Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

التجنيد الإجباري في إريتريا... واجب وطني أم استغلال؟ 

رغم أن مدته عام ونصف العام يقضي المجندون فترة الخدمة بلا سقف زمني بدعوى أن البلد في حال حرب مع إثيوبيا

مارش عسكري لمجندي الخدمة الإجبارية في إريتريا (وزارة الإعلام الإريترية)

ملخص

ثمة تقارير دولية تصف حال التجنيد الإجباري في إريتريا بأنه يعد من أعمال السخرة التي تجرمها الاتفاقية 29 لمنظمة العمل الدولية المعتمدة عام 1930.

تعد إريتريا من بين الدول الأفريقية التي تعتمد التجنيد الإجباري، الذي يعرف بمشروع "الخدمة الوطنية الإلزامية" منذ بدايات استقلالها، إذ أعلن المرسوم 82/ 1995، الذي ينص على أن "الخدمة في الجيش لمدة 18 شهراً، أمر إلزامي لكل شاب بالغ"، ولا يميز المرسوم بين الذكور والإناث، فالخدمة مفروضة على الجنسين بشكل متساوٍ، وقد بدأت الدفعة الأولى في صيف عام 1995.

على رغم أن السقف الزمني الذي يحدده المرسوم يقتصر على عام ونصف العام، على أن يقضي المجندون نحو ستة أشهر في أداء التدريبات العسكرية، ثم يتم توزيعهم لاحقاً خلال العام بمختلف مشاريع التنمية المدنية والعسكرية التي تحددها الدولة، فإن اندلاع الحرب الحدودية بين إريتريا وإثيوبيا على مثلث بادمي (1998- 2000) قد أسقط المدة الزمنية المحددة قانوناً، مما أدى إلى تمديد فترة الخدمة من دون تحديد سقف زمني معروف لها.

وعلى رغم انتهاء الحرب في ديسمبر (كانون الأول) 2000 وفقاً لاتفاقية الجزائر، فإن حال اللاحرب واللاسلم التي أعقبت عامي القتال وامتدت لعقدين من الزمن، بخاصة في ظل عدم التزام إثيوبيا بقرار المحكمة الدولية القاضي بتسليم مثلث بادمي لإريتريا، واستمرار حال العداء بين النظامين في أسمرة وأديس أبابا، أعطت ذريعة للنظام الإريتري لفرض التجنيد الإجباري من دون وضع أي سقف زمني للمدة، على اعتبار أن البلد في حال حرب في ظل استمرار احتلال إثيوبيا لجزء من الأراضي السيادية الإريترية، على رغم صدور قرار المحكمة الدولية المشكلة وفقاً لـ"اتفاقية الجزائر" عام 2000.

 

 

ومع نجاح الحراك الشعبي الإثيوبي، الذي أدى إلى إسقاط نظام الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في أديس أبابا وصعود رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد لسدة السلطة، وما رافق ذلك من آمال بخاصة بعد قبوله تنفيذ قرار التحكيم الدولي وتوقيعه لاتفاقيتي جدة وأبو ظبي مع أسمرة، إذ استبشر الشباب الإريتريون بعهد جديد ينهي مأساة التجنيد الإجباري المفتوح، فإن تلك الآمال العريضة انتهت مع اندلاع  حرب تيغراي التي شاركت فيها وحدات من الجيش الإريتري بجانب الجيش النظامي الإثيوبي ضد قوات الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، إذ تم إعلان حال استنفار داخل الجيش الإريتري الذي يمثل  مجندي الخدمة الاجبارية قوته الضاربة وعموده الفقري.

ضرورات التجنيد الإجباري 

بدوره، يرى المحلل السياسي الإريتري سليمان حسين، أن ثمة ضرورات وطنية مهمة دفعت الحكومة الإريترية منذ عهد الاستقلال لاعتماد قانون 82 لعام 1995 الخاص بالخدمة الوطنية، ويحدد تلك الضرورات في عدد من النقاط أهمها أن إريتريا دولة صغيرة نالت استقلالها بعد حرب تحرير دامت ثلاثة عقود، وعدد سكانها في وقت الاستقلال لا يتجاوز  ثلاثة ملايين نسمة، علاوة على محدودية الإمكانات الاقتصادية، ما يعني أنها لن تستطيع بناء جيش نظامي بالحجم الذي يلبي حاجاتها الدفاعية بعد الاستقلال، بخاصة أنها تقع في محيط إقليمي يفتقد الاستقرار السياسي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويضيف أن الحرب التي اندلعت مع النظام الإثيوبي عام 1998 بذريعة النزاع الحدودي كانت متوقعة. منوهاً إلى أن بلاده تقع في منطقة من أهم المناطق الاستراتيجية في العالم، باعتبار أن شريطها الحدودي في أقصى جنوب البحر الأحمر يقع على مقربة من باب المندب الذي يعد من أهم الممرات المائية للملاحة الدولية، الأمر الذي جعل البلاد تاريخياً تقع رهن أطماع القوى العظمى التي تخطط للسيطرة على المواقع الاستراتيجية خدمة لمصالحها.

ذلك كان سبباً رئيساً في إلحاق إريتريا بإثيوبيا في نهايات الخمسينات من القرن الماضي، بدلاً من نيلها الاستقلال على غرار مثيلاتها في القارة الأفريقية، بحسب سليمان الذي يرى أن "تلك الأطماع لا تزال مستمرة في جوهرها وإن تغيرت أشكالها حتى بعد تحقيق الاستقلال الإريتري"، مشيراً إلى مشاريع عدة تتبلور في كل حقبة زمنية بشكل جديد، تارة تحت مسمى المطالب التاريخية الآتية من الجنوب، وتارة أخرى تحت عناوين وحدة إثيوبيا أو مشروع تيغراي الكبرى، وكل هذه التحديات المدعومة من القوى العظمى ومخططاتها تتطلب بناء جيش محترف، مما يجعل من نظام الخدمة الوطنية الإلزامية ضرورة وطنية مُلحة. 

ويؤكد المتخصص في الشأن الإريتري، أن مدة الخدمة قانوناً لا تتجاوز عاماً ونصف العام، وفقاً لمرسوم الخدمة الوطنية رقم 82/ 1995. معتبراً أنها مدة منطقية وتتماشى مع ما يجري في معظم الدول التي تعتمد نظام الخدمة الوطنية، وموضحاً أن بعض بنود المراسيم قد تتعطل في حال تعرض البلاد لعدوان خارجي. وهو ما حدث عندما تعرضت إريتريا لعدوان نظام الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي عام 1998.

تسيّس الخدمة العسكرية  

من جانبه، يرى المتخصص في شؤون القرن الأفريقي عبد الرحمن أبو هاشم، أن الخدمة الوطنية (التجنيد الإجباري) معمول به في كثير من دول العالم، وله أهميته في تمكين الشباب من المهارات القتالية للدفاع عن الوطن وتنمية وعيهم السياسي ووحدتهم الوطنية، لكن في الحال الإريترية يبدو أنه يحمل طابعاً سياسياً وسلطوياً، إذ اعتمدها النظام الإريتري لتحقيق ثلاث غايات رئيسة، أولها إعادة صناعة المجتمع ليصبح مجرد أداة طيعة للنظام. وثانياً إبقاء الشباب بعيداً من المدن والتجمعات الحضرية حتى لا يكون لديهم مطالب حياتية ودوافع للقيام بالتظاهرات استنكاراً لحرمانهم من حقوقهم، لا سيما في ظل وقوع انتهاكات كبيرة لحقوق الإنسان، ولجعل خيارهم الأوحد لتحقيق أحلامهم هو المجازفة بالهروب خارج البلاد، سواء لتلقي التعليم أو تحسين ظروفهم الاقتصادية والمعيشية. أما الغاية الثالثة، وفق أبو هاشم، فتتمثل في إيجاد رافد بشري للزج بهم في الحروب التي يخوضها النظام في الداخل والخارج.

 

 

وفي تعليقه على سؤال السقف الزمني للتجنيد الإجباري، يقول المتخصص في شؤون القرن الأفريقي إنه على رغم أن مرسوم الخدمة الوطنية يحدد المدة الزمنية بـ18 شهراً تتوزع بين التدريب والتأهيل العسكري والخدمة المدنية، فإن النظام الإريتري لا يلتزم بهذا السقف القانوني ويُبقي المجندين تحت الخدمة لمدد زمنية مفتوحة. 

ويضيف أبو هاشم أن الحروب التي خاضها النظام مع دول الجوار تحت ذرائع مختلفة كانت للهروب من الاستحقاقات الوطنية المتمثلة في إقامة نظام سياسي ديمقراطي، وسيادة القانون، وإطلاق الحريات العامة، وتهيئة الأرضية لإعادة بناء اقتصاد وطني وتنمية مستدامة، وإضافة إلى تجميد تلك الاستحقاقات مضى النظام في ارتكاب مزيد من الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان تحت ذرائع تعرض البلاد للخطر الخارجي. 

ويشير إلى أن ثمة تقارير دولية تصف حال التجنيد الإجباري في إريتريا بأنه يعد من أعمال السخرة التي تجرمها الاتفاقية 29 لمنظمة العمل الدولية المعتمدة عام 1930، فيما وصفته لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة في تقريرها الصادر عام 2015 بأنه يرقى إلى حال "استعباد". مؤكداً أن هذا الوصف "دقيق جداً لأن الشباب الإريتري يعامل معاملة المملوك لنظام يزج به في أتون حروبه العبثية، وفي أعمال السخرة من دون توفير أدنى حقوق مادية أو معنوية". 

في المقابل يرفض المتخصص في الشأن الإريتري سليمان حسين، وصف الخدمة الإلزامية بالسخرة والاسترقاق، مؤكداً أن ذلك يعد توصيفاً خاطئاً، ومعتبراً أنه "لولا وجود الخدمة الوطنية لما تمكنت البلاد من دحر العدوان الخارجي وحماية السيادة الوطنية، وذلك لا ينفي وجود عواقب سلبية، بخاصة في ما يتعلق بغياب السقف الزمني الذي فرضته الأحداث والتحديات التي مرت بها الدولة الوطنية منذ الاستقلال".

ويشير إلى أن الأمر الآن بحاجة إلى إعادة تقييم التجربة واتخاذ إجراءات تحد من تلك العواقب السلبية، إذ إن ثمة ضرورة لتسقيف المدد الزمنية مع الحفاظ على المشروع. مؤكداً إمكانية ابتكار طرق ووسائل أخرى للحفاظ على قدرات عسكرية تلبي حاجات إريتريا الدفاعية المبررة، مع تحديد مدة التجنيد الإجباري.

إنجازات وإخفاقات 

ولا يتفق حسين مع فرضية أن الحرب الحدودية كانت ذريعة للنظام الإريتري لتحقيق مآرب سياسية أخرى، مشيراً إلى أن أزمة الحدود استخدمها النظام الإثيوبي كذريعة لاستهداف الكيان الإريتري برمته. ويرى أن الأوضاع التي تعيشها منطقة القرن الأفريقي، بخاصة الحروب الدائرة في إثيوبيا والسودان والصومال، كشفت للمراقبين أن إريتريا أفلتت من المصير ذاته لجهة قدرتها على بناء جيش وطني فاعل، مشيراً إلى أن لمجندي الخدمة الإجبارية الدور الحاسم في إحباط  المخططات الإقليمية التي استهدفت سيادة البلاد، بما في ذلك إلحاق الهزيمة بالجبهة الشعبية لتحرير تيغراي، التي ظلت تخطط لشن عدوان على إريتريا، إذ يعد ذلك ركناً أساسياً من مشروعها التوسعي الساعي لإقامة "دولة تيغراي الكبرى" كما ينص عليه الـ"مانيفستو" الذي تأسست عليه.

ويعدد المتخصص في الشأن الإريتري ملامح الإنجازات التي حققها مشروع التجنيد الإجباري في بلاده بنقاط عدة، أهمها التصدي للعدوان الإثيوبي في حرب 1998- 2000، وحال اللاحرب واللاسلم التي تلت ذلك، إضافة إلى العدوان الذي شنته الجبهة الشعبية لتحرير تيغراي في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2020، والذي استهدف العاصمة الإريترية أسمرة عبر غارات صاروخية.

 

 

ويضيف أن ثمة إنجازاً آخر يتعلق بقدرة مجندي الخدمة الوطنية الذين يمثلون العمود الفقري للجيش الإريتري على حفظ السيادة الوطنية واستعادة الأراضي التي تم الاستيلاء عليها من قبل النظام الإثيوبي وظلت تحت سيادته على رغم صدور قرار المحكمة الدولية المكلفة بالبت في النزاع الحدودي، وعلى رأسها مثلث بادمي الحدودي الذي تمت استعادته في حرب تيغراي الأخيرة. 

وثمة هدف اقتصادي آخر يضيفه حسين إلى إنجازات مشروع التجنيد، إذ يرى أن نظام الخدمة الوطنية ساعد البلاد في تجاوز التحديات الاقتصادية التي تسببت فيها حال الحرب، كما أسهم المشروع - بحسب رأيه - في تخفيف آثار العقوبات الدولية، إذ كان من المحتمل أن تؤدي العقوبات إلى انهيار كامل للدولة، بخاصة أنها أتت لتحقيق ما فشل العدوان من تنفيذه، مشيراً إلى أن لمجندي الخدمة الوطنية دوراً رئيساً في إنفاذ المشاريع التنموية الكبرى. 

وبخصوص الآثار السلبية يرى حسين أنه نظراً إلى غياب السقف الزمني للتجنيد نزحت أعداد كبيرة من شباب إريتريا إلى الخارج، مما جعلهم عرضة للمخططات التي تحاك من بعض القوى الإقليمية والدولية الهادفة إلى الإضرار بالهوية الوطنية والنسيج الاجتماعي الإريتري.

الكم مقابل النوع 

بدوره يرى عبد الرحمن أبو هاشم، أن القوة العسكرية التي بناها النظام الإريتري تعد كبيرة على دولة بحجم إريتريا، إذ يبلغ تعداد الجيش نحو 300 ألف في بلد لا يتعدى عدد سكانه أربعة ملايين نسمة، أي نحو ثمانية في المئة من إجمالي عدد السكان. وعلى رغم ضخامة العدد فإن القوات الإريترية تعتمد على عقيدة قتالية تعود لزمن الحرب العالمية الأولى وحرب التحرير الإريترية، وتفتقر إلى أي عمل مؤسساتي دستوري، إضافة إلى غياب التأهيل العلمي والتقني لإدارة العمليات العسكرية الحديثة، مما يجعلها عرضة لخطر الانهيار أمام اجتياح أي جيش أكثر تأهيلاً من حيث الإمكانات التكنولوجية مثل الاعتماد على المسيرات والحروب الإلكترونية. 

ويوضح أبو هاشم أن القوة الحقيقية لأية دولة تكمن في شعبها ومؤسساتها التعليمية والاقتصادية وخدمتها المدنية، إضافة إلى الجيش المسلح بالعلم والتكنولوجيا وعقيدة وطنية وولاء للدستور، وكل هذه العوامل يفتقدها الجيش الإريتري. 

ويرى أن ثمة ضرورة ملحة الآن لإعادة تقييم مشروع التجنيد الإجباري بما يتناسب مع حاجة البلاد، بحيث يتم التجنيد وفق شروط محددة، أهمها الالتزام بمرسوم الخدمة الوطنية الذي يحدد المدة الزمنية بعام ونصف العام، إضافة إلى إعادة تعريف غايات المشروع، بحيث يقتصر على بناء الشخصية الوطنية التي تمتلك القدرة الكافية للدفاع عن الوطن وتتمتع بقدرات مهنية وأكاديمية لتحقيق التنمية في كل المجالات، وتحييد الأهداف السياسية للنظام جانباً.

المزيد من تقارير