرار مكاسبهم من الحرب، بما يحافظ على وجودهم وعدم ملاحقتهم في هذه الظروف التي يمر بها السودان. ومن بين الآليات التي استخدموها لإفشال الاتفاق حول الجلوس إلى طاولة جنيف، ترويجهم لتشدد الجيش عند مخاطبة البيان الذي أصدرته الخارجية الأميركية بوصف البرهان قائداً للجيش، إذ لم يسمه برئيس مجلس السيادة الانتقالي على أنه نيل من سيادته.

منطق الحرب

ويتفق عدد من العسكريين مع القوى السياسية التي تنادي بوقف الحرب، أنه بمنطق الحرب الحالية، فإن حسمها عسكرياً بعيد عن التصور لأنه سيزيد أمدها وقد تتحور من حرب واضحة المعالم والأطراف إلى حرب أهلية شاملة، تتعدد وتتشعب أطراف الصراع فيها.
ولكل ذلك يضع الوسطاء الدوليون وقف التصعيد مطلباً أولياً حتى يعود الطرفان إلى المحادثات، التي من شأنها توفير فرصة للالتقاء ومناقشة سبل إنهاء العنف في البلاد، إضافة إلى الهدف الأساس وهو إيصال المساعدات الإنسانية للمتضررين. ومع تعذر هذا المطلب، تعتزم الولايات المتحدة عقد مفاوضات جنيف اليوم، في حال حضر ممثلو الجيش أم لم يحضروا.
وقد لا يشارك الجيش مباشرة في مفاوضات جنيف وإنما يدفع بطرف ثالث، مثل الحركات المسلحة المتحالفة معه، كوكلاء عنه في هذه المفاوضات أو أية محادثات قادمة، سواء كانت من حركات دارفور أم الحركات المسلحة في إقليم النيل الأزرق وجبال النوبة، بسبب رفضه التفاوض المباشر مع "الدعم السريع". ويشير إلى ذلك تعيين وزير المعادن أبو نمو مفاوضاً في مشاورات جدة. ويُعد إدخال الحركات في التفاوض رسالة لـ"الدعم السريع"، بأن حكومة السودان أو الجيش لا يتساوى معها، إضافة إلى فرض مشاركة حركات دارفور وهي العدو اللدود لـ "حميدتي".
مجرد انعقاد مفاوضات جنيف اليوم بحضور طرفي الصراع يمثل خطوة وإنجازاً للدور الذي يؤديه الوسطاء الدوليون، نظراً إلى أن الأشهر الـ15 الماضية عمّقت حجم الصراع بين الجيش و"الدعم السريع"، كما خلقت فجوة واسعة بين القوى السياسية، وأدت إلى انعدام كامل للثقة. ومع ذلك لا يُتوقع أن يكون هناك التزام بوقف إطلاق النار لإصرار كل طرف على شروطه، إضافة إلى الانقسامات العميقة، التي قد تؤدي بالمفاوضات إلى طريق مسدود، مع رفض كلا الجانبين تقديم تنازلات.
وفي وقت يساور فيه الجميع الأمل في أن تؤدي مفاوضات جنيف إلى انخفاض العنف أو تحويل مساره نحو حل سياسي، فإن الانقسامات العميقة بين الجيش و"الدعم السريع"، إضافة إلى علو صوت المعترضين على عقد المفاوضات، يجعل التوصل إلى اتفاق غير وارد على المدى القريب، لذلك ستركز جهود الوسطاء الدوليين على ابتداع طريقة حتى لو بضغوط دولية لإيصال المساعدات والحاجات الإنسانية الفورية.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل