ملخص
السيرة الذاتية الجديدة لحياة سيلفيا بلاث تقدم صورة مظلمة لعالمها ومعاناتها آلاماً عميقة وعنفاً أسرياً على يد زوجها تيد هيوز الذي يُصور كرمز للظلام في مجتمع أبوي قاس، إذ يربط الكتاب بين معاناة بلاث والتجربة الشخصية للمؤلفة مما يجعل تحليلها متأثراً بتجاربها الذاتية
في تحذير مؤلم أطلقه بوريس باسترناك، مؤلف "دكتور جيفاغو" Dr Zhivago، يتحدث عما يحدث عندما يقوم أحدهم بإنهاء حياته بشكل مأسوي قائلاً، "ليس لدينا أي مفهوم للتعذيب الداخلي الذي يسبق الانتحار".
وفي هذا الكتاب الأخير عن سيلفيا بلاث نجد قصة أصلية ومليئة بالمواقف ترجع جذورها لواحدة من أشهر حالات الانتحار في التاريخ. تتجلى في هذه الرواية رؤية جديدة ومعقدة لأحد أكثر ألغاز الحب المأسوية التي تستمر في تعذيب الكتّاب والقراء على حد سواء، من سماء الساحل الشرقي الثورية المشرقة في أميركا إلى الأزقة المخفية في منطقتي هامستيد هيث أو بريمروز هيل في لندن.
ما بدأ بانهيار مرير للزواج تحول مع مرور الزمن إلى واحدة من أكثر الأساطير الوحشية والقصص المضادة التي تطارد كل جيل جديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إنها حكاية ولدت في كامدن تاون، ذلك الجزء الأخضر والكئيب من لندن الذي يعرفه تشارلز ديكنز جيداً، ففي خريف عام 1962 انتقلت شاعرة وروائية أميركية مغتربة، وأم لطفلين، بعد انفصالها عن شريكها، الشاعر الإنجليزي الشهير، للعيش في الطابق الثاني من منزل كان يسكنه سابقاً الشاعر وليام باتلر ييتس.
في ذلك المكان الذي بدا وكأنه قد كُتب له أن يكون محطة حاسمة في حياتها، بدأت سيلفيا بلاث، وهي في الـ 30 من عمرها، الكتابة بطريقة لم تعرفها من قبل، كأنها كانت في حال من الحمى التي تصاحب الصحوة الذاتية. أصبح من الواضح لنا الآن أن كلاً منها، هي وزوجها المنفصل عنها تيد هيوز، كانا على عتبة العظمة، وكان هو قد وجد صوته الأدبي ونال الإشادة بفضله في "الصقر تحت المطر" The Hawk in the Rain، أما هي التي سكنت غرفاً في شارع فيتزروي "فكانت تعيش حياتها مثل إسبارطية" متقشفة لتكمل قصائد "آرييل" Ariel التي ستجعلها مشهورة، وكانت تستيقظ في الفجر البارد والكئيب معتقدة أن عليها الكتابة "لتحرر نفسها من الماضي".
لكن مع تقدم السن وجدت نفسها محاصرة في أسوأ شتاء إنجليزي منذ 150 عاماً، وأتذكر من طفولتي كيف كان الطقس قاسياً، الثلوج الكثيفة التي سقطت في اليوم التالي لعيد الميلاد جعلت التنقل مستحيلاً، وبحلول العام الجديد كانت البلاد مشلولة تماماً. تجمدت أنابيب المياه وانقطعت الكهرباء مرات عدة. نقصت كل الموارد واستمرت موجة البرد بلا رحمة تدفع الجميع إلى حدود التحمل.
وكما كتب صديقها الناقد آل ألفاريز "كانت أجور السباكين تساوي وزنهم من سمك السلمون المدخن [أي عالية للغاية] انقطعت الكهرباء والشموع بالطبع لم تكن متوافرة لشرائها. في النهاية، توقفت القلوب عن النبض".
لنتمكن من فهم تفاصيل انهيار هذه الشاعرة الشابة تقدم لنا رسائل زوجها السابق لمحة عن الأحداث المروعة التي وقعت في الـ 11 من فبراير (شباط) عام 1963، اليوم الذي أنهت فيه سيلفيا بلاث حياتها باستنشاق الغاز "عند الساعة السادسة صباحاً".
صعدت بلاث إلى الطابق العلوي حيث كان طفلاها الصغيران نائمين (كانا يبلغان من العمر سنتين وسنة واحدة)، ووضعت طبقاً فيه خبز وزبدة وكوبين من الحليب في حال استيقظا جائعين قبل وصول المربية. (هناك اقتراح غير موثق بأن بلاث كانت تتوقع أن يتم اكتشافها قبل فوات الأوان).
بعد ذلك، وفقاً لأكثر الروايات موثوقية، عادت للمطبخ وأحكمت إغلاق الباب والنوافذ بالمناشف، وفتحت الفرن، وأدخلت رأسها فيه، ثم فتحت الغاز. بعد شهر من ذلك، كتب هيوز إلى والدتها: "لا أريد أن يُغفر لي أبداً، إذا كان هناك خلود فأنا مقيم في لعنته".
وعلى رغم هذه النبوءة القاتمة لم يكن بمقدور هيوز أن يتوقع أبداً كيف أن لحظة تدمير بلاث الوحشية لنفسها قد تحولها إلى إلهة مستقبل محكوم عليه بالفناء، ليترجم بسرعة إلى إرث مشترك ومعذب وأسطورة لا تُمحى.
كان زواج هيوز الفاشل لعنة من نوع خاص وتحول طلاق ملطخ بالانتحار إلى لعنة دائمة. في عام 1962 بدأ عالم الشعر على ضفتي الأطلسي المتخم بالغرور والعظمة والسخرية والطموح والفخر، وبقيادة من ألفاريز يغلي بالحديث عن مأساة قلما استطاع أحد أن يبقى غير مبال بها ولم يتعامل معها أي أحد بحياد أبداً.
تماماً كما ذكر باسترناك، يذكرنا هيغل بأن الفهم الحقيقي لأسرار الحياة يأتي في نهاية المطاف. بومة مينيرفا التي ترمز إلى إلهة الحكمة والمعرفة عند اليونان لا ترفرف بأجنحتها إلا عند الغروب، وحتى المآسي الشخصية تُروى متأخرة وبسرد معكوس.
خلال عقدين من وفاة سيلفيا تفتق أدب بلاث -هيوز بشكل مذهل مثل زهرة أوركيد مدهشة: بدأت تظهر رسائل ومذكرات، نقد أدبي، وكتاب "الإله المتوحش" Savage God لألفاريز (1971)، فضلاً عن خمس دراسات سيرة ذاتية في الأقل تقدم كل منها نظرية مختلفة ("المرأة الصامتة" The Silent Woman، "الشهرة المُرّة" Bitter Fame، "شبح سيلفيا بلاث" The Haunting of Sylvia Plath، "المنهج والجنون" Method and Madness، "السحر الوعر" Rough Magic، "موت وحياة سيلفيا بلاث" The Death and Life of Sylvia Plath). وكان معظم هذه الأعمال يُرى من خلال العدسة الساخنة لحركة تحرير المرأة.
بحلول التسعينيات كانت هذه الإنتاجات الأدبية قد شكلت بصورة إيجابية وسلبية على حد سواء، أول "حياة ما بعد الموت" لبلاث التي أصبحت (كما وصفتها الصحفية والكاتبة الأميركية جانيت مالكولم) "المرأة الصامتة"، الخاضعة لهيوز الوصي على ممتلكاتها.
انتهت تلك الدورة المأسوية في أكتوبر (تشرين الأول) 1998 بوفاة تيد هيوز المفاجئة عن عمر 68 سنة، وبصدور كتابه الصادم "رسائل عيد المولد" Birthday Letters، بعد فترة وجيزة والذي كان بمثابة كلمته شبه الأخيرة بعد الوفاة، وأذكر أن هيوز كان يعتبر تجنبه الحديث عن سيلفيا مسألة شرف، لكنه في النهاية عاود النظر في زواجه المؤلم لتحقيق نوع من الفداء المتأخر.
بالنسبة إلى بعضهم يظل هيوز مسألة شائكة وصعبة الفهم، ولكن الرجل الذي أتذكره كأحد شعراء دار فيبر كان طيباً ومتحفظاً وكريماً وذا كرامة عالية. عند قبره، قال الشاعر الإيرلندي المرموق شيموس هيني "لم يشعرني موت أي شخص من خارج عائلتي المباشرة بالحزن كما فعل موت هيوز. خلال حياتي، لم يؤلم أي موت الشعراء أكثر من موته. لقد كان برجاً من الرقة والقوة، قوساً عظيماً يستطيع أضعف الشعراء المبتدئين المرور تحته والشعور بالأمان. كانت قواه الإبداعية، كما قال شكسبير، ما زالت في نمو، وبوفاته تمزق حجاب الشعر وانهارت جدران المعرفة".
ليست بومة مينيرفا مجرد رمز للحكمة بل هي أيضاً طائر يتنبأ بالمصير، وقد تعرض كثير من هذا الاحترام الذي رافق تأبين سيلفيا الأول للتجاهل فيما يمكن أن نطلق عليه "الوجود الثاني" لبلاث والذي وقع بين عامي 2001 و2017 تقريباً، فمنذ بداية الألفية وحتى بروز حركة "مي تو" أصبح الحضور الذي لا ينسى لبلاث وسمعتها محملين بقصة حياة أسطورية تزخم بكثير من الشائعات والأحداث المثيرة، لتغوص في اللاوعي الجمعي.
ألهم مصير بلاث وإنجازاتها وعظمتها خلق أيقونة أدبية، القديسة الحامية للشعر الاعترافي التي أُخفِيت عبقريتها الحقيقية تحت وطأة إرث معاناتها كـ "امرأة مضطهدة"، واليوم يعيد جيل جديد من قراء بلاث اكتشاف قصتها محاولين تصحيح ما يعتبرونه "إسكات صوت سيلفيا بلاث"، جريمة ضد عبقريتها التي تثير مزيجاً غريباً من الصخب والغضب.
كتاب "حب سيلفيا بلاث" Loving Sylvia Plath، الذي يحمل عنواناً فرعياً هو "استعادة"، لكاتبته إميلي فان دوين، هو دراسة حال من هذا النوع، مجلد جريء وفريد يأخذ القارئ التقليدي لقصائد "آرييل" إلى عالم من العذاب والنشوة، وسيرة ذاتية مؤلمة وعنف أسري مكبوت.
عندما بدأت عملية تحليل مأساة بلاث وهيوز كان من المألوف بين النقاد، مثل ألفاريز، فصل الحياة عن الفن بصرامة، لكن في حال فان دوين نجد أن حماستها الجدلية في تناول حياة بلاث قد تجاوزت هذا الفصل التقليدي، إذ استخدمت حياة بلاث ليس فقط في مناقشة نقدية أدبية متنازع عليها بل أيضاً لتخفيف ألمها الشخصي الذي طغى عليه الأدب، وفي هذا السياق أصبحت الحياة والفن مزيجاً غير قابل للفصل بطريقة قد تدهش أولئك الحراس المنسيين لحياة بلاث الأولى بعد وفاتها.
اتضح أن حب سيلفيا بلاث يعني التوحد العميق مع صراعها: تستعين فان دوين بثقة بسيرتها الذاتية لتسليط الضوء على مصير بلاث المأسوي، وهنا تتحول علاقتها مع هيوز التي كانت زواجاً صعباً (بلا شك) إلى دراسة حال "للعنف بين شريكين حميمين".
إذا بدا لبعضهم أن الأسس التي تُبنى عليها هذه التفسيرات النقدية الجديدة قد تكون غير متينة، فمن المحال أن يطاول الشك حماسة فان دوين، ففي بدايات كتابها في الصفحة الـ 13 تحديداً، تصرح بأن فهمها لمعاناة سيلفيا بلاث "ولد من تجربتي الشخصية كناجية من العنف الأسري مع رجل أصبح الآن الأب الغائب منذ وقت طويل لابني الأكبر".
هذا الشريك السابق الغامض الذي لا نعرف عنه سوى ميوله إلى العنف الأسري يظل يسيطر على صفحات الكتاب كدليل رئيس على صحة حق فان دوين في تقديم تحليلاتها عن هيوز كمعتد جنسي.
في نسخة القرن الـ 21 التي تقدمها فان دوين عن حياة بلاث، يظهر هيوز كأمير الظلام في مجتمع أبوي غير رحيم، وللأسف فإن عدداً من رؤاها الثاقبة حول الدراما النفسية لزواج هيوز وبلاث تتعرض للتشويه بسبب ذلك النوع من الهوس الأكاديمي الذي يسأل "ما هي القصص التي حذفت من الأرشيف؟" والأسوأ من ذلك بدلاً من مقتطفات السيرة الذاتية، فإن دوين تقدم تجربتها الشخصية (تقول "بين عامي 2010 و2012، عشت مع مدمن مخدرات عنيف...) أو كما تقول بدأت "استخدام جسدي للمساعدة في رواية قصة [بلاث]".
عندما نقرأ في النهاية أن فان دوين ترى في تجربتها مع العنف الأسري نوعاً من التواصل النادر مع سيلفيا بلاث، على اعتبار أن الشاعرة "أخذتني على محمل الجد"، يصبح من الصعب عدم الاستنتاج بأن هذا المسعى المليء بالنيات الطيبة ولكن المُغرق في الذاتية، لفهم أسطورة مظلمة بشكل لا يُصدق، قد تعرض مثله مثل كل ما يتعلق بحياة بلاث بعد وفاتها للعنة انتحارها المأسوي.
من المؤكد أن قراءات أدبية وسيراً ذاتية أخرى لحياة سيلفيا بلاث عبر عدسة وفاتها ستظهر خلال السنوات المقبلة، قبيل حلول ذكراها المئوية عام 2032، ولا أشك في أن هذه القراءات ستقدم تفسيرات مختلفة وربما أغرب من هذا العمل الأخير.
لم تجد روح سيلفيا بلاث السكينة بعد.
صدر كتاب "حب سيلفيا بلاث: استعادة" لـ إميلي فان دوين في 23 أغسطس (آب) الماضي عن دار دبليو دبليو نورتون آند كو.
إذا كنت تشعر بالضيق أو تواجه صعوبة في مواجهة مشاعرك يمكنك التحدث إلى مؤسسة "ساماريتانز" بسرية تامة للحصول على الدعم، على الرقم 116123 (من المملكة المتحدة وجمهورية إيرلندا)، أو مراسلتهم عبر البريد الإلكتروني [email protected]، أو زيارة موقع الجمعية على الإنترنت للعثور على تفاصيل أقرب فرع إليك
© The Independent