Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

فلانري أوكونور الكاتبة الأكثر عنفا في الجنوب الأميركي

عاشت حياة عسيرة هادئة محاطة بهواجس المرض والموت وخلفت وراءها روايتان وحفنة من قصص قصيرة وخلود حجز لها مكانة كبيرة في بيئة فوكنر

من مشاهد فيلم عن حياة الكاتبة حقق قرب مزرعتها (موقع الفيلم)

ملخص

كانت الكاتبة الأميركية فلانري أوكونور مريضة ومقعدة وعرضة للأمراض، والإصابات تتوالى عليها محطمة حتى روح التفاؤل التي كانت تبديها لطمأنة الآخرين فحسب غير أن الذين يحيطون بها كانوا يعلمون أن كل هذا ليس سوى أحلام وأن ما تبديه من تفاؤل ليس سوى قناع كاذب ولم يكن دليلهم على ذلك سوى كتاباتها نفسها

لم تعش الكاتبة الأميركية فلانري أوكونور (1926 – 1964) تلك السنوات الـ40 التي كانت منذ صباها تتوقع ألا تتجاوزها أبداً. وكذلك لم تنجز خلال حياتها القصيرة نسبياً تلك السلسلة المكثفة من الأعمال الروائية والقصصية التي كانت تريد إنجازها. وهي إلى ذلك لم تتمكن من رؤية ما كانت تود مشاهدته من العالم المحيط بها، ولا طبعاً من العالم الواسع الذي كانت ثقافتها وفضولها العريضان يدفعانها إلى تمني زيارته. كل ما فعلته خلال صباها المبكر أنها ارتادت الجامعة لردح من الزمن وزارت لاحقاً بعدما حققت شيئاً من الشهرة، مدينة لندن ولكن بألف مساعدة ومساعدة. ففلانري أوكونور كانت مريضة ومقعدة وعرضة للأمراض، والإصابات تتوالى عليها محطمة حتى روح التفاؤل التي كانت تبديها معلنة لطمأنة الآخرين فحسب. إنها واثقة من أن صحتها ستعود إليها يوماً وستنطلق في العالم كما يحلو لها، غير أن الذين يحيطون بها كانوا يعلمون أن كل هذا ليس سوى أحلام وأن ما تبديه من تفاؤل وتمسك بآيات المسرة والفرح ليس سوى قناع كاذب تحاول به أن تكذب على نفسها بقدر ما تكذب على الآخرين. ولم يكن دليلهم على ذلك سوى كتاباتها نفسها، تلك الكتابات التي لم تكن كثيرة على أية حال، روايتان طويلتان ومجموعات قصصية. ولقد جرت العادة على أن يتوقف النقاد والمؤرخون عند الروايتين ولا سيما منهما الرواية الأقدم "حكمة الدم" التي نشرتها الكاتبة خلال عام 1952 معلنة من خلالها دخولها عالم الرواية وتحديداً على خطى ابن منطقتها ويليام فوكنر وأيضاً كاتبة الجنوب الأميركي الكبيرة الأخرى كارسون ماكالرز.

بيئة مليئة بالمرض

ولكن لئن كان أدب ماكالرز يهتم بالمهمشين وبالعلاقات الإنسانية التي تقوم بينهم والمجتمع "السليم" الذي بالكاد يقبل بهم، فإن ما استشف من رواية أوكونور الأولى وستستأنفه الكاتبة في رواية تالية لها هي "العنيفون وحدهم هم الغالبون" (1960) والتي ستكون الأخيرة التي تنشر خلال حياتها، هو مخزون العنف والعواطف المريضة في داخلها والذي بالكاد كان ثمة تعبير عنه في شخصيتها أو مسار حياتها. ولئن كان من الصعب تلخيص أحداث "حكمة الدم" ولا حتى "العنيفون..." فإن ما يمكن قوله عنهما أن الكاتبة المتشددة في كاثوليكيتها حاولت من خلالهما أن تعالج مناخات الدعاة المتطرفين في سبيل خلاص وهمي لأنفسهم بعيداً من الدين الصحيح، يخترعون مذاهب ومواقف يبحثون عن أتباع لها مستخدمين في سبيل ذلك كل ضروب الاحتيال والتشويهات الجسدية المستمدة حتى من الحكايات المنسوبة عادة إلى أصحاب الدين الحقيقيين. ومن هنا ما تمتلئ به "حكمة الدم" المتمحورة أصلاً من حول مجند يعود إلى بلدته الجنوبية ليكتشف أنه بات وحيداً من دون عائلة ومن دون أصدقاء ومن دون هدف. فلا يكون منه لتحقيق ذاته أمام ذاته إلا أن يشتري سيارة قديمة مهترئة يبدأ بها تجوالات عدة في المنطقة تتحدث عن "دين جديد"، لكنه لا يتمكن من جمع أحد من حوله. فأمثاله في الجنوب الأميركي يكثرون عادة بعد الحروب ونادراً ما يتمكنون من إقناع أحد. غير أنه يلتقي في طريق بداعية "أعمى" يسلك قبله الطريق نفسه مستغلاً عماه وسيلة لإعلان مذهبه لكنه بدوره لا يقنع أحداً. وحين يسعى الداعية الشاب الجديد إلى الاحتيال على سابقه هذا من طريق إغواء ابنته، تتبدى هذه أكثر احتيالاً منه وتورده موارد الهلاك...

عنف مهيمن

والحقيقة أننا هنا قد نجدنا أمام مقدار من العنف من المستحيل توقع المصادر التي استمدت منها الكاتبة مرجعيتها، إذ اكتفى النقاد بعزو الأمر إلى جوانيتها في تعاملها المرضي مع عالم مريض. لكن الأمور ستبدو أكثر تفاقماً بالنسبة إلى الرواية الثانية "العنيفون..." والتي عدَّ النقاد العنف المهيمن على الرواية الأولى مجرد لعبة أطفال بالمقارنة معه. فهنا ومن خلال حكاية "عائلية" تقدم لنا أوكونور شاباً آخر لا تقل أطواره غرابة عن أطوار "بطل" الرواية الأولى (المجند الداعية) يعيش في عزلة عن العالم في كنف عمه الأكبر نصف المجنون والذي يدعي لنفسه نبوة ما. وحين يموت هذا الأخير يتوجه الفتى ذو الرابعة عشرة إلى المدينة ليعيش هذه المرة في كنف عم أصغر له هو لي ريدر، ولهذا الأخير ولد أحمق يدعى بيشوب كان العم الكبير قد طلب من الفتى تعميده على طريقته المنشقة عن الدين القويم. وهنا بسرعة يضحى بيشوب بالنسبة إلى الفتى رمزاً لنضاله ضد عمه الراحل وهيمنته عليهما. وهو لوضع حد لتلك الهيمنة ينتهي به الأمر إلى قتل بيشوب من طريق إغراقه في النهر...

عوالم الجنون والقتل

عوالم من الجنون والقتل هي تلك التي تصفها أوكونور ولكن ليس في هاتين الروايتين فقط بل في كل ما كتبته. فهل كان يمكن للأمور أن تكون مختلفة في الواقع بالنسبة إلى كاتبة شابة عاشت طوال سنواتها القصيرة حبيسة مرض أقعدها ولا سيما خلال السنوات الـ10 الأخيرة من حياتها. وإلى درجة أن كاتبي سيرتها اشتكوا دائماً من رتابة تلك السيرة التي "ليس فيها ما يستحق أن يروى" بحسب مؤرخ الأدب ويليام غوين الذي سيلاحظ على أية حال أنه "لئن تبدت حياة فلانري أوكونور قصيرة ورتيبة فإن كتاباتها تحفل بثراء استثنائي وبعديد من الحيوات الغنية والملونة". والحال أن من الواضح أن عزلة تلك الكاتبة الناتجة من المرض الوراثي القاتل الذي ألم بها وهي بعد في شرخ الصبا لم تحل بينها وبين أن تراقب الناس من حولها، ولكن ليس كما قد يتراءى للوهلة الأولى، بشغف ومحبة على غرار كارسون ماكالرز. ففي النهاية يمتلئ عالم أوكونور بالأنبياء المزيفين والدعاة النصابين والأمهات اللاتي تحمل بطونهن كل أولئك ويخطئن التصرف في حمايتهم منذ الطفولة فينشأون صبياناً وبناتاً منقطعين عن العالم والحياة الحقيقية، مشعوذين فاتنين ومجانين معظمهم هرب لتوه من المأوى أو من الجندية أو من العائلة. والحقيقة أننا في هذا السرد سنبدو وكأننا نتحدث عن معلم فلانري الكبير ويليام فوكنر. ومع ذلك لا بأس من أن نشير هنا إلى أن الفارق الكبير بين أوكونور وذلك الأستاذ الاستثنائي إنما يكمن في ذلك التقشف المقصود على أية حال في أدواتها التعبيرية، إذ نراها في اقتصاد مدهش تصيغ أكثر العوالم تعقيداً وأكثر المشاعر تركيبية مستخدمة أقل عدد ممكن من الصفحات بل أحياناً حتى من السطور!

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حتى الرمق الأخير

وبكلمات أخرى، عرفت فلانري أوكونور كيف تمتلك أسلوباً مبتعداً بدا للبعض وكأنه أسلوب رؤيوي ينظر إلى الحياة عبر منظار مستخدم هنا بصورة معكوسة فعرفت كيف تسبر أغوار ما تستشعره في جوانيتها من استلاب هو ذاته ذلك الاستلاب الذي يقود إلى الجريمة والانتحار واليأس البارد المطلق. ولنلاحظ كيف أن في أدب أوكونور وبالتناقض التام مع ما في أدب كارسون ماكالرز ثمة غياب شبه تام للنيات الحسنة. فإن وجدت في الثنايا ستكون في نهاية الأمر منفصلة كلياً عن النتائج التي تتمخض عنها. ومع ذلك كله لا بد لنا من أن نلاحظ أن سوداوية أوكونور والحال المرضية للعدد الأكبر من "أبطالها" لا تمنع أدبها من أن يتسم بصورة عامة وبإفراط أحياناً بشتى ضروب الهزل. لكنه هزل يمكن في نهاية المطاف تشبيهه بهزل صمويل بيكيت الأسود والذي يمكن وصفه بالتعبير العربي "شر البلية ما يضحك". ومن هنا حديث نقادها المتواصل عن "ذلك الصوت الساخر الخاص بها". وكأن في سخريتها تعبير هازل عن الخطيئة الأصلية تلك التي لا ينتظر صاحبها من بعدها إلا السقوط. ولكن هذا السقوط الذي لا يبدو أنه كان يخيفها خصوصاً هي التي ما عاشت سنين عمرها القصير إلا مترقبة ذلك السقوط الذي كان النهاية الحتمية لمرضها وقعودها حتى لحظاتها الأخيرة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة