Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

الحب المستحيل في فلسطين كما يرويه دبلوماسي مصري

محمد مصطفى عرفي يكشف مفهوم العلاقات المعقدة في "وردة في حقل الصبار"

لوحة للرسام محمد شبيني (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

في رواية يسلك الكاتب المصري محمد مصطفى عرفي سبيل التخييل ليكشف، عبر قصة حب متخيلة بين طبيب فلسطيني وفتاة إسرائيلية من أصل تركي، عن واقع مرير يعيشه الفلسطينيون منذ نكبة 1948 يعانون فيه أشكالاً من القمع والتمييز العنصري.

اعتمد الكاتب محمد مصطفى، وهو ديبلوماسي مصري، شغل سابقاً منصب القائم بأعمال السفارة المصرية في إسرائيل، في روايته "وردة في حقل الصبار" (دار كنوز – القاهرة) تقنية الأصوات المتعددة، فنسج رواية بوليفونية تتسق مع التباينات والتناقضات الشاسعة بين رؤى أو أيديولوجيات شخوصها وتسمح لهم بحرية التعبير عنها. ووزع صوت السرد على "دانيال" الفتاة اليهودية اليسارية التي درست العلوم السياسية في الولايات المتحدة فتشكلت لديها شخصية منفتحة تصادق الفلسطينيين تنبذ العنف وتتظاهر ضد سياسات وممارسات حكومتها اليمينية المتطرفة. والصوت الثاني "مروان" طبيب فلسطيني يكابد حياة موسومة بالخوف والخطر في وطن ممزق وإن أتاحت له بحبوحة العيش قدراً من الكرامة لا يتأتى لغالب أقرانه من الفلسطينيين. وإضافة إلى "مروان" و"دانيال"، منح الكاتب والد الأول ويدعى "مصطفى بكري" صوت السرد، في مساحات من النسيج، ووثق عبره تاريخ الصراع، لا سيما أنه قدر لهذه الشخصية، مشاركة الزعيم ياسر عرفات الكفاح، لأجل القضية الفلسطينية.

فضاءات ممتدة

وبينما استحوذت الشخوص الثلاثة على صوت السرد تسلل الراوي العليم في غير موضع، ليضفي الكاتب عبره بعداً موضوعياً على السرد، إلى جانب الصدقية، التي حققها ضمير المتكلم بلسان الشخوص.

امتد الفضاء الزمني للأحداث منذ نهاية ثمانينيات القرن الماضي، حتى العقد الثاني من الألفية الثالثة. وعمد الكاتب لحذف الفترة ما بين عامي 1989 و2014، بهدف تسريع السرد. وانتهج نسقاً أفقياً تدفقت عبره الأحداث إلى الأمام، وتخللته ومضات من "الفلاش باك". وكما كان التنوع سمة للخطاب اللغوي، أتاحها تعدد الرواة، وتنوع خلفياتهم، كان أيضاً سمة للفضاءات المكانية، التي شملت مدناً عدة مثل إسطنبول ورام الله والقدس وطولكرم والخليل والبيرة وتل أبيب. واستدعى امتداد الفضاء المكاني للسرد، استخدام تقنية الوصف، التي رسم الكاتب من خلالها، صوراً للمدن، التي دارت بها الأحداث، وجسد معالمها، ومقدساتها، "وصلت إلى باب العمود على مشارف الأسوار الحجرية العالية المحيطة بالبلدة القديمة في القدس الشرقية. عرجت لأعلى ثم هبطت بعض الدرج لأدخل الحرم القدسي من باب القطانين. أبواب المسجد المتعددة كلها لا تروق لمروان إلا هذا الباب، لأن السوق المتاخمة له تمتلئ بباعة الحلوى" (ص25). كما عمد إلى نقل الموروث الثقافي لتلك المدن، فأبرز تكية إبراهيم في مدينة الخليل، التي تقدم وجبات مجانية للفقراء، ولزائري المدينة، كوقف خيري، يتكفل بنفقاته - منذ القدم - أثرياء المدينة وتجارها. ورصد مهنة زراعة وعصر الزيتون كجزء من التراث الفلسطيني. ودفع باللهجة المحلية بهدف إنعاش النسيج وزيادة واقعيته، "يا أزعر لولا أنك ابن بكري لأدفنك هون في المصرف" (ص134).

مرر الكاتب حمولات معرفية كثيفة، أضاء عبرها تاريخ الصراع الفلسطيني، ودحض أكذوبة تاريخية، روجت قديماً لكون فلسطين أرضاً بلا شعب. وتطرق إلى مجازر عصابات الهاجاناه، ومذابح الاحتلال في كفر قاسم، ودير ياسين، وفي المقابل أبرز ذوبان الفئات اليهودية داخل المجتمعات الإسلامية، التي عاشت بها، لا سيما الدولة العثمانية. وحاول عبر خطابه المعرفي، رصد تحولات المجتمع التركي من العلمانية إلى التدين، على نحو أدى إلى تصاعد مخاوف اليهود الأتراك، ونزوحهم إلى إسرائيل. كذلك أضاء التركيب الديموغرافي للمجتمع الإسرائيلي، وأبرز خصائصه الاجتماعية، والسياسية، وانقساماته التي تشي بما يضرب في أركانه من عنصرية وتمييز. ومرر معارف حول يهود الحريديم، وحول عرب 48، وحركة "بتسليم" اليسارية، التي تناهض سياسات الحكومة الإسرائيلية اليمينية ضد الفلسطينيين. كما دفع بحمولات معرفية عن أهم المقدسات الفلسطينية، مثل حائط البراق، كنيسة القيامة، طريق الآلام، الحرم الإبراهيمي، وأيضاً عن رموز القضية الفلسطينية مثل ياسر عرفات. وعن شخصيات إسرائيلية، مثل اسحاق رابين، إضافة إلى شخصيات رمزية مثل شخصية "جاكي الملاك"، الذي اتخذه "أبو دانيال" اسماً لماركة الأزياء الرجالية لمصنعه. وأراد الكاتب عبر رمزية هذه الشخصية، التي أشيع أنها شخصية أسطورية، أنبتها الخيال الإسرائيلي لرجل كان يقتل كل يوم أعداداً من العرب، أن يحيل إلى إرث طويل وممتد من العنف والدموية والكراهية. ساق عرفي أيضاً معارف ذات صبغة سيكولوجية، فأضاء عقدة "الماسادا" عند اليهود، وشعورهم الدائم بالخوف، سواء من الفقر، أو من المستقبل، أو المجهول. 

ألوان من المعاناة

كانت كل تلك المعارف، دعامة عززت اشتباك الكاتب مع قضايا تؤرق الواقع الفلسطيني، من بينها نظرة المحتل للفلسطينيين، التي تصورهم كقطيع من الحيوانات، وما أسفرت عنه من عنف ودموية، إضافة إلى الفصل العنصري، عبر تخصيص شوارع لا يسمح للفلسطينيين بالعبور منها، وكذا معاناتهم المريرة في نقاط التفتيش. كما تطرق إلى المشاهد المتكررة من اقتحام المسجد الأقصى، واستفزاز المشاعر الدينية للمسلمين، فضلاً عن التوسعات الاستيطانية وضم المزيد من الأراضي الفلسطينية، والتهجير القسري، وربط الاقتصاد الفلسطيني بالإسرائيلي، وممارسة سياسة العقاب الجماعي إزاء المدنيين العزل، ودموية المستوطنين، والفيتو الأميركي الذي يضمن استمرار هذه السياسات، وما ترتب على ذلك كله، من فشل محاولات التعايش والاندماج، بل وتصاعد حوادث الطعن والعنف المضاد، من قبل الفلسطينيين تجاه الإسرائيليين. ويمرر الكاتب - عبر رصده لذلك الواقع المأزوم - فلسفة مفادها، أن العنف يغذيه عنف، وأن الكراهية لن تثمر إلا مناخاً من الخوف، والشك، والعداء، "حرموا في سنوات مبكرة من آبائهم وأمهاتهم. فما هي النتيجة المتوقعة؟ هل سيشبون عن الطوق مشبعين بأفكار السلام، والعيش المشترك الحتمي بين اليهود والعرب، أم أنهم سيسقطون صرعى لأولى محاولات تجنيدهم لغايات الإرهاب. إنها ألف باء علم السياسة، العنف لا يولد سوى العنف" (ص218).

اقرأ المزيد

استعان عرفي كذلك بالميثولوجيا اليونانية القديمة، فاستدعى أسطورة طائر الفينيق، وأسطورة سيزيف، ووظفهما في خدمة تلك الرؤى، التي تنذر بخطورة انتهاج الحكومة الإسرائيلية للعنف، على كلا المجتمعين الفلسطيني والإسرائيلي. وبينما أبرز التماثل بين الفلسطينيين والسود في جنوب أفريقيا، فيما يتعرضون له من تمييز، وفصل عنصري، أبرز التقابل بين اليهودي الذي يعتنق ديناً سماوياً، يبث قيم الإنسانية والسلام، وبين المحتل الذي يجهض حق المدنيين العزل في وطن آمن، ومستقبل، وحياة. ولم يكن النقد من نصيب الجانب الإسرائيلي وحده، وإنما طاولت سهامه الجانب الفلسطيني أيضاً، إذ تطرق إلى فساد المسؤولين، الذين يتاجرون بالقضية من أجل مصالحهم الشخصية، والفرص التاريخية الضائعة، والانقسامات داخل السلطة، وما أسفرت عنه من تقسيم المجتمع الفلسطيني.  

وطأة الصراع

كانت الصراعات والانقسامات الداخلية سمة بارزة، تشاركها كل الشخوص، فانقسم "أبراهام" - أبو دانيال - بين انتمائه لمجتمعه التركي، ورغبته في الهجرة إلى إسرائيل. كذلك انقسمت "دانيال" بين قلب ينبض بحب "مروان"، وعقل ينهاها عن التورط في قصة لا سبيل لاكتمالها، بين مجتمعين متصارعين. وانقسمت أيضاً بين إدانتها للفلسطينيين، الذين قاموا باختطافها، وهي مدنية لا تنفك تدافع عن حقوقهم، وبين تعاطفها معهم، بعد اكتشافها حداثة أعمارهم، وكونهم مجرد صبية عانوا فقد ذويهم بالقتل، والاعتقال في السجون الإسرائيلية. وانقسمت بين انتمائها لإسرائيل، وبين رفضها لما تمارسه حكومتها من قهر وإذلال للفلسطينيين. أما "مروان"، فنال هو الآخر نصيباً من صراعات أرقت دواخله، نتيجة انقسامه بين رغبة في الرحيل عن وطن ممزق، لا يمنحه سوى الخوف والتوجس، وبين رغبة أخرى في البقاء كي لا تندثر فلسطين، بين إقبال على "دانيال" وأعراض عنها، بين افتتانه بها وإدراكه استحالة حبهما. وكان الحلم أداة استخدمها الكاتب، لاستجلاء وطأة هذه الصراعات الداخلية، التي كانت ثمرة صراع خارجي أكبر بين الاحتلال والفلسطينيين، أجاد نقله من فضاءات الواقع إلى فضاءات النص.

الفرص الضائعة

مثلما كان تعدد الرواة وسيلة لجأ لها الكاتب، لطرح أيديولوجيات الجانبين المتصارعين، كان الحوار وسيلة أخرى، انتهجها للغرض ذاته، فبدا عبره تباين الرؤى التي يعتنقها الطرفان، لا سيما في حوار "دانيال" مع من قاموا باختطافها، "غاية الجهاد هي الدفاع عن قضيتنا. شعبنا المغصوب على حياة مذلة وأرضنا التي تحتلونها! - أعلم كذلك كثيراً عن قضيتكم. لا أخفي تعاطفاً أو تفهماً لبعض مناحيها، لكنكم ترتكبون أخطاء وحماقات تفقدكم تعاطف المجتمع الدولي. تاريخ قضيتكم للأسف هو تاريخ متوال من الأخطاء والفرص الضائعة" (ص165).

وعبر هذا المزيج من الرؤى المتباينة، والقضايا الشائكة، والأحداث التي تشي بإعادة إنتاج التاريخ، استشرف الكاتب الذي سبق له العمل قائماً بأعمال سفير مصر لدى إسرائيل، في روايته العواقب الوخيمة، لمنهج الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة في قهر وإذلال الفلسطينيين.

المزيد من ثقافة