ملخص
يواجه سلامة الذي تولى حاكمية مصرف لبنان لثلاثة عقود اتهامات جمة، ويشكل محور تحقيقات محلية وأوروبية تشتبه في أنه راكم أصولاً عقارية ومصرفية بصورة غير قانونية، وأساء استخدام أموال عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان، عدا عن تحويله الأموال إلى حسابات في الخارج و"الإثراء غير المشروع"، وهي اتهامات ينفيها جميعها.
في سجن قوى الأمن الداخلي في الأشرفية يقبع الحاكم السابق لمصرف لبنان المركزي رياض سلامة بانتظار تحديد موعد جلسة استماع من المرجح أن تنعقد الأسبوع المقبل، ليقرر في ضوئها القاضي المعني إذا ما كان سيبقيه قيد الاحتجاز أم لا.
وشكل توقيف سلامة هذا الأسبوع مفاجئة على الساحة اللبنانية، إذ إن المصرفي الكبير نجح على مدى أكثر من ثلاثة أعوام في البقاء حراً طليقاً على رغم ملاحقته في عشرات الدعاوى القضائية داخل لبنان وخارجه، وأثار هذا التوقيف شكوكاً في شأن توقيته ودوافعه بعدما حظي الحاكم السابق بحماية سياسية أبعدته من القضبان لأعوام، فماذا تغير وهل يحمي هذا التوقيف سلامة من الملاحقات الأجنبية أو تسليمه للخارج؟
التوقيف المفاجئ
توجه سلامة أول من أمس الثلاثاء إلى قصر العدل في بيروت من دون محام للخصوع لاستجواب ظل أمره سرياً حتى وصول الحاكم السابق إلى المكان، وبعد نحو ثلاث ساعات من المساءلة أمر النائب العام التمييزي القاضي جمال الحجار بتوقيف سلامة في شأن قضية اختلاس أموال، تبيّن وفق مصادر قضائية لـ "رويترز" أنها مرتبطة بجمع أكثر من 110 ملايين دولار من خلال جرائم مالية تتعلق بشركة "أوبتيموم إنفست" عبر عقود بيع وشراء مشبوهة بينها وبين مصرف لبنان.
وبعدما ختم الحجار تحقيقاته الأولية وأمر بتوقيف سلامة أحاله إلى النائب العام المالي القاضي علي إبراهيم الذي حقق معه بدوره أمس الأربعاء، وادعى عليه بجرائم اختلاس أموال عامة وتزوير وإثراء غير مشروع وتبييض أموال، ومن ثمّ أودع إبراهيم الملف قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي الذي يتوقع أن يحدد خلال الساعات المقبلة موعداً لاستجواب سلامة، على أن يقرر في ضوئه إما إصدار مذكرة توقيف وجاهية بحقه، أو تركه بسند إقامة وكفالة مالية.
واليوم الخميس ادعت هيئة القضايا في وزارة العدل، ممثلة في رئيستها القاضية هيلانة إسكندر، على سلامة وكل من يظهره التحقيق ضالعاً، وذلك تبعاً لادعاء النيابة العامة المالية.
من جهتها قالت شركة "أوبتيموم إنفست" اللبنانية للوساطة إنها تتعاون مع السلطات في هذه القضية، وإن تعاملاتها مع المصرف المركزي "تتم في إطار الالتزام الكامل بالقوانين واللوائح المعمول بها".
الملاحقات بحق سلامة
ومنذ الانهيار الاقتصادي الذي عصف بلبنان أواخر عام 2019 وأسفر عن انهيار الليرة اللبنانية واحتجاز الودائع المصرفية في البنوك التجارية التي فرضت سقوفاً على عمليات السحب النقدي، يواجه سلامة الذي تولى حاكمية مصرف لبنان لثلاثة عقود اتهامات جمة، ويشكل محور تحقيقات محلية وأوروبية تشتبه في أنه راكم أصولاً عقارية ومصرفية بصورة غير قانونية، وأساء استخدام أموال عامة على نطاق واسع خلال توليه حاكمية مصرف لبنان، عدا عن تحويله الأموال إلى حسابات في الخارج و"الإثراء غير المشروع"، وهي اتهامات ينفيها جميعها.
وتشمل التحقيقات الخارجية بحق سلامة ملفاً في سويسرا حيث يحقق القضاء في احتمال حصوله وشقيقه رجا بصورة غير قانونية على أكثر من 300 مليون دولار من البنك المركزي بين عامي 2002 و2015، وهو ما نفاه الأخوان، وفي يناير (كانون الثاني) 2022 طلبت النيابة العامة الفيدرالية في سويسرا مساعدة القضاء اللبناني للتحقيق في هذه القضية.
وفي فرنسا كذلك فتح القضاء المالي في يوليو (تموز) 2021 تحقيقاً في ثروة سلامة أفضى إلى توجيه اتهامات له في ديسمبر (كانون الأول) 2023 بغسل أموال واحتيال ضريبي، كما فتح القضاء الألماني تحقيقاً يطاول الحاكم السابق لمصرف لبنان، وصدر قرار في مارس (آذار) 2022 بتجميد فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ 120 مليون يورو من الأصول اللبنانية التي يشتبه في أنها تعود لسلامة وأقاربه، كما أصدرت كل من باريس وبرلين مذكرتي توقيف في حقه جرى تعميمهما عبر الإنتربول، وأشارت النشرتان الحمراوان الصادرتان بناء على طلب البلدين إلى بعض الاتهامات ومنها غسل الأموال، وفي ضوء مذكرات التوقيف هذه قرّر القضاء اللبناني منعه من السفر وصادر جوازي سفره اللبناني والفرنسي.
وفي يونيو (حزيران) الماضي ألغت النيابة العامة في ميونيخ مذكرة التوقيف بحق سلامة لأنه "لم يعد يشغل منصب حاكم مصرف لبنان المركزي، وبالتالي لم يعد هناك أي خطر بإتلاف أدلة"، لكن هذا القرار لا يعني أن التحقيق الألماني انتهى بل هو مستمر، فيما يخضع سلامة اليوم مع أفراد من عائلته لعقوبات أميركية وكندية وبريطانية لاتهامه بالضلوع في فساد لإثراء نفسه وشركائه.
أما في لبنان فيلاحق سلامة أيضاً قضائياً، وقد طلبت النيابة العامة في يونيو عام 2022 الادعاء عليه للاشتباه في جرائم "اختلاس أموال عامة والتزوير وتبييض الأموال وتهريب أموال إلى الخارج والتهرب الضريبي والإثراء غير المشروع"، وفي الشهر نفسه أمر النائب العام غسان عويدات، على نحو منفصل، بتوجيه تُهم تبييض الأموال والإثراء غير المشروع والتزوير والتهرب الضريبي إلى سلامة، علماً أن تلك الاتهامات صدرت في قضايا منفصلة عن ملف شركة "أوبتيموم إنفست" الذي أوقف في شأنه.
ماذا يقول القانون؟
وفي خضم كل هذه الملاحقات ومذكرة التوقيف الفرنسية التي لا تزال سارية المفعول، وبعد توقيف سلامة في بيروت، فهل يمكن أن يسلم إلى باريس لمحاكمته هناك؟
يقول المحامي في القانون الدولي رفيق هاشم إن قضايا استرداد وتسليم المواطنين من المسائل الأكثر تعقيداً في القانون الدولي بسبب تداخل المعايير القانونية والسياسية فيها، ويوضح أنه "لا يتم الاسترداد أو التسليم إلا استناداً إلى اتفاق أو معاهدة دولية تجمع لبنان بالدولة طالبة الاسترداد"، وبالتالي يتعيّن أولاً التحقق من وجود هكذا اتفاق بين بيروت وباريس أو أي جهة أخرى قد تطلب تسليم سلامة، لدرس تفاصيلها إن وجدت.
وفي جميع الأحوال يشير هاشم إلى أن "المادة الـ (32) من قانون العقوبات اللبناني تنص على أنه يمكن رفض طلب الاسترداد أو التسليم في حال تبين أن الجرائم الملاحق بها الشخص المطلوب الاسترداد من أجله، هي جرائم تدخل ضمن اختصاص الشريعة اللبنانية، وبالتالي فإذا كان هذا الشخص لبنانياً، وإذا كان يلاحق بجرائم حدثت في لبنان، ففي المبدأ يطبق القانون اللبناني عليه وعلى الأفعال المدعى بها، كما أن القضاء اللبناني هو صاحب الاختصاص للنظر في هذه الجرائم، وهو الأولى للبحث في أي جريمة من هذا النوع بحق شخص لبناني".
أما إذا كان الشخص الملاحق يحمل جنسية أخرى، كحال سلامة الذي يحظى بالجنسية الفرنسية، "فطالما هو ملاحق في لبنان أيضاً فيمكن أن يشكل ذلك سنداً أو حجة لتأخير البت في طلب تسليمه"، بحسب هاشم الذي يوضح أن "أي طلب استرداد اليوم يرفع إلى النائب العام التمييزي الذي يدرس الملف ويبحث في مستنداته والقرائن والوقائع والذرائع والأسباب القانونية، وفي ضوئها يرفع تقريراً إلى وزير العدل الذي بدوره يضع تقريراً، واستناداً إلى هذه التقارير يصدر مرسوماً إما بقبول الاستراد أو رفضه". ولذلك تعتبر هذه "المسألة قانونية في العنوان العريض مبدئياً، لكن أموراً وجوانب تكميلية أخرى تتداخل فيها مثل السيادة والسياسة العامة الوطنية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ملفات منفصلة
أما الصحافية القضائية فرح منصور فتستبعد تسليم رياض سلامة للخارج لأن القوانين اللبنانية لا تسمح بتسليم المواطنين عند طلبهم للملاحقة القضائية الأوروبية، وتشير إلى أنه "عندما استدعى القاضي عماد قبلان رياض سلامة لإبلاغه بطلب الإنتربول، قال حينها إنهم أبلغوا الدول الأوروبية أن لبنان لا يسلم مواطنيه".
وتوضح منصور أن الملاحقات الأوروبية بحق سلامة تحدث على خلفية مواضيع وجرائم مالية محددة قد تكون مختلفة عن القضايا التي يلاحق في شأنها داخل لبنان، "لذلك أعتقد أن هذه الملفات ستكون منفصلة عن بعضها بعضاً، والتحقيقات الأوروبية ستكون بعيدة قليلاً من التحقيقات اللبنانية إلا إذا تشابهت الملفات مع بعضها".
وتقول الصحافية القضائية إنه في حال قرر قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي "إصدار مذكرة توقيف وجاهية بحق سلامة فسيدخل الحاكم السابق في مسار قضائي طويل ومعقد جداً، وعندها نقول إن إخلاء سبيله سيكون بعيداً ولن يخرج من السجن بين ليلة وضحاها".