تنتظر صناعة النفط والغاز في بريطانيا مواقف حاسمة خلال الأشهر القليلة المقبلة، في ظل استثمارات بمليارات الجنيهات وعشرات الآلاف من الوظائف على المحك.
فتلك الشركات في بحر الشمال التي تعمل في الصناعة التي تمثل أمناً وطنياً للبلاد اعتادت على التدخلات السياسية، لكنهم ينتظرون بقلق ما إذا كانت الحكومة العمالية ستقدم طوق نجاة وسط الخطط لتشجيع التحول نحو الطاقة المتجددة والابتعاد من الهيدروكربونات من عدمه.
وإذا لم يحدث ذلك، فقد حذر قادة أكبر الشركات المنتجة في البلاد من أن وتيرة تراجع الإنتاج ستزداد، وستنخفض الاستثمارات وسيتبع ذلك تسريح العمال.
ومن جانبها أكدت وزيرة الخزانة البريطانية راشيل ريفز أن تعهدات حزب "العمال" في بيانه الانتخابي تضمنت إنهاء عمليات الحفر الجديدة، وزيادة قدرها ثلاث نقاط مئوية على ضريبة الأرباح المفاجئة (مما يرفع معدلها الأعلى إلى 78 في المئة)، وإزالة بعض مخصصات الاستثمار على أن تطبق اعتباراً من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، ومددت ريفز الإطار الزمني للضريبة لمدة 12 شهراً أخرى حتى عام 2030.
وفي مواجهة هذا الاحتمال، حذرت منظمة "أوف شور إنيرغيز يو كي" (هيئة تجارية) من أن خطط الضرائب ستؤدي إلى انخفاض في إيرادات الدولة يبلغ تقريباً 12 مليار جنيه استرليني (15.7 مليار دولار) ما بين عامي 2025 و2029 مقارنة بالنظام الضريبي الحالي.
ومن المقرر إعلان التفاصيل الدقيقة في الموازنة المقررة خلال الـ30 من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، مع أمل العاملين داخل قطاع النفط والغاز في الحصول على صورة من صور الدعم، ربما في صورة مخصصات رأسمالية محسنة، وهي نوع من الإعفاءات الضريبية للإنفاق الرأسمالي لتخفيف العبء.
ويعترف حزب "العمال" بأن النفط والغاز سيشكلان جزءاً من مزيج الطاقة في بريطانيا لأعوام مقبلة، لكن الاعتماد على الواردات سيزداد بصورة حتمية ومتنامية إذا تراجعت الإنتاجية المحلية بسرعة.
وبينما بلغ إنتاج بحر الشمال ذروته نحو عام 2001، اقترحت "خريطة طريق" مدعومة من وستمنستر أعدها قبل عقد من الزمان الملياردير الاسكتلندي في مجال خدمات النفط والفاعل الخيري سير إيان وود، أن الجرف القاري لبريطانيا سيكون قادراً على توفير الوقود الأحفوري حتى عام 2050 في الأقل.
واليوم، يبدو أن هذا التفاؤل مبالغ فيه إذ أجل أو ألغي عدد من المشاريع والصفقات حتى قبل أن تعرف نتائج الانتخابات العامة.
تغير نظام الضرائب العقابي على بحر الشمال
وألقى رئيس شركة "ديلتيك إنرغي" مارك لابين البالغ من العمر 63 سنة اللوم على عدم اليقين المالي والبيانات السياسية السلبية في قرار شركته خلال يونيو (حزيران) الماضي، بالانسحاب من مشروع "بنساكولا" مع شركة "شل" وهو اكتشاف في جنوب بحر الشمال، ولم تتمكن شركة "ديلتيك" المدرجة في "إيه أي أم" من تأمين مستثمر أو تمويل بديل لتحمل حصتها من تطوير المشروع الذي يقدر احتواؤه على أكثر من 72 مليون برميل من النفط.
وتأجلت أيضاً عملية اتخاذ قرار في شأن المضي قدماً بمشروع "بوكهان" التي تصل كلفته إلى 900 مليون جنيه استرليني (1.1 مليون دولار)، الذي تطوره شركات "سيركا إنرغي" و"غيرسي أويل أند غاز" و"نيو إنرغي"، مما يثير الشكوك حول ما إذا كان سيتحقق تاريخ الإنتاج المقرر خلال أواخر عام 2027.
وقلصت شركة "هاربور إنرغي" أكبر منتج في بريطانيا الوظائف استجابة لإدخال ضريبة الأرباح المفاجئة خلال عام 2022، بينما أبرمت هذا العام صفقة بقيمة 11.2 مليار دولار لشراء أصول "وينترشال دي أي إي" في أوروبا والمكسيك وأفريقيا، ومن المتوقع حدوث صفقات أخرى، سواء من خلال دمج شركات التشغيل الحالية في بحر الشمال لتحقيق كفاءات أكبر، أو من خلال اتباع نهج هاربور وتوسيع عملياتها إلى أجزاء أخرى من العالم. فعلى سبيل المثال، وافقت شركة "إيثاكا إنرغي" على صفقة أسهم بالكامل بقيمة نحو 754 مليون جنيه استرليني (988.8 مليون دولار) للاستحواذ على الأصول البريطانية لشركة "إيني" الإيطالية، مما زاد إنتاجها إلى أكثر من 100 ألف برميل يومياً.
وبوب كيلر هو محلل في صناعة النفط وكان مدير أصول لشركة "هيس" (المجموعة الأميركية للطاقة) ومديراً إدارياً لشركة "كي بي بي برودكشنسيرفيسيز" قبل أن يؤسس مجموعة خدمات النفط "بي أس أن"، التي تركز على بحر الشمال، من خلال استحواذ بقيمة 220 مليون جنيه استرليني (288.5 مليون دولار) على بعض عمليات "هاليبرتون".
وبعد خمسة أعوام باع الشركة إلى مجموعة جون وود عام 2010 مقابل نحو 600 مليون جنيه استرليني (786.8 مليون دولار).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيلر البالغ من العمر اليوم 60 سنة أصبح لاحقاً الرئيس التنفيذي لشركة "وود" ويدير حالياً شركته الاستشارية الخاصة.
ويعتقد كيلر أن نظام الضرائب "العقابي" على بحر الشمال يجب أن يتغير، قائلاً في تصريحات إلى صحيفة الـ"تايمز" إن "البلاد ستظل تعتمد على موارد الهيدروكربونات بينما نحن في مرحلة الانتقال"، مضيفاً "أود أن أرى التركيز على الحفاظ على الوظائف والمهارات ضمن الصناعة بينما نعمل على الانتقال إلى الطاقة المتجددة".
وتابع "جميعنا نريد نفس الشيء، بلد غير معتمد على مصادر الطاقة غير المتجددة ويكون مزدهراً ومليئاً بالأشخاص المهرة والموهوبين، أفهم سياسياً لماذا كانت ضرائب الأرباح المفاجئة جذابة عند تقديمها، لكن الآن بعد أن طبقت لفترة، يمكنك أن ترى تأثيرها العقابي في الاستثمار".
وقال كيلر "الكل يعرض لأغراض سياسية بدلاً من المنطق الاقتصادي"ـ مستدركاً "لكن لا يمكن للناس تحقيق عائد معقول على استثماراتهم إذا كان هناك مشهد سياسي غير متوقع، إذا كنت تدير حقلاً للنفط والغاز كما فعلت في الماضي، هناك عدد من صور عدم اليقين الأخرى التي يجب التعامل معها".
تراجع الاستثمار في النفط والغاز
في غضون ذلك، أعربت هيئات الصناعة عن قلقها من أن أي خفض كبير في الاستثمار قد يؤدي إلى فقدان عشرات الآلاف من الوظائف، إذ تتوقع "أوف شور إنيرغيز" خفض الاستثمار في القطاع من 14 مليار جنيه استرليني (18.3 مليار دولار) إلى نحو 2.3 مليار جنيه استرليني (ثلاثة مليارات دولار).
وقالت الهيئة إن "التعديلات الضريبية المقترحة ستؤدي إلى تسريع خفض الإنتاج المحلي وخفض مماثل في الضرائب المدفوعة والوظائف المدعومة والقيمة الاقتصادية الأوسع المولدة".
ومن جهته، اقترح محلل النفط والغاز في بنك "ستيفل" الاستثماري كريس ويهيتون أن ما يصل إلى 100 ألف من أصل نحو 200 ألف وظيفة مباشرة وغير مباشرة معرضة للخطر، ويعتقد أن إنتاج الغاز المحلي قد ينخفض بنسبة تصل إلى 70 في المئة بحلول نهاية العقد، مما سيجعل بريطانيا تستورد نحو 80 في المئة من حاجاتها.
وبينما كانت بريطانيا مستوردة صافية للغاز منذ عام 2004 فإن الإنتاج المحلي يشكل عادة نحو 50 في المئة من حاجاتها، وفي الوقت الحالي تأتي غالبية الواردات من النرويج.
تراجع القوى العاملة في القطاع للنصف
وقال ويفتون "يجب على حزب ’العمال‘ أن يجد توازناً وسطاً بين نظام ضريبي معقول يستمر في تحفيز الاستثمار لدعم انتقال بريطانيا للطاقة وتأمين الوظائف المستقبلية"، مضيفاً "لا يمكنهم استخراج 6 مليارات جنيه استرليني (7.8 مليار دولار) إضافية من الضرائب من الصناعة على مدى الأعوام الخمسة المقبلة من دون أن يؤثر ذلك سلباً في الاستثمار، بالتالي تدمير الوظائف والمهارات الضرورية لانتقال الطاقة، وتقليل أمن الطاقة في بريطانيا بجعلها تعتمد أكثر على الطاقة المستوردة، وزيادة انبعاثات الكربون في البلاد".
في حين أشار معهد انتقال الطاقة في جامعة روبرت جوردون داخل أبردين إلى أن القوى العاملة المباشرة في مجال النفط والغاز قد تنخفض إلى النصف بنحو 60 ألف موظف بداية عام 2030، ونظرت أحدث تحليلاته في سيناريوهات يمكن أن يساعد فيها الاستثمار الأكبر في الطاقة المتجددة على الحفاظ على الأعداد ضمن القوى العاملة في قطاع النفط والغاز البحري، وقد اقترحت نماذج المعهد أفضل السيناريوهات بوجود 225 ألف وظيفة بنهاية العقد، ارتفاعاً من 154 ألفاً خلال عام 2023، ولكنها حذرت أيضاً من احتمال خفض 15 في المئة إلى 130 ألف وظيفة.
صناعة تتمسك بالأمل
ومن جانبه، يأمل وزير الطاقة السابق في حكومة توني بلير من حزب "العمال" بريان ويلسون أن يؤدي تعيين وزراء جدد إلى تعزيز التعاون مع الصناعة، قائلاً "يجب أن تدرك أنه من الضروري ترك درجة من المرونة التي تأخذ في الاعتبار توازن الأحداث، ويجب أن تحرز تقدماً في مجال الطاقة المتجددة من أجل تحقيق الجانب الآخر من المعادلة".
وأضاف "إذا تسارعت عملية الخفض في بحر الشمال، فإن الانتقال إلى الطاقة المتجددة يجب أن يتسارع أيضاً، وهذا يعني تحقيق التوريد والتصنيع وتركيب هذه المزارع الريحية (طاقة الرياح) وهو تحد كبير".
في حين أصر أحد كبار التنفيذيين داخل إحدى شركات الإنتاج الكبيرة في بحر الشمال على أن الصناعة ليست "تصرخ من دون سبب" في شأن الهاوية التي تواجهها وتوقع "تسارعاً أكبر في الخفض" ما لم يتم تقديم بعض التشجيع للشركات في شأن الإنفاق. وأضاف "الشيء الذي تقوم به دائماً هو اختبار اقتصادات المشروع، والآن من الصعب جداً لأنك لا تعرف كيف سيكون نظام الاستثمار، لدينا بالفعل أعلى معدل ضرائب وأعلى كلفة للوصول إلى نقطة التعادل، لذا فإن توازن الأخطار والمكافآت لدينا غير صحيح".
وتتمسك الصناعة بالأمل في أن تقدم حكومة "العمال" مساراً للتخطيط المستقبلي، وقال الرئيس التنفيذي لشركة "شور إنيرغيزى" ديفيد وايتهوس "أخيراً نواصل الحاجة إلى مناخ مالي يعزز الاستثمار في قطاع الطاقة البحرية لضمان انتقال مدروس إلى الطاقة النظيفة لا يعتمد على زيادة الواردات".
ومن جانبها قالت وزارة الخزانة إنها "ملتزمة الحفاظ على حوار بناء مع قطاع النفط والغاز لوضع اللمسات الأخيرة على التعديلات اللازمة لتعزيز ضريبة الأرباح الاستثنائية، مما يضمن انتقالاً تدريجياً ومسؤولاً لبحر الشمال,