Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العاصفة قبل الهدوء... عن مزالق الانتخابات الأميركية ومكابحها

دورتان تحكمان المسار التاريخي للولايات المتحدة الأولى مؤسسية تحدث كل 80 عاما والثانية اجتماعية اقتصادية تنتج تغييرا كل 50 سنة

"هل انتهى الحلم الأميركي؟" (أ ف ب/ غيتي)

ملخص

تبدو المعركة الدائرة في الداخل الأميركي اليوم معركة أيديولوجية بصورة قاطعة بين اليمين واليسار، بين الجمهوريين والديمقراطيين، وفي خلفية الصورة هناك صراع آخر مُتخفٍّ وقوده العرق والدين، اللون والجنس، الطبقية المجتمعية والمحاصصة الطائفية، وكلها حرائق مشتعلة.

على بعد نحو ثمانية أسابيع من الانتخابات الرئاسية الأميركية في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل يتساءل الأميركيون ومن ورائهم العالم برمته: هل ستكون هذه هي نهاية أميركا التي نعرفها، من حيث تراتبيتها حول العالم، كأكبر قوة تقود الشؤون الدولية بقدراتها العسكرية والسياسية والاقتصادية والأمنية؟. أم أن الانتخابات هذه المرة كسابقاتها، تدفع الأمور نحو مزالق تبدو خطيرة، ثم ما تلبث عن استخدام المكابح الكامنة داخل "المؤسسة" لكي تعيد الأمور إلى نصابها؟

الشاهد أن هناك تراكماً من الدراسات والأوراق التي تتحدث عما ينتظر أميركا والأميركيين خلف الباب، وجلها إن لم تكن كلها، تكاد تقطع بأن العاصفة ستدفع بأميركا إلى دائرة عدم اليقين، لا سيما بعد عقد أو عقدين، تعتمل فيهما الصراعات الأهلية، ويعلو صوت الكونفيدرالية بدل الفيدرالية من جديد، بعد قرابة 150 عاماً من مجابهتها في زمن أبراهام لنكولن.

هذه الرؤية في واقع الأمر ليست رؤية خارجية لبعض من يرون نهاية أميركا على الأبواب، وبعضهم قد تكون له أهداف أيديولوجية وراء بناء توقعاته هذه، بل إنها كذلك رؤية داخلية لمراكز أبحاث ومؤسسات عميقة، ليس أقلها مجمع الاستخبارات ووزارة الدفاع "البنتاغون"، وجميعهم يتهيأون للهلع المقبل.

لكن، وعلى رغم هذا كله، لا تعدم أميركا أصواتاً لها وزنها الاستراتيجي، سياسياً واستخبارياً، أصواتاً ترى أن الولايات المتحدة لن تنزوي أو تموت قريباً، وأن ما تشهده في الوقت الحالي، هو دورة من دورات التاريخ، إذ العاصفة تشتد في الداخل، لكن سيعقبها الهدوء.

من يقف وراء هذه الرؤية؟ وما صحة قراءاته وتوقعاته؟ وهل تتسق بالفعل مع صيرورة الأحداث المتسارعة في الداخل الأميركي اليوم؟

 

فريدمان الرائي السياسي الأميركي

من بين أشهر الأميركيين الذين امتلكوا أعين اليمامة، وليست عيناً واحدة، يأتي الحديث عن البروفيسور جورج فريدمان، المتنبئ والرائي السياسي الأميركي الأهم في وقتنا الحاضر، الرجل الذي استشرف حال ومآل العالم في أكثر من عمل فكري كبير ومثير، مثل كتابه "المئة عام المقبلة".

فريدمان يعرف بأنه رجل استخبارات الظل، والتي تتجلى في مؤسسته البحثية الشهيرة بدورها "ستراتفور للأبحاث الجيوسياسية"، ومؤسس مجموعة "جيوبولتيكال فيوتشر"، ويلعب دوراً مهماً ومتقدماً كمستشار في السر والجهر لعديد من الشركات الأميركية الكبرى، ناهيك بصلاته التي لا تنقطع بمؤسسات الدولة الأميركية العميقة.

وقبل نحو أربع سنوات قدم فريدمان للمتسائلين في الداخل الأميركي والعالم رؤيته عن حاضرات الأيام وما يليها، وقد ضمن رؤيته كتاباً حمل عنوان: "العاصفة التي تسبق الهدوء: الخلاف في أميركا".

ما الجديد والفريد في هذا العمل، لا سيما أنه خرج على العالم، بالتحديد في فبراير (شباط) 2020، فيما كانت الخلافات تضرب أميركا، قبل أشهر من معركة انتخابات الرئاسة بين دونالد ترمب وجو بايدن؟

ويرى فريدمان أن "القوى غير الشخصية"، ستدفع الأحداث في عشرينيات القرن الـ21، وهي واحدة من أكثر الفترات صعوبة في التاريخ الأميركي، ولكن الرخاء سيتبع ذلك.

وفريدمان لديه وجهة نظر دورية للتاريخ الأميركي، والتي تزعم أن الدورات المتوقعة من "الأزمات والنظام وإعادة الاختراع"، شكلت النتائج منذ ولادة الأمة.

ويكتب فريدمان بصورة واقعية يقول: "نحن ببساطة ركاب على أفعوانية أميركية". وتتحكم دورتان رئيستان في "الجهات الفاعلة والأحداث": دورة مؤسسية تحدث كل 80 عاماً، تميزت في الماضي بالحرب الثورية والحرب الأهلية والحرب العالمية الثانية، وتوجه العلاقة بين الحكومة الفيدرالية وأجزاء أخرى من الأمة.

أما الدورة الثانية فهي دورة اجتماعية اقتصادية تغير ديناميكية الاقتصاد والمجتمع الأميركي على فترات مدتها 50 عاماً، وأنتجت الطبقة الصناعية والجيل المولود بعد الحرب العالمية الثانية والطبقة المتوسطة.

 

فما الذي يتوقعه فريدمان بصورة إجمالية وقبل الغوص في عمق تحليلات عمله هذا ومشاغبة نظرته لفكرة الهدوء بعد العاصفة؟

يبدو أن فريدمان يتوقع أن تتقارب هذه القوى المعقدة في عشرينيات القرن الـ20، أي في حاضرات أيامنا، لـ"زعزعة استقرار الحياة الأميركية وبدء فترة من الفشل تتسم باللامبالاة تجاه السياسة، وانخفاض النمو في الإنتاجية، وزيادة البطالة، وسوف تكون ثلاثينيات القرن الـ21 فترة خلق غامضة الوصف من شأنها أن تعيد تعريف المشهد الاجتماعي، وتخفف من مشكلة الحكومة الاتحادية غير الفعالة من خلال إدخال مبادئ الحكم العسكري، أي إن المرؤوسين لا يحيدون عن نية القائد".

فهل فريدمان متفائل في تحليله عبر هذا العمل؟

أميركا والدورات... تفاؤل أم تشاؤم؟

في كتابه المثير والشيق يقدم لنا فريدمان تحليلاً مفصلاً، بل ومدعاة للتفكير العميق عن أميركا الواقع والمستقبل، وكيفية تجسير الفجوة الزمنية بينهما. إنه يغطي قضايا مثل حجم ونطاق الحكومة الفيدرالية، ومستقبل الزواج والعقد الاجتماعي في الهياكل المؤسسية، وكذلك الاتجاهات الثقافية الجديدة التي ستتفاعل مع متوسط العمر المتوقع الأطول، وقد وصف البعض هذا العمل بأنه استفزازي ومُسلٍّ في الوقت نفسه.

ولعله من الطبيعي أن يعترض كثر من القراء، وبينهم في عالم السياسة، على بعض ما جاء فيه، لا سيما التفكير المفرط في رؤيته للترتيب والفكرة القائلة إن القادة لا يلعبون دوراً رئيساً في تشكيل الأحداث. غير أنه دعماً لنظريته، يقدم فريدمان تحليلاً حاداً للحياة الأميركية، بخاصة جذور المهارة في إعادة الاختراع التي تسمح للأمة بالبدء من جديد بعد الأزمات.

ويكتب فريدمان أن الأميركيين اخترعوا بلدهم، وأنهم في غياب الثقافة والتاريخ المشتركين اخترعوا أنفسهم. ويناقش أيضاً تردد الأمة في قبولها مسؤولياتها باعتبارها "القوة العالمية الوحيدة"، والتوترات بين الطبقات العاملة التكنوقراطية والصناعية.

 

واعتبر كثر من الأميركيين ووسائل إعلامهم أن صفحات كتاب فريدمان هي رؤية ثاقبة لويلاتهم الحالية، لا سيما أن العمل يحوي رؤى حقيقية، وقد حاول البعض من أنصار اليسار الديمقراطي تفسير هذا العمل، بصورة تختصم من إرث دونالد ترمب.

وعلى سبيل المثال يقول البعض إن سموم عصر ترمب تخفي الأزمات في الاقتصاد الأميركي والمؤسسات الحاكمة، تلك الأزمات التي ستتعمق قبل أن تحل نفسها، ووفقاً لهذا التحليل، فإن السخط سيحل بالولايات المتحدة في نهاية الأمر.

وعلى رغم أن كتاب فريدمان المكتوب جيداً يقدم حالات مقنعة لكيفية تكرار الدورات المؤسسية والاجتماعية والاقتصادية منذ تأسيس الولايات المتحدة الأميركية، وكيف سيتقارب النمطان، للمرة الأولى، خلال هذا العقد، فإن هناك شكوكاً عميقة في قدرته على التنبؤ بأوضاع العنف السياسي التي تعم البلاد، وهل ستتمكن القيادات الحالية، سياسية كانت أم اقتصادية، ثقافية أو اجتماعية، على تجاوزها وعبور نهر "الروبيكون" (أي نقطة اللا عودة)، ومن ثم النجاة من الخطر الداهم المتشوق للتسيد على البلاد والعباد، خلال الأيام الـ60 المتبقية ليوم القارعة، أم أنها جميعاً ستخفق في ملاقاة الهول الأعظم الذي سيبطل قاعدة الدورات الزمنية للإمبراطورية الأميركية؟

مواجهة طغيان العنف السياسي

ويكاد يكون مصطلح العنف السياسي هو ذروة المخاوف التي تقود الولايات المتحدة إلى العاصفة التي يتناول شأنها فريدمان، والتي ينتظرها كثر، وكأنها قدر مقدور في زمن منظور.

فهل العنف السياسي الأميركي حقيقة واقعية أم مجرد تهويلات سياسية لا ينبغي القلق من شأنها بحال من الأحوال؟

الشاهد أنه على مدى السنوات العديدة الماضية، بلغت السياسة الأميركية ذروتها، فقد تعرض أعضاء في الكونغرس لإطلاق نار، وهاجم أحد المتطفلين زوج رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي في منزلهما بمطرقة، واقتحم حشد مبنى الكونغرس الأميركي في السادس من يناير (كانون الثاني) 2021، غير أنه بالوصول إلى محاولة اغتيال الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في الـ13 من يوليو (تموز) الماضي، والتي أسفرت عن مقتل شخص وإصابة اثنين آخرين، بدا الأمر وكأن قدر زيت قد إلى بصورة مخيفة.

هل أزمة العنف السياسي هي إشكالية أوقات انتخابية فحسب؟

لسنوات عديدة رصدت استطلاعات الرأي ارتفاعاً حاداً في نسبة الأميركيين الذين يعتقدون أن العنف وسيلة صالحة لتحقيق أهدافهم السياسية.

وفي استطلاع رأي أجرته صحيفة "واشنطن بوست" وجامعة "ميريلاند" في ديسمبر (كانون الأول) عام 2021، قال واحد من كل ثلاثة من المستجيبين إنهم يعتقدون أن العمل العنيف ضد الحكومة يمكن تبريره، مقارنة بأقل من واحد من كل 10 في التسعينيات.

وفي استطلاع آخر أجرته شبكة "بي بي إس"، في مارس (آذار) الماضي، قال 28 في المئة من الجمهوريين و12 في المئة من الديمقراطيين إنهم يعتقدون أن الأميركيين قد "يضطرون إلى اللجوء إلى العنف لإعادة البلاد إلى مسارها الصحيح".

أما في يونيو (حزيران) فقال 10 في المئة من المستجيبين الذين شملهم استطلاع رأي أجرته جامعة "شيكاغو" لمشروع الأمن والتهديدات إن "استخدام القوة مبرر لمنع دونالد ترمب من أن يصبح رئيساً".

 

وتزامنت هذه النتائج مع زيادة موثقة في التهديدات العنيفة والمضايقات والاعتداءات الجسدية التي تستهدف المسؤولين المنتخبين والمدنيين، من المشرعين البارزين والحكام إلى موظفي الانتخابات في المدن الصغيرة، وأعضاء مجالس المدارس.

وعطفاً على ذلك، فقد أدت موجة من الشتائم والترهيب إلى تفريغ المؤسسات المحلية من محتواها، وتعطيل أنظمة القانون والحكومة، وطرد الموظفين العموميين المخلصين من مناصبهم، وردع آخرين عن الترشح، بخاصة النساء والأشخاص الملونين.

فهل باتت العاصفة قريبة جداً من أميركا؟ وإذا كان ذلك كذلك، فكيف يمكن للهدوء بحسب فريدمان أن يعيد ترتيب الأوضاع وتعديل الطباع مرة جديدة؟

بالنسبة إلى عديد من الأميركيين أصبح احتمال انفجار أعمال العنف السياسي مخيمة فوق سماوات أميركا، والناظر إلى الشارع الأميركي، لن تدهشه توجهات عموم الأميركيين لجهة جلب مزيد من الأسلحة النارية وتخزينها في المنازل أول الأمر، ثم الخروج بها لاحقاً في التظاهرات عبر الطرقات.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولقد بات العنف المسلح قرين كل حدث سياسي مشحون سياسياً، من قرارات المحكمة العليا، إلى محاكمات ترمب، إلى جلسات الاستماع في الكونغرس، وهذا كله يثير تحذيرات، بل وتنبؤات عن مقدار العاصفة الأهلية التي ستضرب أميركا عما قريب جداً.

وتبدو محركات العنف السياسي، وكأنها تحرك الداخل الأميركي، بل تهزه بشدة، وأضحى التنافس السياسي، يجري برسم تحزب راديكالي عنيف، والأسوأ شيوع وذيوع الخلافات العرقية والدوغمائية، والأخيرة من المطلقات التي لا تقبل فلسفة قسمة الغرماء.

أين ومتى يمكن لهدوء فريدمان أن يصل إلى الشارع الأميركي، وربما الأهم هو كيف؟

هل انتهى الحلم الأميركي؟ ليس بعد

والسطور السابقة تقودنا إلى تساؤل مثير: هل انتهى الحلم الأميركي؟. المؤكد أن أميركا قد وصلت إلى نقطة تحول، فلم تعد حكوماتها الفيدرالية قادرة على العمل بكفاءة، ولم يعد جيشها قادراً على فك ارتباطه بحرب طويلة الأمد، وأصبحت آفاق الأعمال التجارية منخفضة، كما أصبح الإبداع الصناعي مقموعاً، وأصبح المواطنون منقسمين، وبلغ الخلاف السياسي ذروته.

وعلى رغم هذا كله، يرى فريدمان أن الحلم الأميركي لم ينته على الإطلاق ولم يصل إلى نهايته بعد.

وتبدو كأن هناك صلات ما ورائية بين جورج فريدمان، وبين سيد اليسار الديمقراطي، ومحرك اللعبة الديمقراطية باراك أوباما، لا سيما أنه يستشهد به عبر صفحات كتابه.

وعلى سبيل المثال يقتبس فريدمان من أوباما قوله "نعم، إن الأمة تدخل فترة كارثية غير عادية من عدم الاستقرار، لكنه يزعم أن التوتر ليس طبيعياً فحسب، بل إنه ضروري أيضاً". ويقول إن الولايات المتحدة باعتبارها دولة مخترعة كانت ترغب في الأصل بتحقيق التوازن بين الحريات الفردية والمصلحة الوطنية، تحتاج إلى سنوات قليلة لإعادة تعريف نفسها، ثم إعادة اختراعها، ومن خلال القيام بذلك فقط يمكن للأمة تلبية حاجاتها مع البقاء وفية لنيات مؤسسيها.

ويستخدم فريدمان ما يمكن أن نسميه "فحص تأسيس الأمة"، وكل دوراتها لإظهار كيف وصلت إلى هذا المكان، هو يرى أن الحكومة الآن غارقة في التكنوقراط (المتخصصين غير الأيديولوجيين، وغير السياسيين والمكرسين لمجالات خبرة منفردة)، وابتكارات التكنولوجيا الكبرى راكدة بسبب انخفاض قيمة الرقائق الدقيقة، والرأسماليون يجلسون على كثير من النقود، والبقة الدنيا المكافحة محرومة من السبل للصعود الاجتماعي.

ويعتقد فريدمان أن هذه القضايا بدرجات متفاوتة، سيتم تناولها، وربما تصحيحها، في السنوات الـ10 إلى الـ15 المقبلة، ويعترف بأنه لا يستطيع أن يأخذ في الحسبان بعض المتغيرات، مثل تغير المناخ، والذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، وسط الضجيج العنيف الذي أحدثته وسائل التواصل الحديثة، يؤكد فريدمان أن حالة الغضب التي تعيشها أميركا اليوم، قد سبق بالفعل وأن اختبرتها الأمة الأميركية، واستطاعت عبورها من دون أن يتفكك الاتحاد الفيدرالي. على أنه وباعتراف فريدمان، لا تزال هناك مشكلات عديدة تنتظر الأميركيين، حتى تبدأ المرحلة التالية من التاريخ الأميركي في أوائل ثلاثينيات القرن الـ21، ولكنه يتوقع أن تمر العواصف مرة أخرى، وأن الأمة الأميركية ستتمكن في واقع الأمر من إعادة تزويد نفسها بالوقود من الأزمات، وإعادة تشكيل نفسها بقدرة ملحوظة على التكيف، كما أظهرت في الدورات الماضية، ويخلص إلى أن سفينة الإمبراطورية الأميركية ستبحر من جديد، وساعتها ستعيد اختراع نفسها.

وهنا نسائل فريدمان: هل النوازل يمكن بدورها أن تبطل رؤيته للدورات الاجتماعية؟.

لقد تحدث عن المتغيرات غير المتوقعة مثل المناخ والذكاء الاصطناعي، وإن لم يتعرض لعالم الذكاء السوبر وتبعاته على البشر، غير أنه أغفل في حقيقة الأمر الحديث عن الأوبئة.

والسؤال هنا مزدوج، يشمل الماضي، ويلقي بظلاله على الحاضر والمستقبل: "هل كان وباء (كوفيد-19) من بين الأسباب التي عجلت بالعاصفة الأميركية، وجعلت من الصعب في حال تكرارها، الوصول إلى مرحلة الهدوء التي يعنون لها فريدمان مؤلفه هذا؟".

إخفاق "كوفيد" ومآلات الهدوء المقبل

من الواضح جداً أن فريدمان أنهى كتابه ودفعه إلى المطبعة في ذروة أزمة "كوفيد"، وعنده أن الحكومة الفيدرالية في ذلك الوقت كانت هي خلية الخبراء برئاسة ترمب، أما الدكتور فاوتشي، الذي ملأ الدنيا رعباً وصياحاً، فلم يكن بدوره يعرف كيف يعالج "كوفيد-19"، لكنه كانت لديه فكرة عن كيفية احتوائه.

وينتشر الفيروس من خلال الاتصال البشري، لذا، فإن القضاء عليه كان يتطلب وقف تواصل البشر، وهو ما تبنته الحكومة الفيدرالية الأميركية.

ويقطع فريدمان بأنه ربما كان حل الدكتور فاوتشي هو الحل الأفضل، لكنه لم يأخذ في الاعتبار الكلف الخفية. فالبشر حيوانات اجتماعية، وفي جميع مراحل حياتهم يحتاجون إلى الألفة والحميمية.

ولم يكن من الواضح قبل أربع سنوات كم من الوقت سيستغرق الأمر قبل العثور على علاج، بالتالي لم يكن من الواضح ما كلفة الانفصال الاجتماعي. فما الكلفة التي قد يتحملها الأطفال الذين يكبرون من دون اتصال وثيق مع الأطفال الآخرين، والألعاب الطقسية في الثقافة المحظورة جنباً إلى جنب مع الجمال العادي في الطبيعة؟

كان بوسع الحكومة الفيدرالية أن تستعين بخبير اقتصادي أو خبير في تنمية الطفل أو خبير في الأخلاقيات. وكان من المؤسف أن الحل الذي توصل إليه فاوتشي لم يخضع لخبراء مجالات أخرى، ولكن هذا لم يكن مفاجئاً، ولم يكن أهل النزعة الفئوية يرحبون بالرفقة، لكن علماء الأخلاق لم يتمكنوا من الإجابة عن السؤال الأخلاقي، ولا تسمح أية درجة علمية متقدمة لأي شخص بإملاء الأخلاقيات. وكانت أميركا تعد جميع المواطنين من علماء الأخلاقيات، كما كانت الشخصيات السياسية التي اختارها المواطنون مضطرة إلى مواجهة كابوس الاختيار الأخلاقي.

وهل كان "كوفيد" إنذاراً بالعاصفة الكبرى التي ستهب على أميركا؟

المؤكد أن الجائحة كانت هي اللحظة التي أظهرت فيها أسس الحكومة الفيدرالية الأميركية التي وضعت، للمرة الأولى، خلال الحرب العالمية الثانية ضعفها. ولقد أدت القيمة الممنوحة للخبرة إلى رفع مستوى فئة من الناس إلى مستوى الحكم الفعال من خلال الجدارة.

وتبدو الفوضى وكأنها ضربت أميركا منذ ذلك الوقت، أما السؤال الأكثر صعوبة، والذي لم يجب عنه فريدمان عبر مؤلفه الواسع: "هل أميركا مستعدة لمواجهة وباء جديد؟".

أخيراً، وعلى هامش الحديث عن وباء جدري القرود، علت الصيحات في الداخل الأميركي، لتقطع بأن البلاد وعلى رغم خمس سنوات من "كوفيد-19"، غير مستعدة لمواجهة فيروس فتاك آخر، قد يعصف بما تبقى من استقرار في البلاد، وساعتها سيكون الهدوء الذي يخبر عنه فريدمان، ضمن دورت حياتية مجتمعية أميركية جديدة، أثراً بعد عين.

هل أخطأ المجتمع الأميركي حين ركز الجميع على الأيديولوجيا، ونسوا أو تناسوا التكنولوجيا؟

أميركا بين البيولوجيا والتكنولوجيا

وتبدو المعركة الدائرة في الداخل الأميركي اليوم، معركة أيديولوجية بصورة قاطعة، بين اليمين واليسار، بين الجمهوريين والديمقراطيين، وفي خلفية الصورة هناك صراع آخر مُتخفٍّ وقوده العرق والدين، اللون والجنس، الطبقية المجتمعية والمحاصصة الطائفية، وكلها حرائق مشتعلة.

وفقدت أميركا، بحسب فريدمان، قدرتها على أن تكون مجتمعاً بيوريتنانياً طهرانياً قادراً على المزج الخلاق بين الأيديولوجيا والميثودولوجيا. وتظل الأيديولوجيا شعارات سياسية ترفع في أزمنة الضيق المجتمعي، سياسياً أم اقتصادياً، غير أن الميثودولوجيا هي الآلية التي من خلالها يمكن قيادة المجتمعات إلى بر الأمان وتجاوز الفخاخ المنصوبة للأمم والشعوب. والشاهد أنه ما بين الأيديولوجيا والميثودولوجيا، ظهر في الداخل الأميركي صراع مقنع بين البيولوجيا والتكنولوجيا، فقد كشف "كوفيد-19" أيضاً عن ضعف الثقافة التكنولوجية الأميركية.

وكان التركيز الأساس للدور الحياتية الأميركية غير بيولوجي، على رغم وجود بحث وتنفيذ بيولوجي بالطبع، كما كانت الحال منذ أواخر القرن الـ19. ومع ذلك كان محور التكنولوجيا قائماً حول الشريحة الدقيقة، ويتعامل في المقام الأول مع المسائل غير البيولوجية.

في كتابه يناقش فريدمان الذروة الدورية للتكنولوجيا القائمة على الشريحة الدقيقة واستبدالها بتكنولوجيا تركز على البيولوجيا، والتي من شأنها أن تدفع الاقتصاد والمجتمع في الدورة التالية.

وكانت حجة فريدمان أنه مع زيادة متوسط العمر المتوقع وانخفاض معدلات الإنجاب بين جيل الألفية، فإن العبء على المجتمع سيأتي من كبار السن وغير المنتجين، ونظراً لفرضيته القائلة إن التكنولوجيا هي استجابة لمشكلات اجتماعية ملحة، فقد تبع ذلك أن أتباع نهج جديد جذري للشيخوخة أمر لا مفر منه.

هنا التساؤل المثير ضمن حديث العاصفة "هل أميركا على مقربة من التحول إلى مجتمع عواجيز من جراء عزوف الشباب عن الزواج والإنجاب؟

الجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة وثيق ولصيق الصلة بأحوال أميركا ومنحنياتها الديموغرافية، كما أنه يتشابك مع أمر في غاية الأهمية، وربما الخطورة، أي حديث الهجرة والمهاجرين.

وتبدو هذه الجزئية بنوع خاص نقطة صراع مجتمعي رهيبة تتصاعد لتؤجج حالة العاصفة التي تصعب معها العودة إلى الهدوء من جديد... كيف؟

على من يرغب في الاستزادة التطلع إلى ملف الهجرة في الصراع الانتخابي الحالي، وكيف أن أميركا "بوتقة الانصهار"، والتي قامت على أسس من المهاجرين من مختلف أرجاء الكرة الأرضية، باتت الآن في حالة رفض من جانب كبير منها لاستمرار تدفق المهاجرين.

وبالطبع، وراء الأمر ملامح العنصرية البيضاء المتصاعدة، غير أن الأمر له ما يفسره أي وجود مخاوف من الرجل الأبيض الواسب، من أن يصبح عما قريب أقلية وسط أكثرية، وهو ما يدفع التيارات اليمينية المختلفة، يمين، ويمين وسط، وأقصى اليمين إلى الدخول في صدامات قد يبلغ بها الأمر حد الحرب الأهلية، خوفاً على المكتسبات التي حافظت الأكثرية الأنغلوساكسونية عليها منذ اكتشاف أراضي القارة الجديدة وحتى الساعة.

ويحتاج الحديث عن فكرة العاصفة والهدوء إلى مزيد من البحث والفحص، والقدرة على الاستنتاج، لا سيما أن هناك ملفات مهمة لم يتطرق إليها فريدمان، ومن بينها ربط الداخل الأميركي بالتطورات الخارجية، أي صعود قوى عالمية أخرى كالصين وروسيا، ونشوء وارتقاء تجمعات سياسية واقتصادية ستكون لها ردود فعل على الأوضاع الاقتصادية في الداخل الأميركي، لا سيما حال فقدت أميركا مستويات الرفاهية التقليدية التي عرفت بها على مدى الأعوام الـ100 المقبلة.

هل العاصفة شأن مؤكد؟

ذلك كذلك، وقد هبت بالفعل رياحها على أميركا ويمكن متابعتها من دون بذل جهد كبير، لكن أيكون الهدوء شأناً مقطوعاً به؟

هذا هو غير المؤكد، لا سيما أن هناك عديداً من العوامل الأخرى التي تحتاج إلى محاججة وديالكتيك، لتبيان نقاط القوة ونقاط الضعف في الجسد الأميركي، ثم الأهم مناعته الداخلية في ظل مولدات القلاقل والاضطرابات المتراكمة صباح ومساء كل يوم.

المزيد من تقارير