Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معارك بلا دماء: الدراما سلاح في الحروب لكن بدبلوماسية

صاحب ميلاد السينما تراشق درامي بين الدول ونقاد يرون أن الأعمال الفنية يجب أن تبحث عن الحقيقة لا أن تشوه الوقائع

أجج مسلسل "ممالك النار" من التصعيد السلبي بين تركيا والعالم العربي (مواقع التواصل)

ملخص

 في حين أن الدراما أبقى من السياسة، إذ إن الحروب الدبلوماسية قد تنتهي بحل الأمور، فمن الأفضل أن يظل العمل الفني قائماً بذاته وليس أداة للترويج أو الدعاية، إلا أنه من غير الممكن أن تبتعد الدول من استعمال هذه الوسيلة في قضاياها الشائكة، فهي قوتها الناعمة الأكثر تأثيراً والأسهل وصولاً والتي تعينها على الانتصار في بعض المعارك من دون إراقة الدماء.

منذ نشأة الفنون فطنت الدول إلى تأثيرها بوصفها أداة أساسية من أدوات القوة الناعمة، ذلك المصطلح الذي بات رائجاً للتعبير عن أهمية التركيز على ثروات الدول الفكرية التي تسهم في توضيح رسالتها، وترسيخ بعض القيم التي تدعو إليها، وتدعمها بطريقة تصل إلى فئات عدة من الجماهير داخل وخارج الحدود، وتدريجاً تتحقق الشعبية لهذه الأفكار، ومن هنا تهتم البلدان بهذا البند في حروبها الثقافية والدبلوماسية وحتى الحرب بمعناها التقليدي.

لكن على ما يبدو فإن قوة التأثير هذه قد تخرج عن مجرد استعمالها في الدبلوماسية الثقافية غير المؤذية لتكون سلاحاً موجهاً ضد دول أخرى، للسخرية منها أو حتى إلصاق جرائم معينة بها ووضعها في خانة الشر بل وشيطنتها تماماً.

وخلال الأعوام الأخيرة تعددت الأعمال التي صُنفت ضمن خطة مدروسة في حرب سياسية طويلة الأمد، ولا سيما في ما يتعلق بأعمال أميركية عدة تحدثت عن إيران وروسيا وكوريا الشمالية والصين، إذ إن السجال الدائر بين المسؤولين يترجم عادة من خلال الدراما التلفزيونية والسينمائية لدعم وجهة النظر ذاتها، وتمتلئ القائمة بأعمال سببت أزمات دبلوماسية وإعلامية بين كثير من الفرق المتصارعة سياسياً خلال الأعوام الأخيرة، إضافة إلى جانب مطالبات بإيقاف عرضها بحجة أنها تشوه الحقائق وتثير الضغائن وتشعل فتناً سياسية، فالمؤكد أن هناك موجات متتالية ورصيداً كبيراً من هذه النوعية من الحروب التي لا تراق فيها الدماء، وبعضها كان بسبب الفهم الخاطئ وبعضها بسبب رسائلها المتعمدة أيضاً.

أزمات سياسية بالصدفة

الأزمات من هذا النوع صاحبت ميلاد السينما ذاتها، فأول فيلم مصري ناطق "أولاد الذوات" 1932، توقف عرضه بعد اعتراضات فرنسية على تصوير الشخصية الرئيسة جوليا التي قدمت دورها كوليت دارفوي على أنها امرأة لعوب ومستهترة، إذ انبرت الصحف لتأكيد أنه جرى إسناد دور نموذج الرذيلة في العمل إلى ممثلة فرنسية عمداً، وهو بمثابة رسالة سلبية مسيسة تزيد الكراهية الموجهة إلى الفرنسيين، وبالفعل كانت هناك بوادر أزمة دبلوماسية سياسي مما اضطر الجهات الرقابية في مصر إلى إيقاف عرضه بعض الوقت.

 

في حين رفض بطله يوسف وهبي الاتهامات، مشيراً إلى أن الشخصية الدرامية مثار الجدل موجودة بالمواصفات نفسها في معظم الأفلام، سواء عربية أوروبية، كما أنها لا تمثل نموذج المرأة الفرنسية الراقية، بخلاف أن الأمر ليس متعمداً لأن الدور كان مفترضاً أن تجسده بهيجة حافظ من الأساس، وبالتالي لم تكن هناك نية مبيتة للاستعانة بممثلة فرنسية. واللافت أن الفيلم دان أيضاً الشخصية الرئيسة الرجالية التي قدمها يوسف وهبي، إذ انتحر في النهاية بعد أن قتل حبيبته التي ضبطها متلبسة بالخيانة.

وإن كانت بهيجة حافظ قد نجت من هذه الأزمة فقد نالت نصيبها من أزمة أكبر بعدها بخمسة أعوام، وذلك مع فيلم "ليلى بنت الصحراء"، وهو من تأليفها وبطولتها وإنتاجها، وكذلك فهي من ألفت موسيقاه التصويرية، إذ مُنع عرضه ستة أعوام كاملة بعد أن تسبب في أزمة دبلوماسية حقيقية بين مصر وإيران، بخاصة أن الفيلم يتطرق إلى قصة من التراث القديم يظهر فيها الفرس على أنهم مخادعون مما أغضب الدولة الإيرانية، إذ كانت علاقة المصاهرة بين العائلتين الحاكمتين حينها لا تزال قائمة من خلال زواج الأميرة فوزية شقيقة ملك مصر فاروق الأول والشاه رضا بهلوي، وبعد جولات طويلة في المحاكم تمكنت بهيجة حافظ من الحصول على قرار بعرض العمل مع تعديل بعض مشاهده وتغيير اسمه، لكن بعد أن خسرت كثيراً من أموالها لأنها كانت تعول على هذا الفيلم الذي لاقى حفاوة نقدية وقتها، وحصد إحدى جوائز "مهرجان برلين السينمائي".

الدراما تدفع الثمن

وإن كان هذان الفيلمان قد دخلا نفق الأزمات بشكل غير متوقع، نظراً إلى أنهما يتناولان مواضيع اجتماعية أو تراثية بعيدة من قضايا السياسة المباشرة، إذ لم يكن يقصد صناعهما أي نوع من التربض، فإن هناك أعمالاً أخرى تتناول قصصاً شائكة، ومن بينها الفيلم الممنوع "أفغانستان لماذا" 1984 الذي شاركت في بطولته سعاد حسني مع عبدالله غيث والنجم العالمي شون كونري، وهو من إخراج المغربي عبدالله المصباحي الذي صوره في مدينة تطوان، وقال قبل أعوام قليلة من رحيله إنه تعرض لضغوط كبيرة من دول عربية ومن الجانب الروسي أيضاً لوأد المشروع، وبسبب المعارضة الكبيرة لأحداثه منع من العرض ولم يره الجمهور إلا في بعض دور السينما المغربية عام 2013، أي بعد رحيل غالبية أبطاله.

 

وتناول الفيلم الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وبداية التدخل الأميركي في البلاد، واستعرض مؤشرات تلاعب الولايات المتحدة حينها بالشعب الأفغاني، كما استعرض إرهاصات سقوط الاتحاد السوفياتي.

وواجه المسلسل السوري "إخوة التراب" 1996 من إخراج نجدت إسماعيل أنزور قضية شائكة، إذ إن العمل بالأساس يفتح باب النقاش أمام طبيعة الحكم العثماني للبلاد العربية، ويطرح فكرة لم تكن متداولة في ذلك الوقت بأنه لم يكن فتحاً بل كان احتلالاً، واستعرض المسلسل التاريخي اندلاع الثورة العربية من الأراضي السورية ضد العثمانيين، وتطرق إلى كثير من الوقائع المشينة للحكام الأتراك ومن بينها الإبادة الأرمينية التي تسبب صداعاً لتركيا حتى اليوم، وقد احتجت السفارات التركية لدى دول عربية عدة للتأثير فيها وإيقاف عرض المسلسل على قنواتها، وهو ما تحقق بالفعل.

بيانات واستهجانات

صدمة الأوساط التركية والموالين لها كانت مبررة في حال المسلسل السوري، بخاصة أن العلاقات مع الدولة التركية في تلك الفترة كانت طبيعية ولم تكن المناوشات السياسية قد بدأت بعد، إذ بلغت ذروتها تزامناً مع الحراك الشعبي في بعض الدول العربية مطلع 2011 والذي صاحبه اتهامات متوالية للنظام التركي بدعم جماعة "الإخوان المسلمين" المصنفة إرهابية في كثير من دول المنطقة، في حين لم يكن توجه مسلسل "ممالك النار" 2019 مفاجئاً، فالعمل الذي قام ببطولته خالد النبوي تناول التاريخ الدموي للعثمانيين في فترة شديدة الحساسية في التاريخ العربي، إذ عُرض في ذروة التوتر السياسي مع تركيا وحقق شعبية كبيرة، كما حصد هجوماً من وسائل الإعلام التركية واعتبر بالنسبة إليهم مضللاً ومسيئاً لبلادهم وحكامهم، وبالطبع فإن المكايدة السياسية الدرامية من الجانب التركي استمرت في أعمال أخرى لعل أبرزها "قيامة عثمان" الذي عرض على أجزاء عدة واستعرض تأسيس الدولة العثمانية.

وفي عام 2018 شكل مسلسل "أبو عمر المصري" أزمة غير متوقعة بين مصر والسودان، إذ احتجت وزارة الخارجية السودانية في بيان رسمي على ما سمته تصوير العمل لبلادهم كحاضنة للإرهاب، بخاصة أن البطل يهاجر بعد ملاحقات أمنية للعيش في السودان ويصبح أحد كوادر جماعة مسلحة هناك، ووصفت "الخارجية السودانية" العمل بالمحاولة العبثية لضرب الثقة وشل التواصل بين الشعبين الشقيقين، والمسلسل من تأليف عز الدين شكري فشير وإخراج أحمد خالد موسى وبطولة أحمد عز.

 

وقبل أيام أعلنت تركيا غضبتها عبر بيانات شديدة اللهجة عقب الإعلان عن طرح "نتفليكس" مسلسل "فاماغوستا"، وهو اسم مدينة تقع في القسم الشمالي بجزيرة قبرص، إذ يتناول العمل الغزو التركي للجزيرة عام 1974، وقد وصفته "الخارجية التركية" بأنه دعاية سوداء تتبنى الرواية اليونانية حول القضية.

ويقع الشطر الجنوبي في الجزيرة تحت حكم يوناني قبرصي بينما الشمالي تديره تركيا، وقد كشف المجلس الأعلى للإعلام السمعي والبصري التركي أنه توصل إلى اتفاق مع "نتفليكس" يقضي بمنع عرض العمل إلا في اليونان فقط، حيث جرى التراجع عن عرضه عالمياً وفقاً للمجلس، فيما لم تعلق "نتفليكس" رسمياً حتى الآن، إذ إن الجزيرة متنازع عليها منذ عقود بين اليونان وقبرص، وبالتالي فالأزمة السياسية المرتقبة جرى احتواؤها وفقاً لادعاءات الجانب التركي.

روايات متضادة

وفي حين يرى كثيرون أن الأعمال الفنية يجب أن تعبر أولاً عن مصالح الشعوب والأمم، وذلك بالطبع من خلال رؤية فنية عميقة، وألا تتفرغ لتصفية الحسابات السياسية بخاصة وأنها قد تنتهي فيما تبقى الدراما، فإن الأمور في بعض الأوقات تختلط ويصبح لزاماً أن يجري الرد على المغالطات التاريخية الصريحة، سواء إعلامياً أو فنياً أو بطرق دبلوماسية، ولا سيما في القضايا المزمنة، وهو ما يتوافق عليه الناقد الفني طارق الشناوي.

ويقول الشناوي إنه "من الواجب دوماً الحرص على المبادرة إلى تقديم أعمال تبحث عن الحقيقة، لا مجرد رد فعل على دراما تشويه الوقائع"، ضارباً المثل بما حدث إبان أزمة الفيلم الإسرائليي "الملاك" الذي عرضته "نتفليكس"، وتناول قصة أشرف مروان صهر الرئيس المصري جمال عبدالناصر والمستشار الخاص للرئيس السادات، إذ صوره العمل الذي عرضته "نتفليكس" قبل ستة أعوام على أنه عميل إسرائيلي بامتياز، بينما الرواية المصرية تؤكد أنه كان رجلاً وطنياً قدم خدمات جليلة لبلاده، حتى إن الرئيس المصري حسني مبارك شارك في جنازته عام 2007، مشدداً على أن أشرف مروان كان مخلصاً لوطنه وأن أعماله الاستخباراتية لم يحن الوقت للكشف عنها حتى الآن.

وعلى رغم الانتقادات التي وجهت إلى الفيلم ووصفته بالساذج فنياً وسياسياً فإن الغضب المصري ترجم في منشورات وتصريحات عدة لإعلاميين وفنانين، معتبرين أنه يستهدف إفساد الوعي لدى الأجيال الجديدة.

وقد دأبت إسرائيل على تقديم عمل من وقت إلى آخر في إطار الدعاية السياسية التي تتحول عادة إلى حرب دبلوماسية معتادة من جانبها في هذا الشأن، وهو ما ترجم في ردود الأفعال التي صاحبت عرض مسلسل "الجاسوس" الذي تناول قصة جاسوس الموساد إيلي كوهين الذي نجح في أن يتوغل في قلب المؤسسات السياسية والأمنية في سوريا خلال مهمة تجسس استعرضها العمل بين عامي 1962 و 1965، منتحلاً اسم كامل أمين ثابت، وقد اتهم العمل من قبل الدوائر السورية بأنه مليء بالمغالطات التاريخية التي لا تقبل النقاش، ومع ذلك فقد حقق انتشاراً لكنه أيضاً جلب بعض السخرية لمنتجيه، إذ استغرب بعض المعلقين حينها اهتمام تل أبيب بتقديم عمل عن عميل جرى كشفه وإعدامه علانية في سوريا.

 

ويبدي الناقد الفني طارق الشناوي تحفظه على اللجوء إلى الدراما عمداً بهدف صنع حال من التنابذ السياسي، مشدداً على أن الدراما "ينبغي أن تكون فعلاً بحد ذاتها وألا تكون وسيلة لصنع رد فعل على واقعة ما، وألا تنتظر الآخر ليقدم ما لديه أولاً"، معتبراً أن "الأفلام والمسلسلات التي تتبنى وجهة النظر الإسرائيلية في ما يتعلق بالحوادث التاريخية التي جرت على الأراضي العربية لا تكون فقط ذات إنتاج إسرائيلي، إنما هناك دول أخرى توافقها الرؤية وتقدم أعمالاً تصب في مصلحتها".

وفي السياق نفسه حدثت أزمات مضادة كثيرة بسبب أعمال أخرى أظهرت بعض الشخصيات الإسرائيلية بصورة وصفتها تل أبيب وقتها بأنها تحض على الكراهية، وتنوعت ردود الأفعال بين رسمية وغير رسمية، ومن بين أبرز تلك الأعمال التي أثارت حنق الإسرائيليين "فرقة ناجي عطا الله" و"فارس بلا جواد" و"حارة اليهود" و"ربع مشكل"، إضافة إلى فيلم "السفارة في العمارة"، إذ اعتبرت بعض المصادر الإسرائيلية أنها تعادي السامية وتسخر من شعبهم، وقبل ذلك كانت هناك أعمال أخرى سببت توتراً دبلوماسياً وشعبياً مثل "دموع في عيون وقحة" و"رأفت الهجان".

وبخلاف الإنتاجات المصرية فقد أثارت مسلسلات تركية عدة أيضاً أزمات دبلوماسية بين أنقرة وتل أبيب، مثل "وادي الذئاب" و"صرخة حجر"، وظهرت فيها مشاهد لجنود إسرائيليين يقتلون أطفالاً فلسطينيين بدم بارد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رسائل شديدة اللهجة وتهديدات صريحة

التراشق الدرامي معتاد أيضاً بين الولايات المتحدة ودول عدة تعاكسها سياسياً، وعادة لا ينتج منه أية تحركات رسمية احتجاجية، إذ يجري الاكتفاء بالاعتراضات الإعلامية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الأمر مختلف مع كوريا الشمالية، فتزامناً مع عرض الفيلم الأميركي الكوميدي "المقابلة" 2014 بطولة جيمس فرانكو وسيث روجان والذي تناول قصة فريق إنتاج برنامج أميركي شهير يرغب في مقابلة زعيم كوريا الشمالية كيم، انطلقت رسائل الاستهجان من الدولة النووية التي تعتبر أن العمل يحرض على الإرهاب ضدهم ويسخر من رئيس بلادهم، وبالتالي ينبغي منعه، ووصل الأمر إلى توجيه إهانات عنصرية للرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، وذلك وفقاً لما جاء في وكالة الأنباء المركزية الكورية الشمالية الرسمية على لسان عضو في لجنة الدفاع الوطني الكوري الشمالي، إذ وُصف أوباما بالمتهور والمحرض عقب السماح بعرض الفيلم، وكذلك تتالت التصريحات ذات اللهجة التهديدية التي طالبت الولايات المتحدة بـ "تحمل تبعات هذه السياسة".

ونظراً إلى ضخامة الإنتاج في هوليوود فإن الولايات المتحدة عادة ما تفرض أسلوبها ووجهة نظرها الدبلوماسية من خلال الدراما، فهي دوماً منتصرة في الحروب من هذا النوع، وبحسب ما يقول الناقد الفني إيهاب التركي فالولايات المتحدة "لديها أكبر آلات الدعاية العالمية وهوليوود هي أكبر وسائل القوة الناعمة، مما يسهم في زيادة قدرتها على إقناع قطاعات كثيرة من المجتمع العالمي بوجهة النظر التي تتوافق مع سياستها".

واختتم التركي أن "الساسة يستخدمون الأفلام والأغاني وبرامج والـ 'سوشيال ميديا' بصورة مباشرة أو من خلال تبني المنتجين وكبار رجال الأعمال والإنتاج وجهة نظر أميركا في السياسة والصراعات الدولية، فقد جرت العادة أنه من غير الممكن أن تكون صاحب وسيلة للتأثير الإعلامي والفني هناك من دون أن تستخدمها بصورة أو بأخرى في الترويج لوجهة نظر الولايات المتحدة".

اقرأ المزيد

المزيد من فنون