ملخص
يتعين على الولايات المتحدة أن تحول دورها في أوروبا من كونها ركيزة أساس للأمن إلى مصدر دعم وموازنة بين القوى الأوروبية، ويتحقق ذلك من خلال تقليص وجودها العسكري وتشجيع أوروبا على تطوير أنظمة الدفاع الخاصة بها وإعادة تخصيص الموارد لمعالجة التحديات الأميركية المحلية والعالمية الأخرى
على مدى عقود من الزمان ظلت السياسة الأميركية تجاه أوروبا على حالها، فقد رسخت واشنطن وجودها في القارة من خلال حلف شمال الأطلسي ولعبت دور المزود الأساس للأمن في المنطقة بينما قبلت الدول الأوروبية المنتسبة إلى حلف شمال الأطلسي القيادة الأميركية. لكن اليوم، خرج جزء كبير من الحزب الجمهوري عن هذا الإجماع وفضل بدلاً من ذلك سياسة تتلخص بتعليقات دونالد ترمب في شأن دول الناتو "المتخلفة عن سداد التزاماتها المالية" "إذا لم تدفع، فلن نؤمن الحماية".
وبعبارة أخرى قد تظل الولايات المتحدة ملتزمة تجاه أوروبا ولكن شرط أن تسدد الدول الأوروبية ما عليها من مدفوعات، وفي المقابل ورداً على هذا التحول أصبح الديمقراطيون أكثر ثباتاً على موقفهم. فقد أكد الرئيس جو بايدن على الالتزام الديمقراطي "المقدس" بالدفاع عن أوروبا وهلل بقبول عضوية فنلندا والسويد في حلف شمال الأطلسي باعتباره إنجازاً عظيماً لإدارته. ولم تشر كامالا هاريس إلى أنها ستنحرف عن موقف بايدن باعتبارها مرشحة ديمقراطية مفترضة للرئاسة.
هناك حاجة ملحة لإحياء نقاش حول دور الولايات المتحدة في أوروبا لكن كلا الجانبين أساءا فهم القضايا والمصالح المؤثرة. وفي الواقع ما زالت المصلحة الأساس لدى الولايات المتحدة في أوروبا اليوم هي نفسها منذ أوائل القرن الـ20 في الأقل، متمثلة في إبقاء القوة الاقتصادية والعسكرية للقارة منقسمة. وفي الممارسة العملية كان السعي إلى تحقيق هذا الهدف يعني منع ظهور قوة أوروبية مهيمنة، لكن خلافاً لما كان عليه الوضع خلال منتصف القرن الـ20 فإن أوروبا اليوم تفتقر إلى مرشح قادر على الهيمنة، وبفضل نجاح الجهود الأميركية بعد عام 1945 في إعادة بناء أوروبا الغربية واستعادة الازدهار فيها فمن غير المرجح أن يظهر نظام هيمني جديد.
ويتعين على واشنطن أن تدرك أنها حققت هدفها الرئيس في أوروبا، وبعد أن نجحت في منع أية دولة من الهيمنة على القارة يتعين عليها أن تتبنى نهجاً جديداً في التعامل مع المنطقة. وفي إطار استراتيجية معدلة ستعمل الولايات المتحدة على تقليص وجودها العسكري في القارة وإضفاء الطابع الأوروبي على حلف شمال الأطلسي، وإعادة تسليم مسؤولية الأمن الأوروبي الأساس إلى أصحابها الشرعيين، أي الأوروبيين.
توازن دقيق
لأكثر من 100 عام كان لدى الولايات المتحدة مصلحة وطنية ثابتة في أوروبا، وهي ضمان أن تبقى القوة الاقتصادية والعسكرية في القارة مقسمة بين دول متعددة من خلال منع ظهور قوة أوروبية مهيمنة تسعى إلى الاحتفاظ بكل تلك القوة لنفسها.
وخاضت واشنطن الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية كي تمنع ألمانيا من الهيمنة على أوروبا. وكان الهدف من تأسيس حلف شمال الأطلسي خلال عام 1949 هو منع إمكانية سيطرة دولة واحدة على القارة. ووفق تصريح أدلى به وزير الخارجية دين أتشيسون خلال ذلك العام فإن الحربين العالميتين "أظهرتا أن سيطرة قوة واحدة عدوانية وغير ودية على أوروبا قد تشكل تهديداً غير مقبول للأمن القومي الأميركي".
كان دعم الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي خطوة منطقية في وقت كان فيه الاتحاد السوفياتي يهدد باجتياح القارة، وكانت ذكريات الحرب لا تزال حديثة ومستقبل ألمانيا غير واضح، ولكن حتى آنذاك لم يكن هدف واشنطن هو تحمل مسؤولية الأمن الأوروبي بصورة دائمة، بل كان الحلف بمثابة وسيلة موقتة لحماية دول أوروبا الغربية خلال فترة تعافيها من الحرب العالمية الثانية، وتسهيل الجهود الأوروبية الغربية الرامية إلى تحقيق نفوذ يوازي النفوذ السوفياتي ودمج ألمانيا الغربية في تحالف مضاد للسوفيات من شأنه أن يساعد أيضاً في توجيه القوة الألمانية نحو ممارسات أكثر تحضراً ومسؤولية. وخلال عام 1951 أشار دوايت أيزنهاور بصفته قائد قوات الحلفاء الأعلى في أوروبا إلى أنه "إذا لم تعد جميع القوات الأميركية المتمركزة في أوروبا لأغراض الدفاع الوطني إلى الولايات المتحدة خلال 10 أعوام، فإن هذا المشروع بأكمله سيكون قد فشل".
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، حاول الرئيسان هاري ترومان وأيزنهاور تشكيل "قوة ثالثة" تتألف من الدول الأوروبية من خلال تشجيع فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا الغربية ودول أوروبا الغربية الأخرى على توحيد مواردها السياسية والاقتصادية والعسكرية ضد الاتحاد السوفياتي. وبمجرد تشكيلها كان من المفترض أن تعفي هذه القوة الثالثة الولايات المتحدة من واجب العمل كخط الدفاع الأول عن أوروبا. وقد قبلت الولايات المتحدة على مضض دوراً أكثر ديمومة في هذا التحالف بعد أن اتضح في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الـ20 أن دول أوروبا الغربية كانت قلقة في شأن ألمانيا بقدر ما كانت قلقة في شأن الاتحاد السوفياتي.
تشكل روسيا تهديداً أضعف بكثير مما كان يمثله الاتحاد السوفياتي
إلا أن الوضع الحالي مختلف تماماً. فللمرة الأولى منذ قرون تفتقر أوروبا إلى وجود قوة مهيمنة محتملة، وقد تحول الخوف من هيمنة ألمانيا على أوروبا إلى قلق في شأن تراجع نفوذ برلين الجيوسياسي مما قلب "المشكلة الألمانية" التقليدية رأساً على عقب. وتدرك الدول الأخرى ذات القدرات الكبيرة مثل المملكة المتحدة وفرنسا أن توزع مراكز القوى الحالي لا يسهل النمو أو التوسع.
وفي المقابل تفتقر روسيا إلى الموارد والفرصة لتشكيل تهديد هيمني على أوروبا. فمع تعداد سكاني يبلغ 143 مليون نسمة مقارنة بنحو 600 مليون نسمة في الدول الأوروبية المنتسبة إلى حلف شمال الأطلسي تفتقر روسيا إلى القوة البشرية اللازمة لغزو أوراسيا، إضافة إلى ذلك لدى الدول الأوروبية الأعضاء في حلف الناتو اقتصاد أكبر بنحو 10 أضعاف من اقتصاد روسيا وأكثر تقدماً بكثير. وحتى التقديرات المتاحة الأكثر تشاؤماً تظهر أن الدول الأوروبية كانت تنفق بصورة أكبر بكثير على الدفاع مما كانت تنفقه روسيا حتى قبل الغزو المكلف لأوكرانيا وقبل الزيادات في الإنفاق الدفاعي الأوروبي الذي نتج من ذلك الغزو. ووفقاً للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية بلغ الإنفاق الدفاعي الروسي نحو 75 مليار دولار خلال عام 2023، في حين أنفقت الدول الأوروبية المنتسبة إلى حلف شمال الأطلسي مجتمعة أكثر من 374 مليار دولار.
لا شك أن غزو روسيا لأوكرانيا أظهر استعدادها لاستخدام القوة واهتمامها الواضح بالسيطرة على أوكرانيا وقدرتها على الاستمرار في عمليات شديدة الحدة، ولكن ما لم تثبته روسيا هو قدرتها الحقيقية على نشر القوة العسكرية على مسافات طويلة، بالتالي لم يتعرض التقدم الروسي الأولي نحو كييف للصد فحسب بل إن معظم المعارك التي تلت ذلك جرت على بعد بضع مئات من الأميال من الحدود الروسية - الأوكرانية. وقد أسفر ذلك عن دمار هائل بيد أنه لا يقدم دليلاً على وجود جيش جاهز لاجتياح القارة.
وإذا كانت روسيا بعد أكثر من عامين من القتال عاجزة عن هزيمة أوكرانيا الأضعف اقتصادياً وعسكرياً فإنها لا تشكل تهديداً هيمنياً على أوروبا. وعلى رغم أن روسيا قد تحاول بكل تأكيد تجديد قدراتها العسكرية فإن ردود فعل الدول الأوروبية على الصراع أظهرت استعدادها لمواجهة احتمالات حدوث عدوان في المستقبل. وروسيا في حالتها اليوم، تشكل تهديداً أضعف بكثير مما كان يمثله الاتحاد السوفياتي في الماضي.
تقبل النجاح
في ظل غياب أي طرف قادر على الهيمنة على أوروبا لم تعد هناك حاجة لأن تتولى الولايات المتحدة دوراً قيادياً في المنطقة. وفي غياب القيادة الأميركية ستكون لدى أوروبا سياسة دولية طبيعية، والتي بطبيعة الحال قد تشمل حدوث بعض الصراعات بين الدول على الأطراف لكنها لن تواجه أي تهديد هيمني.
وعلى رغم ذلك ترفض واشنطن الاستفادة من هذا النجاح. فبعد أن قطعت الطريق أمام إمكانية ظهور قوة عظمى أوروبية أدى توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً إلى خلق مصالح جديدة تشمل دولاً ضعيفة ومعرضة للخطر يصعب إلى حد كبير إبقاؤها آمنة مما يفرض ضغوطاً سياسية على الولايات المتحدة تدفعها للبقاء في أوروبا على أساس أن هذه الأخيرة غير قادرة على الدفاع عن نفسها.
ومع ذلك، وعلى رغم كل الاهتمام الذي يعطى لمسألة ما إذا كانت أوروبا تستطيع الدفاع عن نفسها أم لا فمن الغريب أن "أوروبا" نادراً ما يتم تعريفها بصورة واضحة. ففي الأساس كانت الأهداف وراء الجهود الرامية إلى توحيد البلدان الأوروبية ضمن كيان سياسي أكبر أهدافاً نبيلة، فقد أشار رئيس الوزراء الفرنسي السابق روبرت شومان إلى أن الهدف المنشود "لا يقتصر على جعل أي حرب بين فرنسا وألمانيا أمراً مستبعداً فحسب بل مستحيلاً فعلياً". ولكن على رغم التكامل الأوروبي لا تزال الدول القومية تهيمن على السياسة الأوروبية. ففرنسا ولاتفيا مثلاً هما دولتان أوروبيتان ولكن بالنسبة إلى الولايات المتحدة هناك اختلاف بين حاجاتهما الدفاعية وأهمية كل واحدة منهما.
ومن غير المستغرب أن ندرك إذاً أن أوروبا قد لا تتمكن من الدفاع عن نفسها بسهولة إذا أدرجنا البلدان الصغيرة الضعيفة التي تحد روسيا في قائمة الدول التي تحتاج إلى حماية. ومن اللافت للنظر أن المناورات العسكرية التي جرت على مدى العقد الماضي أشارت بقوة إلى أنه في حال نشوب صراع مع روسيا فإن الولايات المتحدة وشركاءها ستواجه صعوبة في منع بعض الأعضاء الأكثر ضعفاً في الحلف من مواجهة أضرار جسيمة.
وفي المقابل، إذا أعطيت "أوروبا" تعريفاً يتماشى مع المصالح الأميركية التقليدية المتمثلة في إبقاء المناطق الأساس المتمتعة بالسلطة العسكرية والاقتصادية في القارة مقسمة فإن الموقف يبدو أقل إثارة للقلق، ومرة أخرى فإن توزيع القوة العسكرية والاقتصادية اليوم يضمن وجود عدد من الدول التي يمكن أن تمنع روسيا مجتمعة أو بمفردها من فرض الهيمنة، وفي الوقت نفسه توفر الأسلحة النووية رادعاً آخر. في الواقع تمتلك فرنسا والمملكة المتحدة ترسانات نووية خاصة بها ويمكن لدول أخرى في أوروبا ومنها ألمانيا على وجه الخصوص أن تحصل بسهولة على أسلحة نووية إذا شعرت بالتهديد الكافي. وتعتمد السهولة التي تستطيع بها أوروبا الدفاع عن نفسها على كيفية تعريف "أوروبا". لكن مصلحة الولايات المتحدة الأساس في أوروبا ليست في خطر.
العودة إلى الأساسات
في ظل الضغوط المتزايدة في الداخل وفي آسيا من الضروري إجراء تصحيح في المسار، والفكرة ليست قطع العلاقات بين الولايات المتحدة وأوروبا بل تحويل الدور الأميركي من الملاذ الأول لتوفير الحماية إلى الملاذ الأخير الذي يتدخل من أجل الحفاظ على التوازن والاستقرار.
أولاً، يجب أن تبدأ الولايات المتحدة في سحب بعض قواتها من أوروبا، مما يفرض على الدول الأوروبية تحمل مسؤولية توفير القوات التقليدية اللازمة لحماية أوروبا. وفي الوقت الحالي تمتلك الولايات المتحدة ما يقارب 100 ألف جندي متمركز في القارة مع أكبر تجمع لهذه القوات داخل ألمانيا. إن أفضل خطوة تتخذ في البداية من أجل تقليص عدد القوات قد تكون بسحب 20 ألف جندي إضافي نشرتهم إدارة بايدن خلال عام 2022 رداً على الغزو الروسي لأوكرانيا. وبمجرد سحب هذه القوات يجب على واشنطن أن تعلن نيتها استئناف سحب 12 ألف جندي من ألمانيا، وهي خطة وافق عليها ترمب ولكن جمدها بايدن. ويذكر أن تنفيذ جولتين منظمتين من سحب القوات كفيل بإيصال الرسالة المتمثلة في أن الدول الأوروبية الأكثر قوة يجب أن تقوم بدورها. وفي نهاية المطاف يمكن سحب القوات والمعدات الأميركية المتبقية في أوروبا تدريجاً ونقل عبء حاجات الردع التقليدية إلى الأوروبيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الواقع، إن اتخاذ مثل هذه الخطوات في المرحلة الحالية قد يتوافق مع استعداد الأوروبيين الواضح لبذل مزيد من الجهود من أجل الدفاع عن أنفسهم منذ الغزو الروسي لأوكرانيا. وتعد ألمانيا مثالاً على هذا الاهتمام الناشئ حديثاً. فقد كان الهجوم الروسي الأولي كافياً ليشكل صدمة بالنسبة إلى ألمانيا ويدفعها إلى إلغاء خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 2" والإعلان عن خطط لإنفاق 108 مليارات دولار إضافية على الدفاع على مدى أربعة أعوام كجزء من "تسايتنفنده" Zeitenwende أو "نقطة التحول".
وعلى رغم أن الطريقة التي أنفقت بها ألمانيا هذه الأموال لم تسمح لـ"نقطة التحول" بتوليد قوة عسكرية كبيرة فإن قادتها أدركوا الحاجة الملحة إلى إعادة بناء قدراتها الدفاعية، وبعض المسؤولين المنتخبين الأكثر شعبية في البلاد مثل وزيرة الخارجية أنالينا بيربوك ووزير الدفاع بوريس بيستوريوس يؤيدون إعادة التسلح. وبطريقة موازية اتبعت دول قوية مثل فرنسا وبولندا والمملكة المتحدة مساراً مماثلاً. إن سحب القوات والمعدات التي تمثل تعبيراً ملموساً عن دور واشنطن القيادي من شأنه أن يسرع هذه العملية من خلال إلزام الدول الأوروبية بتحمل المسؤولية عن دفاعها، والحد من اعتمادها باستمرار على الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، ينبغي لصناع السياسات أن يدركوا أن أوروبا لا تستطيع سد الفجوات في مجالات معينة بسرعة، وعلى وجه الخصوص فإن إيجاد بديل يحل مكان المظلة النووية الأميركية وقدراتها في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع حتى في أفضل الظروف سيستغرق وقتاً. وبناء على هذا ينبغي لواشنطن أن تستمر في تقديم المساعدة لأوروبا في هذه المجالات لأعوام عدة في حين تساعد أوروبا على معالجة الثغرات في القدرات على المدى الطويل. ومثلما تقدم الولايات المتحدة المعلومات الاستخباراتية والمساعدة في تحديد الأهداف للدول التي ليست حليفة لها بموجب معاهدات مثل أوكرانيا، فإنها تستطيع أيضاً أن تعد بصورة موثوقة بتقديم هذه الخدمات لأعضاء حلف شمال الأطلسي حتى في ظل تقليص عدد قواتها التقليدية، وقد يتضمن هذا أيضاً إعادة النظر في معارضة الولايات المتحدة لحصول ألمانيا على الأسلحة النووية ولو أنه من غير المرجح أن تسعى ألمانيا إلى امتلاك قنبلة نووية تحت أي ظرف من الظروف.
يتعين على واشنطن أن تشجع الدول الأوروبية على الاستثمار في قاعدتها الصناعية الدفاعية
والمكسب من ذلك سيكون كبيراً وفق أحد التحليلات التي أجراها أستاذ معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا باري بوسن خلال عام 2021، فإن التخلي عن مهمة الردع التقليدي في أوروبا يمكن أن يؤدي إلى وفورات في الموازنة تراوح ما بين 70 و80 مليار دولار سنوياً. وباحتساب التضخم والجهود والقوات الإضافية المخصصة لأوروبا منذ عام 2022 فإن المبالغ المدخرة قد تكون أكبر اليوم.
وثانياً، لتسهيل تعزيز القوة العسكرية الأوروبية يتعين على الولايات المتحدة أن تتخلى عن بعض مطالبها القديمة في ما يتعلق بطريقة تسليح أوروبا لنفسها. فعلى مدى عقود من الزمان أصرت واشنطن على أن تشتري الدول الأوروبية المعدات العسكرية من الولايات المتحدة وتتجنب بناء أصول عسكرية شبيهة بالأصول الأميركية [أي أن تستكمل قدرات الولايات المتحدة بقدرات أخرى، بدلاً من تقليدها]، وهذه المتطلبات تقوض الدعم المحلي للاستثمار العسكري في أوروبا وتحد من قدرة القارة على إنشاء قوتها العسكرية الخاصة والحفاظ عليها. وعوضاً عن حث الدول الأوروبية على شراء الأسلحة من الولايات المتحدة وتجنب تقليد القدرات الأميركية عسكرياً يتعين على واشنطن أن تشجع الدول الأوروبية على الاستثمار في قاعدتها الصناعية الدفاعية.
إن الظروف مواتية لإعادة بناء القاعدة الصناعية الدفاعية الأوروبية، فالشعور بالتهديد مرتفع والخطوات الأولية التي اتخذت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا أثمرت وأوروبا تنتج بالفعل أسلحة أساس مثل الدبابات القتالية الرئيسة، ويتعين على واشنطن أن تستفيد من هذه الديناميكيات. ولأن القدرات العسكرية الجديدة تستغرق وقتاً طويلاً للتطور فإن تعديل السياسة الأميركية الآن من شأنه أن يساعد في ضمان أن تمتلك أوروبا القدرات المحلية اللازمة لمعالجة مشكلات القارة لعقود مقبلة.
علاوة على ذلك ونظراً لارتفاع كلفة إنتاج المعدات العسكرية الحديثة، فإن تشجيع الدول الأوروبية على شراء الأسلحة المصنوعة في أوروبا من شأنه أن يولد ضغوطاً سياسية لزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي. ومثلما تجعل المكاسب الاقتصادية المستمدة من الإنفاق العسكري صعباً على الولايات المتحدة إغلاق القواعد أو خطوط الإنتاج ستؤثر الفوائد الاقتصادية على قرارات أوروبا بالطريقة نفسها. ومن خلال تشجيع أوروبا على تطوير قاعدتها الصناعية الدفاعية تستطيع واشنطن أيضاً تحفيز التنسيق المتعدد الأطراف لتمديد فترات الإنتاج وخفض كلفة المشتريات وتعزيز العمل المشترك، والسماح بالتخطيط العسكري وإعداد الموازنات بصورة أكثر كفاءة.
عندما تدفع الدول الأوروبية إلى تحمل مسؤولية الأمن القاري بصورة مستمرة فستضطر إلى تحمل التبعات الكاملة لخياراتها الأمنية
وأخيراً، يتعين على الولايات المتحدة أن تعمل تدريجاً على تحويل حلف شمال الأطلسي إلى تحالف تديره وتقوده أوروبا. ففي البداية يجب على واشنطن أن تشجع الأعضاء الأوروبيين في الناتو على إنشاء "ركيزة أوروبية" داخل الحلف وهي آلية تتيح للأعضاء تنسيق مواقف مشتركة في شأن مسائل الدفاع والأمن من دون تدخل أميركي، ويتعين على الرئيس الأميركي أن يوضح أن القائد الأعلى المقبل لقوات الحلفاء سيكون أوروبياً، في خروج عن ممارسة استمرت 75 عاماً كان الأميركيون يشغلون بموجبها هذا المنصب دائماً. واستطراداً، على الولايات المتحدة أن تقلص من عمق مشاركتها في لجان حلف شمال الأطلسي وأن تسمح للحلفاء بتولي زمام المبادرة، على سبيل المثال، في المناقشات السياسية داخل "لجنة نواب الممثلين الدائمين" أو "لجنة السياسة والتخطيط الدفاعي"، إذ يتشكل إجماع في شأن المسائل الأمنية والسياسية والتنظيمية.
وستوضح جميع هذه الخطوات أن الولايات المتحدة تتوقع من الأوروبيين إدارة شؤون التحالف اليومية. وسيكون الأوروبيون في وضع جيد للقيام بذلك إذ إن الإطار البيروقراطي الشامل لحلف شمال الأطلسي يسمح بالاستفادة من الممارسات التعاونية الراسخة المكتسبة خلال تاريخ التحالف الطويل. وليس من المفترض أن تركز السياسة الأميركية على الانسحاب الرسمي من حلف شمال الأطلسي أو الحفاظ على عضويتها الحالية فيه، بل عليها ببساطة أن توضح أن دور واشنطن كصانع السلام والمحافظ على الاستقرار الأوروبي يقترب من نهايته، وإذا شعر مخططو الدفاع الأوروبيون أن هذا يترك ثغرة يجب ملؤها فيجب عليهم أن يملؤوها بأنفسهم.
في الواقع، ستعيد الولايات المتحدة العلاقة عبر الأطلسي إلى أهدافها الأساس وأدوارها التقليدية. وباعتبارها قوة خارجية ستساعد واشنطن في الحفاظ على التوازن ولكنها لن تسعى إلى الهيمنة على القارة نفسها. وإضافة إلى السماح للولايات المتحدة بإعادة توجيه اهتمامها ومواردها فإن العلاقة المتوازنة من شأنها أيضاً أن تؤثر بصورة إيجابية في التخطيط الاستراتيجي الأوروبي، فعندما تدفع الدول الأوروبية إلى تحمل مسؤولية إدارة الأمن القاري اليومية ستضطر إلى تحمل الكلف الكاملة لخياراتها الأمنية. وفي وقت يؤيد فيه صناع السياسات في جميع أنحاء القارة سياسات طموحة ومكلفة مثل ضم أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي وربما انخراط الدول الأوروبية في الحرب في أوكرانيا، فإن نقل مسؤولية أمن أوروبا إلى الأوروبيين من شأنه أن يقلل الحوافز التي تدفع هذه الدول إلى الترويج للسياسات المتهورة.
تحويل الأزمة إلى فرصة
إن اللحظة المثالية لإعادة مسؤولية أوروبا إلى الأوروبيين أنفسهم كانت بعد انهيار الاتحاد السوفياتي خلال عام 1991 مباشرة عندما اختفى سبب وجود حلف شمال الأطلسي، ولكن هذا لا يعني أن الوقت الحالي غير مناسب لاتخاذ هذه الخطوة. قد يبدو من غير المنطقي أن نقترح تقليص دور الولايات المتحدة كحارس لأوروبا في حين تواجه القارة أكبر حرب لها منذ الحرب العالمية الثانية، ولكن من المفارقات أن كلف الصراع في أوكرانيا والاستجابات المتعلقة به تجعل هذا التعديل الاستراتيجي قابلاً للتنفيذ في الواقع.
قد تكون نيات روسيا خبيثة لكن قدراتها تقيدها، وفي المقابل تفتقر الدول الأوروبية الأخرى إلى القدرة على شن هجوم للسيطرة على القارة. وأثبتت أوكرانيا أن المدافعين المندفعين يمكنهم صد المعتدين حتى في ظل ظروف صعبة وهذه حقيقة جيدة للولايات المتحدة. وعلاوة على ذلك فإن القوة الكامنة التي تتمتع بها أوروبا تشير إلى أن واشنطن سيكون لديها متسع من الوقت لتقرر ما إذا كانت تحتاج إلى التدخل لمواجهة قوة مهيمنة ومتى.
وهناك من يذكر أن الدعوات التي تطالب الولايات المتحدة بالتمسك بدورها القيادي في أوروبا تتجاهل الفرصة والكلف المباشرة المترتبة على ذلك والمصالح المتزايدة الأهمية التي تتمتع بها واشنطن في أماكن أخرى. فالولايات المتحدة تواجه الآن ديوناً بقيمة 35 تريليون دولار وعجزاً سنوياً في الموازنة بقيمة 1.5 تريليون دولار، وصعوبات متزايدة في آسيا وانقسامات سياسية واضحة تجعل حل هذه التحديات أكثر صعوبة. وفي غياب أي مؤشر إلى تحسن الوضع المالي أو أي دليل على تراجع الضغوط المحلية يتعين على صناع السياسات إعادة تقييم الالتزامات الأميركية الخارجية. ونظراً إلى أن واشنطن حققت هدفها الأساس في أوروبا، فقد حان الوقت لتنفيذ الأهداف المنشودة التي أرادها واضعو استراتيجية ما بعد الحرب في القارة. والآن حان الوقت لاغتنام الفرصة.
*جاستن لوغان هو مدير دراسات الدفاع والسياسة الخارجية في معهد كاتو.
**جوشوا شيفرينسون هو أستاذ مشارك في كلية السياسات العامة بجامعة ميريلاند وباحث بارز غير مقيم في معهد كاتو.
مترجم عن "فورين أفيرز"، 9 أغسطس 2024