Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سيناريو اليونان الاقتصادي يرعب باريس

العجز العام في فرنسا أصبح خارج نطاق السيطرة

فرنسا تواجه عجز ماليا خرج عن نطاق السيطرة بالفعل في العام الماضي ( أ ف ب)

ملخص

شهدت فرنسا خفضاً في تصنيفها من قبل وكالات التصنيف مثل اليونان في فترة سابقة 

مثُل وزير الاقتصاد والمالية الفرنسي السابق برونو لو مار ووزير الحسابات العامة السابق توماس كازينوف مرة أخرى أمام اللجنة المالية للجمعية الوطنية (البرلمان) الإثنين الماضي، وكان على الوزيرين المستقيلين شرح الانزلاق الجديد في الموازنة الفرنسية المتوقع لعام 2025.

ودارت الأسئلة الموجه لكليهما حول العجز المالي، فكيف يمكن لهذا العجز الذي خرج عن نطاق السيطرة بالفعل في العام الماضي أن يخرج عن مساره مرة أخرى هذا العام؟

ونظراً إلى وضع المالية العامة الفرنسية فإن السيناريو اليوناني الذي وضعها تحت إشراف صندوق النقد الدولي والمفوضية الأوروبية للحصول على المساعدات المالية ومحو جزء من ديونها لم يعد محضاً من الخيال العلمي لدى الفرنسيين، بعد أن أصبح العجز العام في فرنسا خارج نطاق السيطرة.

وعلى أية حال فهناك أوجه تشابه بينهما، ففي عام 2009 بلغ دين اليونان 113 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مع عجز في الموازنة بـ 12 في المئة، بينما وصل دين فرنسا اليوم إلى 110 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وتجاوز العجز حاجز الستة في المئة مرتفعاً من 5.5 في المئة العام الماضي، بينما تشير التوقعات إلى تفاقمه هذا العام.

في غضون ذلك حذر المتخصصون الفرنسيون من أن الحسابات المالية قد خرجت عن نطاق السيطرة مرة أخرى، إذ تسير باريس إلى عجز إجمالي قدره 170 مليار يورو (187 مليار دولار) هذا العام.

وأعلن المعهد الوطني للإحصاء في فرنسا أن العجز العام بلغ 154 مليار يورو (169 مليار دولار) عام 2023، وسيصل العجز نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 5.6 في المئة بدلاً من 5.1 في المئة المقدرة سابقاً عام 2024، وفقاً لمذكرة مسربة من إدارة الخزانة.

ولذلك فإن فرص تراجع العجز المالي في الموازنة الفرنسية إلى ثلاثة في المئة عام 2027 أصبحت منعدمة تقريباً، خصوصاً بعد أن أعلن العام الماضي عجز في مستوى 5.5 في المئة الذي وصف بالكارثة التي لن تتكرر في فرنسا، بينما التقديرات الحالية تشير إلى الأسوأ منها.

إيرادات ضعيفة ونفقات إضافية

وحذرت المذكرة المسربة من عجز مستقبلي بـ 5.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي عام 2024، مما يعني 1.2 نقطة أعلى من التقدير الأولي للسلطة التنفيذية، مقارنة بتلك التي صُححت في أبريل (نيسان) الماضي.

ووفقاً للوثيقة فإن الوضع الضار للحسابات العامة يرجع لما هو غير متوقع من انفجار في إنفاق السلطات المحلية، والذي سيتجاوز هذا العام الحدود القصوى المخطط لها في مسار الموازنة البالغة 16 مليار يورو (17.6 مليار دولار)

وعلاوة على ذلك كانت الإيرادات أقل من المتوقع، سواء من ضريبة الشركات أو ضريبة الدخل، وهناك تفسير آخر لهذا الفشل المعلن وهو النمو، فبينما كان متوقعاً بنسبة 1.4 في المئة عند إعداد الموازنة خريف 2023، خفض وزير الاقتصاد السابق برونو لومار بعد ذلك هذا التقدير في فبراير (شباط) الماضي إلى واحد في المئة، ففي ذلك الوقت كان الوزير الفرنسي يستهدف عجزاً قدره 4.4 في المئة، وارتفعت النسبة إلى 5.1 في المئة خلال أبريل الماضي.

وسجل الاقتصاد الفرنسي تراخياً في إجمال موازنة التأمين الصحي وعجزاً في مدخرات التقاعد مع انخفاض إيرادات الدولة، وبما أن النمو ضعيف فإن الضرائب تأتي أقل ليواصل الاقتصاد نموه خلال الربع الثاني من عام 2024 بنسبة 0.2 في المئة على أساس ربع سنوي، متراجعاً من 0.3 في المئة على أساس ربع سنوي خلال الربع الأول من عام 2024، ومدعوماً بصورة أساس بالصادرات، وإن تراجع التضخم ليستقر عند 2.2 في المئة على أساس سنوي في أغسطس (آب) 2024 مقارنة بـ5.7 في المئة على أساس سنوي في سبتمبر (أيلول) 2023، فإن توقعات النمو لعام 2025 لا تزيد على 1.4 في المئة، و1.3 في المئة عام 2024، بعد نمو لم يزد على 1.1 في المئة العام الماضي، في حين تبلغ نسبة البطالة 7.3 في المئة خلال الربع الثاني من العام الحالي.

وفي نهاية الربع الأول من عام 2024، بلغ الدَين العام 3159.7 مليار يورو (3475.6 مليار دولار) بزيادة مقدارها 58.3 مليار يورو (64.13 مليار دولار)، بعد 6.4 مليار يورو (7 مليارات دولار) في الربع السابق، وهو ما يمثل 110.7 في المئة من الناتج الإجمالي بعد 109.9 في المئة خلال الربع الرابع من عام 2023.

الالتزام المستحيل

ومن الواضح أن هذا السياق سيعقد الأمور بالنسبة إلى الحكومة المقبلة، إذ إن الالتزام لدى الاتحاد الأوروبي بخفض قدره 15 مليار يورو (16.5 مليار دولار) من العجز يبدو مستحيلاً، ومثل اليونان في فترة سابقة شهدت فرنسا خفضاً في تصنيفها من قبل وكالات التصنيف، إذ خفضت وكالة "ستاندرد أند بورز" تصنيف اقتصاد باريس من "AA" إلى" AA-" نهاية مايو (أيار) 2024، في حين حافظت "فيتش" على تصنيف "aa-" و"موديز" عند "aa2" في أبريل الماضي، مع انتظار مراجعتها لشهري أكتوبر (تشرين الأول) ونوفمبر (تشرين الثاني) المقبلين.

ومن المؤكد أن فرنسا تشكل رهاناً أكثر أماناً من اليونان في الأسواق المالية، ولكن المتخصص في الشأن الاقتصادي الفرنسي مارك تواتي لا يتردد في عقد المقارنة قائلاً إن "ما يشبه إلى حد كبير ما حدث في اليونان هو أن العجز العام في فرنسا أصبح خارج نطاق السيطرة، وهكذا اليوم فكل شيء سيعتمد على صدقية الحكومة المقبلة".

وحول قدرة الحكومة على خفض العجز يرى تواتي أن "الاقتصاد الفرنسي في خطر كبير يهدده بالمصير الذي عاشته اليونان ما بين عامي 2010 و2015"، محذراً "من أن هذا المطب التاريخي ستكون له عواقب سلبية على الاقتصاد الفرنسي والاستثمار التجاري والاستهلاك الأسري والمدخرات أيضاً".

وقال إنه "من الواضح أن بعضهم سيعتبر أن المقارنة مع اليونان مبالغ فيها وهنا تكمن المشكلة"، محملاً زعماء فرنسا المسؤولية برفضهم التحديث وتنفيذ الإصلاحات الأساس، إذ إنهم فضلوا زيادة الإنفاق العام والضرائب وبالطبع الدَين العام الذي يواصل تحطيم الأرقام القياسية التاريخية، ليتجاوز 3475.6 مليار دولار خلال الربع الأول من عام 2024.

وأشار تواتي إلى أنه "بناء على ذلك حان الوقت لسداد فواتير الاقتصاد الفرنسي الذي ارتفع عبء الفائدة على ديونه إلى عنان السماء"، مؤكداً أنه "في الفترة من 2017 إلى 2021 أُخفي سوء إدارة الإنفاق والديون بطباعة الأموال المتضخمة من قبل البنك المركزي الأوروبي الذي اشترى ديوننا وديون البلدان الأخرى في منطقة اليورو بمستوى غير معقول".

وأضاف، "مع ذلك فإن وفرة الأموال السحرية لم تكن ذات فائدة تذكر، وقبل كل شيء أدت إلى زيادة التضخم مما أجبر البنوك المركزية على وقف هربها المتهور، وبمعنى آخر فمنذ عام 2022 حان الوقت لرد الفعل العنيف ودفع الفواتير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 وهكذا حتى قبل الأزمة السياسية التي تترسخ في فرنسا، أدى الدَين العام والطفرة التضخمية إلى زيادة حادة في أسعار الفائدة على السندات الحكومية، مما أدى إلى إضعاف النشاط الاقتصادي والتسبب في زيادة عبء الفائدة على الدين العام، مما أدى إلى إضعاف النشاط الاقتصادي.

وفي حال حدوث أزمة سياسية خطرة فإن أسعار الفائدة طويلة الأجل معرضة لخطر الارتفاع، لذا فإن فرنسا بطبيعة الحال ليست اليونان، فلديها مزيد من الأصول واقتصاد أكبر، ولكن بما أن أكثر من 52 في المئة من دينها العام يحتفظ به غير مقيمين فإنها ستعاني حتماً الوطأة الكاملة للعقوبات التي يفرضها المستثمرون في حال حدوث أزمة سياسية خطرة.

وسيؤدي هذا بصورة خاصة إلى زيادات أخرى في أسعار الفائدة على السندات الحكومية، وبالتالي في أسعار الفائدة على القروض التي يتعين على الأسر والشركات سدادها، مما سيؤدي حتماً إلى الركود وارتفاع معدلات البطالة.

وعلى رغم هذا الواقع المرير فمن المتوقع لجوء الدولة إلى زيادة الضرائب، فصحيح أن فرنسا لا يزال بوسعها الاعتماد على عائدات ضريبية كبيرة وخصوصاً المرتبطة بالأداءات (الضرائب) على الشركات والثروة الكبيرة للمواطنين الفرنسيين، ومن الممكن أن تزيد الدولة الفرنسية الضرائب مما قد يؤدي إلى مزيد من تقويض النمو، وهذا أمر غير مقبول لأن الزيادة في الضغوط الضريبية التي هي بالفعل الأعلى في العالم، ستؤدي إلى تحطيم النمو بصورة ميكانيكية.

وفي مواجهة هذه الكارثة المالية والاقتصادية سيسلط الضوء حتماً على سلبية صافي أصول الدولة الفرنسية، وستفقد مزيداً من صدقيتها، وتشهد أسعار الفائدة على قروضها ارتفاعاً من شأنه بلا شك أن يزيد تقويض الاستثمار والنمو وتشغيل العمالة.

وفي هذه اللحظة سيصبح الإفلاس المحتمل للدولة الفرنسية هو إفلاس فرنسا ككل، وستصبح أزمة مالية واقتصادية واجتماعية "على الطراز اليوناني" ولكن بقوة مضاعفة.

الثروة الكلاسيكية لفرنسا

الخبير المالي عدنان بن صالح حمّل بدوره الحكومات الفرنسية خلال الأعوام الأخيرة مسؤولية فقدان باريس قدرتها على تكوين رأس المال الثابت وخزنه، بعد تراجع قدرات البلاد على خلق رؤوس الأموال، وعكس ذلك فقد تم استهلاكها وهي الثروة الكلاسيكية لفرنسا، مشيراً إلى أن ما حدث هو نتيجة خيارات سياسية اتجهت إلى وضع منوال تنموي يرتكز على المؤسسات الكبرى مما أدى إلى التهام المؤسسات الصغرى ركيزة النمو، وتسبب في انخفاض مستويات الناتج القومي الخام بحكم العجز عن خلق الثروة.

ولفت صالح إلى أنه وعلى رغم أن فرنسا تعرضت لتداعيات أزمة كورونا وواجهت انعكاساتها على محركات الاقتصاد لديها، فإن ذلك لا يمنع مسؤولية السياسات القائمة من ارتفاع مستوى المديونية، وبمجرد التأمل في موازنات فرنسا لقرابة 10 أعوام فتسهل ملاحظة التداين المفرط وغياب الاستثمارات الكفيلة بخلق المشاريع ومواطن الشغل وتنمية الصادرات.

وقد خسرت فرنسا 47 في المئة من موارد الجباية في بلد يتجاوز الضغط الجبائي فيه 60 في المئة، وتقوضت قاعدة المؤسسات الصغرى كما ضرب مناخ الاستثمار.

ولم تعد فرنسا وجهة استثمارية تنافسية حتى وإن تمكنت خلال النصف الأول من عام 2024 من خفض العجز التجاري ليستقر عند (-40) مليار يورو، مقارنة بـ (-45) مليار يورو خلال النصف الثاني من عام 2023، إذ إن كلفة دعم فرنسا للحرب الأوكرانية بلغت 5.2 مليار يورو (5.7 مليار دولار) متوزعة بين 3.1 مليار يورو (3.4 مليار دولار) من دعم عسكري و2.1 مليار يورو (2.3 مليار دولار) دعماً لموازنة الدولة الأوكرانية.

وفي المقابل تفيد توقعات الجهات المانحة أن 44 في المئة وحسب من الدَين الخارجي لفرنسا ترتب عن عوامل خارجية، مثل تداعيات أزمة كورونا وارتفاع أسعار الطاقة، مما يعني أن 56 في المئة منها أتت نتيجة عوامل داخلية وهي خيارات سياسية حكومية.

اقرأ المزيد