ملخص
يتذكر العالم في هذه الآونة التي تعيش فيها البشرية حالة من السيولة الجيواستراتيجية، وتكاد تنفلت قبضة الزعامة التاريخية، رجالات عظام مروا في التاريخ الحديث، لا سيما في النصف الثاني من القرن الـ20، من أمثال ونستون تشرشل وشارل ديغول ودوايت أيزنهاور وكونراد أديناور وغاندي وتيتو، والعشرات من الأسماء، حتى الذين وصمهم التاريخ الغربي بوصمات سيئة لا تمحى، من نوعية أدولف هتلر وجوزيف ستالين وماو تسي تونغ، ومع ذلك ظلوا في نظر شعوبهم أو مريديهم أبطالاً وزعامات تاريخية حاولوا رفع دولهم ومواطنيهم وترقيتهم في مدارات أعلى.
هل هناك أزمة عالمية في القيادة؟ هل غابت القيادات الكاريزماتية التي ملأت العالم حضوراً في القرن الـ20، حتى وإن كان بعضها من الأشرار؟
من الواضح أن الجميع يتساءل عن سبب اهتزاز القيادة الدولية ويشعرون بالغضب والإحباط إزاء أولئك الذين يقودوهم.
إن ثقة الناس في الزعامات والمؤسسات التي تمتلكها تتبخر بمعدل مثير للقلق، وهناك أزمة متفاقمة ومتسعة في شرعية الزعامات وصدقيتها، ويمكن أن نعزو هذه الأزمة إلى خمسة مصادر أساسية، وهي: الزعماء غير القادرين، وغير الأذكياء، وغير الناضجين، وغير الأخلاقيين، والمدمرون.
يتذكر العالم في هذه الآونة التي تعيش فيها البشرية حالة من السيولة الجيواستراتيجية، وتكاد تنفلت قبضة الزعامة التاريخية، رجالات عظام مروا في التاريخ الحديث، لا سيما في النصف الثاني من القرن الـ20، من أمثال ونستون تشرشل وشارل ديغول ودوايت أيزنهاور وكونراد أديناور وغاندي وتيتو، والعشرات من الأسماء، حتى الذين وصمهم التاريخ الغربي بوصمات سيئة لا تمحى، من نوعية أدولف هتلر وجوزيف ستالين وماو تسي تونغ، ومع ذلك ظلوا في نظر شعوبهم أو مريديهم أبطالاً وزعامات تاريخية حاولوا رفع دولهم ومواطنيهم وترقيتهم في مدارات أعلى.
ما الذي جرى للقيادة الكاريزماتية على وجه التحديد؟
ربما حالة الانفتاح العالمي وما يمكن أن نسميه "المجمع الصناعي الإعلامي"، قرب الصورة كثيراً جداً، إذ ركزت الكاميرات على ملامح ومعالم الزعماء المعاصرين، فأظهرتهم بشراً عاديين، لا قادة أسطوريين، كما كانت الحال من قبل.
ما الذي يجعل القادة عظماء؟
ليس يسيراً تقديم جواب عن علامة الاستفهام المتقدمة، لكن بصورة أو بأخرى ربما نحتاج إلى الابتعاد والعودة إلى أزمنة قديمة والنظر من هناك علنا نجد جواباً.
سوف نمضي مع الفيلسوف اليوناني والسياسي في الوقت ذاته بلوتارخ (45-125م)، عبر كتابه الشهير "كيف تكون قائداً: دليل قديم للقيادة الحكيمة"، إذ كتب عن شخصيات مشهورة من اليونان وروما بما في ذلك عن الأباطرة والجنرالات وأعضاء مجلس الشيوخ والسياسيين. كتب عن الإسكندر الأكبر ويوليوس قيصر وبريكلس ومارك أنطونيو وشيشرون، وغيرهم.
وضع بلوتارخ في منهجية بحثه عدة تساؤلات، غالب الظن أنها تصلح لعالمنا اليوم أيضاً: ما الذي يجعل من المرء قائداً عظيماً؟ إلى أي مدى ينبغي للقادة أن يهتموا بسمعتهم؟ هل ينبغي أن يفعلوا ما هو صحيح أم ما هو شائع؟ ما الصفات أو الخصائص التي يحتاج إليها الشخص لكي يضحى قائداً عظيماً؟ هل المرشدون مهمون للقادة الشباب؟ هل ينبغي للقادة ذوي الخبرة أن يتنحوا حالياً ويفسحوا المجال للقادة الشباب والقادمين؟
هذه بعض الأسئلة المهمة التي حاول بلوتارخ تقديم إجابات عنها، من خلال دراسته وكتابته عن أولئك القادة البارزين في العالم، ولعل عمله هذا يكسب أهمية خاصة لأنه قدمه في أوج انتصارات الإمبراطورية الرومانية، وحتى لو كان تركيزه قد انحسر على نموذج القيادة السياسية، فما جاء به يصلح لاستخدامه في كثير من المواقع والمواضع التنفيذية حول العالم، وإن كانت بعيدة من دائرة العمل السياسي.
يقدم لنا بلوتارخ أربعة منطلقات للقيادة الناجحة المتميزة التي أفرزت في الماضي زعامات تاريخية، سواء كان الماضي البعيد أو القريب، ومن خلال النظر المعمق لها يمكننا أن ندرك أزمة القيادة المعاصرة... ماذا عن تلك الثوابت في عالم بلوتارخ؟
القادة العظماء والأسباب الصحيحة
على الضد من البراغماتية السياسية التي سيأتي بها نيقولا ميكافيلي بعد نحو 1400 سنة، وتفضيلاته للمصلحة الضيقة على الآداب أو الأخلاق العامة، نجد بلوتارخ يقطع بأن أحد الأشياء الأولى التي يسلط عليها الضوء هي كون الطامحين إلى قيادة المجتمعات الإنسانية منطلقين من أسباب صحيحة، أي أفضل النيات، ويسلط الضوء على الفارق بين أولئك الذين يريدون القيادة وأولئك الذين يتطلعون إلى كراسي الحكم بهدف الإملاء وإعطاء الأوامر.
يقطع الفيلسوف اليوناني بأن وراء نية القائد الناجح أهدافاً من الخدمة العامة للآخرين، لا القيام بذلك من أجل الثناء الشخصي أو المنافع الذاتية الضيقة.
عن ضرورة الأساس الأخلاقي
الركن الثاني في أركان القيادة الخلاقة عند بلوتارخ هو أن يكون للقائد أساس أخلاقي قوي. كانت النقطة الأساسية لبلوتارخ هي أن الفلسفة الأخلاقية تشكل أساساً للقادة العظماء، ويتحدث عن أهمية الحالة الأخلاقية للزعيم وتطوره، ويشير إلى أن تصرفات وقرارات الزعيم يجب أن تستند إلى العقل. ووفقاً لبلوتارخ إذا لم تكن تصرفات الزعيم مبنية على العقل فمن المرجح أنها تكون مبنية على العواطف والدوافع، والحاكم لديه لا بد أن يتولى حكم نفسه أولاً، ويصلح شأنه، ثم تالياً يستوعب رعيته ذلك لأن المتعثر لا يمكنه إصلاح غيره.
أهمية التعلم من ذوي الخبرة
يتحدث بلوتارخ عن أهمية التعلم من القادة ذوي الخبرة، ووفقاً له فإن كبار السن، أولئك الذين يتمتعون بثروة من الخبرة، لديهم كثير ليقدموه للجيل الأصغر سناً. ويشير إلى أن أولئك الذين يتمتعون بالخبرة لا يمكنهم فقط مشاركة الدروس المستفادة من تجاربهم، بل يمكنهم أيضاً أن يكونوا قدوة، على وجه التحديد، فيما يتعلق بكيفية عدم الاستسلام للعواطف، وهو ما يزعم بلوتارخ أن الجيل الأصغر سناً يميل إلى القيام به، ويزعم أن أولئك الذين يتمتعون بثروة من الخبرة هم أكثر عقلانية في أحكامهم، بينما يميل الشباب إلى الاندفاع.
القدرة على إقناع الآخرين
ما يجعل من أحدهم قائداً عظيماً هو بلا شك قدرته على التواصل مع الجماهير، أي قوة الإقناع، وبلوتارخ يتناول في مؤلفه مقدرة القائد أو الزعيم على الكلام والحاجة أن يكون الشخص بليغاً عند التحدث لإقناع المستمعين. وكما أشرنا سلفا، فإن بلوتارخ كان مهتماً بصورة أساسية بالساحة السياسية، إلا أننا جميعاً نستطيع أن نرى لماذا الصورة العامة، ومعرفة جمهورك، والتحدث ببلاغة لإقناع الجمهور، كلها أمور مهمة لقيادة أي مجال.
يعن لنا التساؤل: هل القيادات الكاريزماتية في القرن الـ20 عرفت كيف تستفيد من نصائح بلوتارخ، ولهذا طفت على السطح؟ ثم وهذا هو الأهم، كيف أن تلك الركائز لم يعد لها موطئ قدم في عالمنا المعاصر، ولهذا انعدمت النماذج القيادية الخلاقة؟
غاندي – تشرشل وصولاً إلى روزفلت
يتطلب الحديث عن نماذج من القيادات السياسة ذات الحضور الكاريزماتي الجاذب، مؤلفات قائمة بعينها، غير أننا نود التوقف مع ثلاثة نماذج آسيوية وأوروبية وأميركية، عسى أن نعرف من خلال مطالعتها، ما سر أزمة القيادة العالمية الحالية.
لتكن البداية من عند فقير الهند الأشهر، المهاتما غاندي الذي تولى مهمة كانت تعد على نطاق واسع مستحيلة، وهي مواجهة أقوى إمبراطورية على وجه الأرض. لقد أدرك غاندي أن بريطانيا أقوى من أن يمكن تحديها بالنضال العسكري المسلح، فضلاً عن ذلك فإن هذه لم تكن فلسفته.
بدلاً من ذلك دعا غاندي إلى المقاومة اللاعنفية في هيئة الاضطرابات والمقاطعات ومسيرات الاحتجاج التي تقوم جميعها على حب الظالم، وتوفر بديلاً قابلاً للتطبيق للنضال المسلح لتحرير الهند، وقد حقق هدفه في نهاية الأمر ولم تعرف الهند من وقتها قائداً كاريزماتياً مثله، تعلم وعلم نفسه وعرف كيف يخاطب الجموع الغفيرة.
أما رئيس الوزراء البريطاني العتيد ونستون تشرشل فهو يبرز فوق الجميع، فقد نجح بمفرده تقريباً في إبقاء بريطانيا في حربها ضد الرايخ الثالث غير منكسرة على رغم الآلام التي عاصرها. كان خطابه في مجلس العموم في الرابع من يونيو (حزيران) 1940 خطاباً عملاقاً: "سنقاتل في البحار والمحيطات، وسنقاتل بثقة متزايدة وقوة متزايدة في الجو، وسندافع عن جزيرتنا، مهما كانت الكلفة، وسنقاتل على الشواطئ، وسنقاتل على أرض الإنزال، وسنقاتل في الحقول وفي الشوارع، وسنقاتل في التلال، ولن نستسلم أبداً".
قاد تشرشل شعبه بالدموع والدماء، لكنه حقق نصراً أخلاقياً ولوجيستياً.
وبالارتحال إلى الولايات المتحدة، نجد في طريقنا الرئيس فرانكلين روزفلت، الذي تولى الرئاسة عندما كانت البلاد في أسوأ حالاتها. فقد كان النسيج الاجتماعي للمجتمع ينهار، وكانت معدلات البطالة في ارتفاع شديد، وكان الناس يائسين. في هذه الأجواء قاد روزفلت البلاد من خلال تقديم الأمل والهدوء والعقلانية والاعتدال، وجعل الأمر "متعلقاً بنا" لا "بي"، بمعنى تفضيل وتقديم المصلحة العامة على الخاصة.
قال روزفلت هذه الكلمات الخالدة خلال حفل تنصيبه الأول: "أولاً وقبل كل شيء، دعوني أؤكد اعتقادي الراسخ بأن الشيء الوحيد الذي يجب أن نخافه هو الخوف نفسه. الرعب الذي لا اسم له، ولا منطق له، والذي يشل الجهود اللازمة لتحويل التراجع إلى تقدم".
لقد نجح روزفلت في انتشال البلاد من الهاوية الاقتصادية والاجتماعية. أما قوة الإقناع لديه، فقد مكنته في وقت لاحق من عامي 1940-1941، من إقناع الشعب الأميركي المنعزل والمتمترس وراء محيطين، بتقديم المساعدة لبريطانيا في عهد تشرشل ضد النازيين من خلال مبدأ "الإعارة والتأجير"، ثم لن ينفك يضحى شريكاً فاعلاً في هزيمة هتلر بعد بيرل هاربور.
ما الذي ميز هؤلاء القادة الثلاثة العظماء؟
باختصار غير مخل، لقد فعلوا الأشياء الصحيحة أولاً، وتحلوا بأسس أخلاقية في مسيرتهم المهنية، عطفاً على امتلاكهم ناصية الإقناع عند شعوبهم، ولم يتوقف أحدهم على أهميته التاريخية، وقامته الفكرية، من التعلم والاستزادة من أصحاب الأفكار، لا سيما العلماء الذين صنعوا لأحدهم (روزفلت) القنبلة النووية التي حسمت الحرب الكونية الثانية.
لكن، وعلى رغم عظمة هؤلاء وغيرهم مثل مارتن لوثر كينغ وألبرت أينشتاين ونيلسون مانديلا وديزموند تيتو والأم تريزا، وصولاً إلى رونالد ريغان، هل يقع عليهم جزء من إشكالية غياب القادة الكاريزماتيين الجدد، ونحن نقترب من منتصف العقد الثالث من القرن الـ21؟
القادة العظماء وإشكالية إرث الرماد
أحد أهم الكتاب الأميركيين الذين تصدوا للجواب عن علامة الاستفهام المتقدمة، الأميركي بول آلادينيكا الذي يعد أن فشل القادة المحدثين يعود في جزء غالب منه إلى القادة العظام السابقين، ويقدم عدداً من الأسباب منها:
** الافتقار إلى الإرث: إننا نفترض أن جميع القادة العظماء يدركون تماماً الحاجة إلى ترسيخ إرث، ولكن هل هذه هي الحال بالضرورة؟
إن عقلية الإرث هي أوضح مؤشر إلى أن القائد يدرك أن المقياس الحقيقي لنجاحه، ليس ما يحدث في حضوره، بل ما يبقى في غيابه، بالتالي فإن عقلية الإرث تتطلب جهداً واعيا لتحقيق انتقال سلس، ليس فقط من حيث المواطنين التابعين، بل والأهم من ذلك من حيث المعايير. وعندما يكون هناك انتقال القيادة مصمماً بصورة سيئة أو غائباً، فمع مرور الوقت، حتى الممارسات التي كانت تعد راسخة في السابق ستضمر في نهاية المطاف.
** رد فعل الخوف: إن القادة لا يحبون المقارنة بالقادة الآخرين، وبخاصة عندما يكون أولئك الذين تتم مقارنتهم بهم أكثر احتراماً منهم. ولمعالجة هذه المشكلة، فإنهم غالباً ما يميلون إلى تقويض الأشياء التي سبقتهم أو التعويض عن نقاط ضعفهم المشتركة من خلال محاولة "القيادة بأسلوبهم الخاص". وهذا الفعل من الأذى الذاتي المهني هو الذي يدفع القادة الجيدين إلى إعاقة تقدمهم نحو العظمة. ففي نهاية المطاف، فإن اللبنة الأساسية للعظمة هي التواضع، وليس الغطرسة. لذلك عندما يهتم القادة بمظهرهم أكثر من اهتمامهم بما قد يصبحون عليه، فإن عتبة العظمة ستظل دائماً بعيدة من متناولهم.
** عقلية "مرة واحدة في الجيل": هناك أوقات يكون فيها رد الفعل على الزعامة العظيمة هو التعظيم وليس التقليد. إن الإعجاب والهيبة الجماعية التي يستقبل بها بعض الزعماء لا تهدد فقط بتضخيم غرور هؤلاء الزعماء، بل إنها قد تؤدي أيضاً إلى تثبيت هؤلاء الزعماء في مناصبهم، بعد فترة طويلة من انتهاء فائدتهم. إن عبادة الزعامة تنتج أتباعاً تابعين، وليس قادة أفضل. وإذا كنت تتخيل أنك أصبحت زعيماً فعالاً مثل الزعيم الحالي، فما الذي قد يحدث؟ ربما لن تصبح كذلك.
** الظروف مهمة: في بعض الأحيان تكون الظروف هي التي تحدد عظمة القيادة. على سبيل المثال، يشهد التاريخ بمآثر الشجعان أثناء الحرب. إن قدرتهم على التغلب على الصعاب المستحيلة، وإظهار الشجاعة تحت النيران والتضحية بحياتهم من أجل الآخرين تميزهم كعظماء، بغض النظر عن رتبهم. هذا لا يعني أن القادة العسكريين الذين لم يخدموا في مسرح الحرب لا يتمتعون بالقدرة على العظمة، بل إن هذا يؤكد ببساطة على حقيقة مفادها أنه من غير الممكن التحقق من مثل هذه القدرات ما لم يتم اختبارها.
وفي كل الأحوال، فإن قضية الإرث لها شق ثانٍ، ربما مختلف عليه، بمعنى الجانب المظلم من الشخصيات القيادية الكاريزماتية، أو التي ينظر إليها من شعوب أخرى على أنها قيادات شريرة، فهل هؤلاء بدورهم قد اضمحلوا أم أن هناك مجالاً حيوياً لإنتاج مزيد منهم... ماذا عن بعض أهم هؤلاء في القرن الـ20، وكما تناولنا شأن الطيبين؟
هتلر وستالين والسلطة غير المقيدة
يحاجج كثير من العقليات الغربية بأن طغاة مهووسين بالسلطة مثل أدولف هتلر وجوزيف ستالين لا يمكن أن نطلق عليهم وصف قادة، بسبب ما ارتكبته أياديهم من شرور، لكن على جانب آخر من الحقيقة، هناك من يرى أن هؤلاء وما اقترفته أياديهم، لم يكن سوى محاولة درء خطر وظلم وقع عليهم مثل معاهدة فرساي التي أزلت الألمان بعد الحرب العالمية الأولى وفتحت الطريق واسعاً أمام ظهور تيار متشدد لم ينفك أن يضحى توجهاً أيديولوجياً متطرفاً. وفي حال ستالين فقد رأى أن القوى الغربية التي انتصرت في الحرب العالمية الثالثة، لن تبرح أن تتمدد وتتوسع، لجهة حدود بلاده، وعلى هذا الأساس بادر إلى إخضاع قسم بالغ من أوروبا الشرقية لسطوته التي لا تعرف الرحمة.
هنا يمكن القطع بأن وجه البشرية قد تشكل بفعل القادة الذين يعدهم البعض أشراراً، كما تشكل بفعل أبطال النبلاء من أجل تحسين المجتمع وتحقيق العدالة.
على مر التاريخ ألحقت البشرية بنفسها عدداً لا يحصى من حالات القسوة والجنون والرعب التي لا توصف، ويعد أدولف هتلر، الديكتاتور الألماني من عام 1943 إلى عام 1945، من أسوأ الكوارث التي حلت بالعالم على الإطلاق، ولو لم يولد هتلر، لكان الملايين قد نجوا من موت قاسٍ في وقت غير مناسب، ولربما سلك التاريخ مساراً مختلفاً تماماً.
هل يمكن تجاوز هتلر من قائمة الكاريزماتيين؟ سؤال صعب الجواب عنه في ضوء الشر الذي أحدثه، لكنه في كل الأحوال ترك بصمة لا تنسى حول العالم. والثابت أنه لا يمكن أن يذكر هتلر من دون الحديث عن ستالين، باعتباره لدى مؤرخي الغرب من المجانين الذين ينتمون إلى فئة "الوزن الثقيل"، التي ينتمي إليها هتلر.
كان ستالين سعيداً بالعمل مع هتلر عندما اعتقد أنه يستفيد من ذلك، ولم يكن لديه أية تحفظات في شأن تركيز غضبه الأبدي على الشعب الروسي. لقد قتل أكثر من 20 مليون إنسان، معظمهم من الروس. وقتل كل من اشتبه في معارضته لحكمه. ولقد حارب ستالين هتلر في الحرب العالمية الثانية، وكان حليفاً غير مرسخ للغرب، ولعل هذا هو السبب الوحيد الذي جعل التاريخ أكثر لطفا معه من هتلر.
ومثل هتلر وستالين وصل ماو تسي تونغ زعيم الحزب الشيوعي الصيني إلى السلطة في وقت بدا فيه أنه يفضل المهووسين بعظمة الذات والإبادة الجماعية في مناصب القيادة، ومثل ستالين بدا أنه يفضل قتل شعبه.
وفي كل الأحوال يمكن القول أن عديداً من أمثال هؤلاء رأوا أن الاهتمام بأمتهم وطريق عظمتهم وقيادتهم، بل كاريزميتهم الطاغية، إنما يمر من خلال الموت والدمار، الإبادة والترويع، وأمامهم يقف التاريخ متسائلاً عن إمكانية ظهور صنوف وألوان جديدة منهم في قادم الأيام، وهذا هو ديالكتيك التاريخ، حتى لو بقي التساؤل هل كان هؤلاء قادة أم لا؟
أميركا... أين ذهب القادة العظماء؟
ولأن الولايات المتحدة الأميركية لا تزال مالئة الدنيا وشاغلة الناس، فلهذا ربما يجب علينا أن تكون هي المثال الذي نخضعه لتحليل إشكالية غياب القادة العظماء والكاريزماتيين الأصلاء.
لم يعد سراً القول إنه مرت على التاريخ البشري فترات من الزعامات القوية للعالم، ثم مضت، واليوم يمر المجتمع الدولي بفترة يبدو فيها أن زعماء الدول الكبرى يتنافسون على إظهار أسوأ أداء لديهم.
مرة جديدة نتساءل: أين قادة أوروبا وأميركا اليوم من جيل تشرشل وتاتشر وديغول وكيندي وويلي برانت وهيلموت كول، وأخيراً أنجيلا ميركل؟
دعونا نتوقف قليلاً في الداخل الأميركي، إذ إن واحداً من الانتخابات المثيرة للتأمل، لا سيما في دولة أنجبت قادة عظماء من عند جورج واشنطن، مروراً بتوماس جيفرسون وأبراهام لنكولن، وصولاً إلى الثلاثي المنيع روزفلت وأيزنهاور وكيندي، وانتهاءً بريغان الذي فكك الشيوعية. أي مقاربة تاريخية ظالمة حال نضع أوباما وبايدن وترمب وهاريس في مواجهتهم؟
يخبرنا واقع الحال الأميركي المعاصر أن الديمقراطيين والجمهوريين أنتجوا مرشحين للرئاسة ضعفاء للغاية، وقد يتساءل المرء: لماذا لم يتمكن المجتمع الأميركي المتطور من إنتاج مرشحين رئاسيين أكثر ملاءمة؟
عبثي هو الجواب، لا سيما أنه في الفترة التي سبقت انتخابات نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، بدا الزعماء المحتملين يتنافسون على إظهار أي منهم يكون أداؤه أسوأ من الآخر، كما يتزامن هذا مع فترة لم تتمكن فيها دول كبرى أخرى من إنتاج زعماء أقوياء.
هل تعاني أميركا أزمة قيادة حقيقية؟
في وسط شوارع أثينا القديمة المتهالكة نجد قصة ملحمية عن الانحدار. وهنا لا يتعلق الأمر بالزعماء في حد ذاتهم، بل بالانسحاب التدريجي من جانب الناس الذين كانوا على استعداد لاتباعهم، وربما كان الانسحاب هو الذي أدى إلى تراجع الزعامة الملهمة، أو ربما كان العكس هو الصحيح، وهذه هي الفروق الدقيقة التي لا نستطيع أن نعرفها، ولكننا نعلم أن مقدمة سقوط أثينا القديمة بدأت كأزمة في الزعامة.
لقد رأى رجل الدولة الأثيني العظيم بريكليس أن جنرالاته أصبحوا عاجزين بصورة متزايدة عن فرض القوانين والحفاظ على النظام، وشعر الناس بالاضطراب وفقد كثر الدافع لأداء الواجبات المدنية والعمل كشعب موحد.
هل هذه القصة تلقى صدى لدى الأميركيين اليوم، لا سيما أن هناك كثيراً من الروايات التي تحكى والأنباء التي تتسرب عن قرب دخول الولايات المتحدة في معترك فوضى، وظهور حكومة رئاسة ظل، برئاسة مرشح الحزب الذي سيعلن عن إخفاقه في الفوز بأصوات الأميركيين في الانتخابات القادمة؟
ربما الانجراف والانحراف اللذان حدثا في عالم السياسة الداخلية الأميركية، أميركا التي عرفها العالم عبر مبدأ مونرو، تختلف كثيراً جداً عن أميركا "القرن الأميركي"، ولهذا شتان الفرق بين رئاسات وزعامات كتلك التي تكلم عنها بلوتارخ في مؤلفه السابق، وقادة جل همهم السيطرة وجعل القرن الـ21 قرناً أميركياً بامتياز، ولو تم اللجوء إلى إخضاع العالم بالقوة المسلحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل هي نهاية أسطورة الزعيم السياسي؟
ما فكرة الزعيم القوي والأسطوري؟ وهل لا يزال لها موقع أو موضع في حياتنا المعاصرة؟
في مؤلفه "أسطورة الزعيم القوي/ الزعامة السياسية في العصر الحديث" الصادر عام 2014 يتولى أحد أبرز المؤرخين السياسيين في العالم البرفيسور آرتشي براون الجواب، وهو الأستاذ الشهير في جامعة أكسفورد.
عند براون أنه في كثير من الأحيان يتم اختزال الزعامة في ثنائية بسيطة، القوي مقابل الضعيف، ومع ذلك هناك عدد لا يحصى من الطرق لممارسة الزعامة السياسية الفعالة، فضلاً عن طرق مختلفة للفشل. فنحن نلوم قادتنا على الإنجازات الاقتصادية، ونشيد بهم بسبب الإصلاحات الاجتماعية الحيوية، ولكننا نادراً ما نتساءل عن الأسباب التي تجعل بعض القادة ناجحين في حين يتعثر آخرون.
في هذا المسح الشامل والواسع النطاق للزعامة السياسية على مدى الـ100 عام الماضية يتحدى براون الاعتقاد السائد بأن القادة الأقوياء، أي أولئك الذين يهيمنون على زملائهم وعلى عملية صنع السياسات، هم الأكثر نجاحاً وإعجاباً. والواقع أن قلة قليلة من القادة السياسيين سيحدثون فارقاً دائماً حقاً. وعلى رغم أننا نميل إلى رفض أساليب الزعامة الأكثر جماعية باعتبارها ضعيفة، فإن القادة الأكثر تعاوناً هم غالباً من يخلفون أعظم الأثر.
هل سنشهد عما قريب في بقاع مختلفة حول العالم من أميركا القلقة المضطربة، القائمة فوق صفيح ساكن، إلى روسيا التي تواجه حرباً مصيرية، مروراً بأوروبا التي تعصف بها أنواء العنصرية، ومن غير أن نهمل الصين التي تواجه تحديات اقتصادية هائلة... هل سنشهد مولد زعماء جدد، أخيار أو أشرار، لمواجهة تحديات اللحظات الراهنة؟
يقطع كارل ماركس بأن العنف قابلة التاريخ، وعليه فإن العالم ينتظر مزيداً من هؤلاء وأولئك حكماً، في فترات فيض ونهاية أزمة الجدب... ربما.