ملخص
"تبدو الأيام في الخيمة أطول مما هي عليه إذ يسود القلق والملل ويسكن الحزن عيون الصغار، تعلمنا أن نقتصد في كل شيء، نتوضأ بكوب ماء صغير ونستحم ببضع ليترات من الماء ونقتات بالحد الأدنى مما هو متوفر من طعام".
بينما لا تزال مأساة دارفور الممتدة منذ نحو 20 عاماً بتهجير أكثر من مليوني شخص من مناطقهم الأصلية إلى معسكرات النزوح المنتشرة في الإقليم، أضافت حرب منتصف أبريل (نيسان) 2023، بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" المشتعلة حتى اليوم أكثر من 10.7 مليون نازح في عموم أنحاء البلاد، فروا نحو الولايات الآمنة في الشمال والشرق بحثاً عن ملاذ آمن في مراكز إيواء معظمها يعتمد على الخيام، فكيف تتواصل الحياة داخل خيمة النزوح في مثل تلك الظروف التي يصعب التكيف معها لأيام وليس أشهرا وأعواماً
تشكل الخيام المهترئة وبيوت القش وحطب الأشجار المشهد العام لمعسكر "كلمة" للنازحين، الأقدم بولاية جنوب دارفور، إذ جرى ترقيع معظم الخيام بقطع من الأقمشة القديمة أو الخيش نتيجة تأثرها بعوامل الطبيعة وأشعة الشمس.
اندثرت بعض الخيام بطول أمد رحلة النزوح وتم استبدالها بمساكن أخرى أكثر صموداً ليتحول المعسكر إلى قرية كبيرة تضم مزيجاً من الخيام وبيوت الطين والقش في محاولة للتواؤم مع الظروف الطبيعية من أجل البقاء الذي بات مفتوحاً من دون بارقة أمل في العودة إلى مناطقهم الأصلية وديارهم قريباً.
نمط قاس للحياة داخل الخيام، سمته العامة البحث الدائب عن أسباب الحياة نفسها من طعام شحيح ومياه شرب نادرة، إذ تنتشر أمراض سوء التغذية ومستويات الجوع المرتفعة وسط الأطفال والشيوخ الفئة الأكثر تأثراً ممن دفعوا ثمن الحرب.
نازحون بالميلاد
أمضى النازح حسين موسى (48 سنة)، زهاء نصف عمره بالمعسكر الذي كان قد وصل إليه وعمره 18 سنة وهو الآن أب لطفلتين (نازحين بالميلاد)، مما دفعه إلى فصل سكنه عن أسرته الأساسية المكونة وقتها من سبعة أشخاص بسبب الزواج، فأنشأ كوخاً من الحطب والقش وهو ما يعرف محلياً بـ"الكرنك" مجاور لأسرته الأم.
يحكي موسى، "كنا نعيش جميعاً داخل خيمة لا تتعدى مساحتها (3×4) أمتار وهي الآن مزيج من الأقمشة البالية والحصير والحطب وبعض القش، ونترك الخيمة للنساء والأطفال أثناء ساعات النهار حيث الشمس الحارقة، بينما ينتشر الرجال والشباب تحت ظلال بعض الأشجار أو بحثاً عن أسباب الرزق الشحيحة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتابع، "أصبحت الخيمة كل شيء بالنسبة لنا فبداخلها برميل الماء البلاستيكي وهو من أهم محتوياتها، وبعض الحطب كوقود للطهي وإبريق بلاستيكي للماء ومشمعات وفانوس (مسرجة زيت) وكل أدوات الطبخ والملابس والفرشات الأرضية وبعض المراتب والأسرة إن وجدت لاحقاً"، ويضيف، "تبدو الأيام في الخيمة أطول مما هي عليه إذ يسود القلق والملل ويسكن الحزن عيون الصغار، تعلمنا أن نقتصد في كل شيء، نتوضأ بكوب ماء صغير ونستحم ببضع ليترات من الماء ونقتات بالحد الأدنى مما هو متوفر من طعام".
مع كل ذلك تبدو العودة إلى منطقتهم الأصلية غير ممكنة بالنسبة لموسى، فقد حصل على بطاقة النزوح التي تكفل له حصصاً غذائية ومواد إيواء وربما تسهيلات للهجرة إلى خارج البلاد وهو يخشى أن يفقد تلك الامتيازات، لذلك يضطر إلى البقاء في الخيمة والمعسكر.
واقع مؤلم
في نموذج آخر من مخيمات ولاية القضارف بشرق السودان تصف الموظفة (م، أ، ي) النازحة من شمال الجزيرة جنوب مدينة الحصاحيصا، الحياة داخل خيمة بأنها واقع قاس ومؤلم أجبرت على أن تعيشه، تقول، "وصلت إلى هنا وفي اعتقادي أن الوضع لن يستمر أكثر من أسابيع لكنه طال بشكل محزن وبائس، العزاء الوحيد هو أن الأطفال لم يعودوا يسمعون دوي الانفجارات وكأن الخيمة كانت مقابل الأمن والطمأنينة المسلوبة".
تقول الموظفة النازحة، إن آخر ما كانت تتوقعه هو أن يكون أقصى أحلامها في اللحظات الأولى من وصولها مع شقيقها وأطفالها الأربعة إلى القضارف هو الحصول على خيمة ضمن المساحة الزراعية التي خصصها أحد رجال الأعمال السودانيين بمشروعه الزراعي لتكون مركزاً لإيواء النازحين من الجزيرة وسنار.
تشكو النازحة، "لا يكاد أطفالي يستوعبون الوضع حتى الآن، لكننا ظللنا نخادعهم يومياً بأننا عائدون قريباً إلى البيت، وهم ونحن نعيش الآن على أمل العودة إلى الديار، كل ذلك إلى جانب الصعوبة الكبيرة في إعالة أسرة معظمها من الأطفال في مثل هذه الظروف التي انقطع فيها الدخل ولا تتوفر مساعدات إنسانية تذكر، مع صعوبة الحصول على الغذاء والمياه وخدمات الصحة، ومع الخريف والأمطار تتحول الخيمة والمنطقة كلها إلى ساحة من الوحل ونضطر جميعاً إلى دخول الخيمة في وضع صعب خصوصاً بالنسبة لكبار السن والأطفال".
تتابع، "الظروف في المخيم كله مزرية في ظل غياب مصادر الطاقة ومياه الشرب مما يجعل من العيش داخل الخيام أمراً صعباً فلا يتوفر بداخلها غير الظل على رغم من درجة الحرارة المرتفعة، ومع ذلك فنحن لا نستطيع الطهي داخل الخيام لأن الحطب هو الوسيلة الوحيدة للطبخ وقد يعرض الخيمة للحريق، فالخيمة هي المأوى والمطبخ والمخزن وغرفة النوم وكل شيء".
وعقب اجتياح "الدعم السريع" مدينة سنجة عاصمة ولاية سنار وعدداً من البلدات والقرى حولها استقبلت ولاية القضارف شرقي السودان، أكثر من 100 ألف نازح معظمهم من النساء والأطفال وكبار السن ضاقت بهم مراكز إيواء الثابتة شحيحة الخدمات، بينما لا يزال العشرات من النازحين الجدد يعانون عدم وجود خيام تأويهم فضلاً عن غياب الخدمات والمعونات الغذائية.
صرخات المخيمات
يقول يعقوب محمد عبدالله، إن "الحياة في مخيمات النزوح صعبة جداً لدرجة أنها لا توصف والأسوأ أن صرخات الاستنجاد تضيع سدى وكأن لا حياة لمن تنادي". ويتابع، "لقد وصل معسكر كلمة نازحون جدد من الخرطوم ونيالا وزالنجي والفاشر والجنينة، وأصبح الوضع غاية الصعوبة والاكتظاظ، وتم استقبالهم وتوزيعهم داخل المعسكرات واستفادوا من الخدمات الإنسانية ببناء مزيد من الكرانك والرواكيب (مظلات من العيدان والقش)".
على رغم الاكتظاظ الشديد الذي ضاعف معاناة النازحين القدامى، لكنهم تقاسموا معهم الهم والحزن والمأوى وحتى الجوع، بعد أن تقلصت معونة برنامج الغذاء العالمي في الفترة الأخيرة إلى مقدار تسعة أرطال من الذرة لكل فرد وهي كمية لا تكفي الفرد لوجبة واحدة.
تكدس الخيمة
يقول المنسق العام للنازحين في دارفور، إن معسكر "كلمة" الذي أنشئ قبل 20 سنة إن هناك نازحين بالميلاد ممن ولدوا داخل المعسكر وأصبحوا الآن رجالاً بالغين وهؤلاء باتوا يشكلون مشكلة بعد أن فقدوا فرصة الدراسة والتعليم وكل مستقبلهم.
يتابع، "نسبة لشح المدارس هناك فاقد تربوي كبير جداً من الشباب بالمعسكرات، لأن العدد الذي تمكنا من إنشائه من المدارس لا يستوعب الجميع ويتم تخيير أولياء الأمور بإدخال نصف عدد الأبناء فقط وترك الآخرين من دون تعليم".
ويضيف، "بعض أبناء المعسكرات وصلوا إلى المرحلة الجامعية لكنهم لم يتمكنوا من إكمال الدراسة فيها، واتجهت أعداد منهم إلى الهجرة بكل أخطارها، بعضهم من وصل وانقطعت أخبار البعض ممن لم يعثر لهم على أثر أو أخبار منذ عشرات السنين ويرجح أنهم ممن ابتلعتهم أمواج البحار أو زج بهم في السجون، لا أحد يعلم مصيرهم حتى الآن".
يتهم المنسق المجتمع الدولي بعدم إعارة النازحين الاهتمام الكافي وعدم مراعاة تلك الظروف المتفاقمة، يضيف متحسراً، "كأن العالم بات يكرهنا على رغم حبنا له وعشمنا في أن يعم السلام عندنا وفي كل العالم".
بحسب تقارير وإحصاءات رسمية تعود إلى عام 2018، خلف نزاع إقليم دارفور المسلح الذي نشب قبل نحو 20 عاماً في 2003 بين الحركات المسلحة وحكومة الرئيس المعزول عمر البشير، أكثر من 3 ملايين نازح ولاجئ يتوزعون على نحو 175 معسكراً في أنحاء الإقليم، أبرزها 20 معسكراً في ولايات جنوب ووسط دارفور.
كما توجد ستة معسكرات في شمال دارفور، وتحتضن ولاية شرق دارفور ستة معسكرات، بينما تضم ولاية غرب دارفور العدد الأكبر بنحو 37 معسكراً.
وتسببت الحرب الحالية بين الجيش و"الدعم السريع" في كارثة إنسانية وأزمة نزوح هي الأكبر في العالم، إذ نزح أكثر من 10.7 مليون نازح لأكثر من مرة داخل البلاد، يقيم 10 في المئة منهم في مناطق مفتوحة، بينما فر أكثر من 2.3 مليون شخص خارج البلاد.