ملخص
لتوازن بين الجسد والنفس والعاطفة يقدم الطب الوظيفي حلولاً قوامها الطبيعة لكنه لا يزال غير معترف به في لبنان
نشعر بألم فنتجه فوراً إلى الطبيب في عيادته أو إلى المستشفى، طالبين وضع حدٍّ للألم على الفور، فيكتب لنا وصفة كاملة بعد أسئلة وفحص سريري للحرارة والضغط مستخدماً سماعته وآلة قياس الضغط وملاعق خشبية مسطحة وآلة للأذن وأخرى للأنف وسواها من الأدوات التي تساعد على التشخيص الأولي.
وربما يطلب الطبيب فحوصاً أخرى للدم والبول والبراز، وصوراً على أنواعها من المسح الضوئي إلى الرنين المغناطيسي مروراً بالتصوير المقطعي والإشعاعي وغيرها من الصور لتوضيح حال المريض فوصف العلاج المناسب. وهذا السيناريو يتكرر دوماً مع زيارة الطبيب لعلاج أي عارض أو إصابة، اعتدنا عليه طوال حياتنا.
مقاربة أخرى للمرض
ولكن على الضفة الأخرى مقاربة أخرى للألم والإصابة والأعراض الصحية، فنهى تلك السيدة التي كانت تعاني أعراض توقف الطمث، أو ما سمي "سن اليأس"، لم تكُن تتوقع أن نظاماً غذائياً مدعوماً ببعض المكملات الغذائية والهرمونات الطبيعية أو "المتطابقة حيوياً" سيجعلها تتخطى هذه المرحلة بأقل أضرار ممكنة. تقول السيدة نهى إن طبيبتها النسائية نصحتها باللجوء إلى الطب الوظيفي بعد أن استعانت هي شخصياً بأحد زملائها من الأطباء الوظيفيين، علماً أنه ليس أمراً لدى الأطباء التقليديين.
تخبر نهى بأن حياتها تغيرت في غضون شهر، بعدما عانت لأعوام، وتوضح أن "الطبيب لم يفحصني، لقد تحدث معي على مدى ساعة ونصف، سألني عن أمور كثيرة منذ طفولتي وأسلوب حياتي، وإن كانت لدي حشوات في أضراسي، ومكان إقامتي وعلاقتي بزوجي وحال أظافري وشعري ونومي وحركتي وطعامي... لم يتبقَّ شيء لم يكتبه، ثم طلب مني فحوصاً معينة، بعدما قرأ فحوصي القديمة. بعد فترة طلب مني أن أتوقف عن أخذ أدوية عدة للضغط والكوليسترول. وأكثر ما أذكره تشديده على معرفة أسباب مرضي لمعالجة السبب وليس ما نتج منه".
تختم السيدة أنه "في الواقع بعد ثلاثة أشهر من المتابعة وأخذ المكملات الغذائية والهرمونات الطبيعية أشعر بأنني صغرت 20 سنة وصرت أفهم جسمي وحاجته، وعادت طاقتي أفضل مما كانت أيام الشباب".
ما الطب الوظيفي؟
يُعدّ الطب الوظيفي نهجاً شاملاً للرعاية الصحية، إذ يركز على فهم الأسباب الجذرية للأمراض المزمنة والحالات الصحية ومعالجتها. وعلى عكس الطب التقليدي الذي يركز غالباً على إدارة الأعراض، يسعى الطب الوظيفي إلى الكشف عن العوامل الأساسية التي تسهم في المرض. ويأخذ في الاعتبار العوامل الجينية والبيئية ونمط حياة الشخص، وكيفية تفاعل هذه العناصر للتأثير في الصحة. ويهدف إلى إنشاء خطط علاجية محددة تعزز الصحة على المدى الطويل وتمنع الأمراض. ويجمع هذا النهج التكاملي بين أفضل ما في العلوم الطبية الحديثة ورؤى من الممارسات التقليدية، مما يوفر إطاراً شاملاً للعلاج ولتحقيق الصحة المثلى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعتبر طبيب الأسرة مارك هايمان، صاحب عدد من الكتب الصحية، واحداً من أنصار الطب الوظيفي ويعرّفه على أنه نهج قائم على بيولوجيا الأنظمة ويركز على تحديد السبب الجذري للمرض ومعالجته. ويأخذ في الاعتبار التفاعلات المعقدة بين العوامل الوراثية والبيئية ونمط الحياة. وهذه الطريقة تهدف إلى استعادة التوازن والأداء الوظيفي الأمثل للجسم.
ويؤكد طبيب الأعصاب الأستاذ في الكلية الأميركية للتغذية ديفيد بيرلماتر أن الطب الوظيفي يسعى إلى فهم الأسباب الكامنة وراء المرض بدلاً من مجرد علاج الأعراض، ويدمج الطب التقليدي مع العلاجات البديلة ويركز على التفاعل بين الوراثة والبيئة ونمط الحياة.
بداية الطب الوظيفي
بدأ الطب الوظيفي بالتبلور في أواخر القرن الـ20 وتأثر تطوره بالتقدم في العلوم الطبية وعدم الرضا عن الأساليب التقليدية لإدارة الأمراض المزمنة، والاهتمام المتزايد بالممارسات الصحية الشاملة والتكاملية.
ويمكن إرجاع جذوره إلى المفاهيم المبكرة للممارسات الصحية التكاملية والشاملة. وأرست التقاليد القديمة مثل الأيورفيدا والطب الصيني التقليدي، إضافة إلى الأساليب الشاملة للطب الغربي المبكر، الأساس لفهم أكثر تكاملاً للصحة.
بدأ إضفاء الطابع الرسمي على مصطلح "الطب الوظيفي" في الثمانينيات، عندما بدأ الدكتور جيفري بلاند الذي يسمى "أبو الطب الوظيفي"، بتوضيح مبادئه وممارساته، وشدد عمله على أهمية فهم الأسباب الكامنة وراء الأمراض المزمنة ومعالجتها بدلاً من مجرد علاج الأعراض. وأسس بلاند عام 1991 معهد الطب الوظيفي بهدف إنشاء إطار شامل للطب الوظيفي، مع التركيز على الرعاية الشخصية التي تأخذ في الاعتبار الاختلافات الفردية في علم الوراثة والبيئة ونمط الحياة.
واكتسب بعدها الطب الوظيفي الاعتراف، وتوسع مع استكشاف الممارسين والباحثين لمبادئه وتطبيقاته، وجرى اعتماد هذا النهج بصورة متزايدة من قبل المتخصصين في الرعاية الصحية الذين كانوا مهتمين بنموذج رعاية أكثر تكاملاً ووقائياً.
وفي بداية القرن الـ21، أسهم نشر النصوص الرئيسة والمقالات البحثية، فضلاً عن إنشاء برامج التدريب على الطب الوظيفي، في نمو هذا المجال، وبدأ الوظيفي يحظى بقبول أوسع في كل من الأوساط الأكاديمية والسريرية.
واليوم تعمد دول عدة إلى تدريس الطب الوظيفي في الجامعات مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنمسا وألمانيا وأستراليا وسويسرا وغيرها.
تغيير أسلوب الحياة
في حديث إلى "اندبندنت عربية"، قالت الطبيبة لورنس دير هوفسبيان المتخصصة في الطب الوظيفي والطب التجانسي، إن دراسة الطب الوظيفي تستوجب أولاً دراسة الطب العام، وأثناء التخصص يمكن أن يختار الطبيب هذا التخصص الذي يعالج أصل المشكلات والمريض ككل. ويمكن أن يعالج جميع الحالات من دون استثناء "فإذا جاءني مريض يعاني آلام الرأس مثلاً عليّ أن أعرف ماذا يجري في معدته، وكمية الماء التي يشربها وغيرها من الأمور التي أطرحها أثناء الاستشارة لمعرفة كامل تاريخه منذ ولادته وأين بدأت المشكلة".
وأكدت دير هوفسبيان أن الطب الوظيفي يركز على فحوص الدم الشاملة التي لا يطلبها عادة الأطباء الذين يطلبون فحوصاً بحسب وضع المريض، ويرسل بعضها أيضاً إلى الخارج لأنها غير موجودة في لبنان، مثل تحليل الشعر للتحقق من وجود المعادن الثقيلة، وتحليل البول إذا كان يحوي فطريات في الدم، وتحليل كامل للخروج للتحقق من وجود فطريات وجراثيم وسوء امتصاص في الأمعاء، والثيرموغرافي (التصوير الحراري من دون إشعاع)، وتحليل الدم الحي وغيرها من الفحوص "كأننا نمسح كامل الجسم، وهذا ما لا يلجأ إليه الطب التقليدي، إضافة إلى الصور الصوتية والرنين المغناطيسي والمقطعي، إذ لا يوجد بديل عن أنواع الصور المختلفة التي تظهر كل واحدة منها فاعلية فريدة ونتائج مهمة، لكننا نحرص قدر الإمكان على اللجوء إلى الأمور الطبيعية".
وتضيف أن "العلاجات التي نصفها عادة تبدأ أولاً بتغيير أسلوب الحياة والتخلص من العادات السلبية، وننتبه إلى الحساسية من الأطعمة، ونلتجئ إلى الرياضة والصيام والمكملات الغذائية. فنعطي الماغنسيوم وفيتامين د ومكملات أخرى مثلاً ولكن بعد تنظيف الأمعاء. فإذا كانت هناك ديدان في الأمعاء على سبيل المثال نتخلص منها قبل البدء بالفيتامينات التي قد تمتصها الديدان ولا يستفيد منها المريض".
ومن الأولويات أيضاً، توضح دير هوفسبيان، تأمين فترة نوم كافية والاستيقاظ باكراً على طريقة أجدادنا وكما تتطلب جيناتنا، إذ يجب الاستيقاظ نحو الساعة الخامسة والنصف صباحاً مع شروق الشمس لجعل ساعتنا الداخلية تفعّل ذاتها للبدء بالنهار بصورة صحية.
يعتبرنا الأطباء مشعوذين
و"نحن نتعاون مع أطباء تقليديين منفتحين على اختصاصنا، ويدركون أن عملنا يبدأ من المكان الذي ينتهي فيه عملهم، فإن عدداً منهم لا يحبون عملنا ويعتبرونه نوعاً من الشعوذة، ولكن هناك أطباء اكتشفوا أهمية عملنا وأعمل مع عدد منهم يداً بيد، من بينهم أطباء قلب"، بحسب الطبيبة لورنس دير هوفسبيان.
وتحدثت عن أحد زملائها الذي أرسل لها عدداً من المرضى لم يعُد دواء الضغط ينفعهم، فتعمل معهم على تنظيم الطعام وأخذ الفيتامينات اللازمة وتلحظ التغيرات، بخاصة أن النظام الجسدي يشكل حاجزاً أحياناً إذا تم تناول أدوية معينة لفترة طويلة، فيأتي تغيير نمط الحياة وتناول مكملات غذائية معينة ليجعل الجسم يعيد تشغيل ذاته. وتوضح "لسوء الحظ أستطيع القول إن 50 في المئة من الأطباء التقليديين، وهذا رقم متفائل، يتقبلون الطب الوظيفي، بينما يعتبره الآخرون غير ذي فائدة".
لا خانة للطب الوظيفي
عالمياً، يتطلب الطب الوظيفي دراسة لمدة ثمانية أعوام، منها خمسة أعوام طب عام وثلاثة أخرى تخصص في الطب الوظيفي أو الطب الطبيعي. وعلى رغم دراستها وتخصصها في ألمانيا تقول دير هوفسبيان إنها لا تعتمد كطبيبة في لبنان لأنه لا توجد خانة في وزارة الصحة أو في نقابة الأطباء للطب الوظيفي، ويجب أن يكون للطبيب تخصص بإحدى اختصاصات الطب التقليدي، لذا تحتاج إلى أطباء ليكتبوا وصفات الفحوص التي تأخذ بها شركات التأمين المحلية، في حين يمكنها وصفها للذين لديهم تأمين دولي.
وعلى رغم أن الاستشارات باهظة الثمن في الطب الوظيفي في لبنان والعالم، إلا أن دير هوفسبيان خفضت سعر استشارتها مراعاة للوضع في لبنان بما يشبه الاستشارات في الطب التقليدي، ولكنها في ألمانيا كانت لتتقاضى نحو 400 دولار أميركي للاستشارة الأولى و250 في زيارات المتابعة.
وتقول "إن استشارة الطب الوظيفي أغلى ثمناً بسبب الوقت والتعمق والبحث والتحليل والتفكير في الحالة والعلاج لأنه يعتبر أن كل حالة تحتاج إلى بحث خاص بها، في حين الطب التقليدي تكون الاستشارة فيه نحو نصف ساعة ويصفون أدوية للحالة على طريقة نهج واحد يناسب الجميع لكننا نصف العلاج بحسب الأسئلة التي حصلنا على أجوبتها، ومعرفة التاريخ الصحي كاملاً، وأخذ كامل التفاصيل في الاعتبار، مما يتطلب وقتاً أطول لخلق خطة علاج، وهذا يحملنا مسؤولية كبيرة ويحتاج إلى متابعة أكبر".
بين شركات الأدوية والمدعين
وعن التحديات التي تواجه الطب التقليدي، تقول دير هوفسبيان إنها كثيرة، "أولها أن مصانع الأدوية تحاربنا لأننا لا نطلب الدواء التقليدي في معظم الأحيان، إلا للضرورة في أدوية الالتهاب والغدة والكورتيزون وغيرها، وحين لا يستطيع المريض الالتزام بالعلاج الطبيعي الذي نقدمه. وكذلك هناك تحدي القطاع الطبي لأننا نعمل على جميع الأقسام وليس كالطبيب المتخصص في مجال معين، إنما بطريقة قادرة على المعالجة الكلية، خصوصاً في ظل التطور الهائل واليومي للطب الوظيفي".
وتشير إلى أن الطب الوظيفي يعمل على تحقيق التوازن بين العقل والمشاعر والجسد، لذلك يُعدّ تغيير أسلوب الحياة أمراً مفصلياً في العلاج حتى إن بعضهم في إطار علاجهم يغيرون وظائفهم ومكان إقامتهم، إضافة إلى تغيير نظام حياتهم، فالأساس التخلص من الضغوط والقلق التي تعد أساس المشكلات النفسية والجسدية.
وتعطي مثلاً على تعامل الطب التقليدي مقابل الطب الوظيفي في حالة السرطان، إذ يصف الأول بعد فحوص الدم والصور وغيرها من الإجراءات البروتوكول العلاجي من دون فحص الفيتامينات ولا المعادن ولا يتطرق إلى ماذا يأكل المريض ولا يستعين باختصاصي تغذية للتوقف عن تناول السكر ومسببات السرطان. وتقول إنه يجب التعاطي مع الأطعمة والشراب على أنها قد تعالج أو تضرّ الجسم، وإيجاد طريقة لدعم جهاز المناعة أثناء العلاج الكيماوي.
وتحذر من أن الطب الوظيفي يواجه مشكلة كبيرة في عدم اعتراف الأطباء به بسبب الأشخاص الذين يخضعون لدورات لمدة شهرين ويأخذون شهادات كمدربي صحة وعلاج طبيعي "أونلاين" ويمارسون العلاج. و"نحن في المقابل ندرس لثماني سنوات ونتدرب في غرف التشريح والطوارئ والعمليات. وكل أمنيتي أن يكون هناك شكل تنظيمي وقانوني للطب الوظيفي لقطع الطريق على المدعين والذين يشوهون هذه المهنة بادعاءاتهم ويصفون العلاجات والذين يتسببون بأذى للناس والمهنة".