Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أنفاق "حماس" خلقت ساحة معركة جديدة لا عهد للجيوش بها

تشكل شبكة الاتصالات تحت الأرض إحدى العقبات الخطرة التي تعترض هجمات القوات الإسرائيلية داخل قطاع غزة

استخدم الجيش الإسرائيلي في البداية الطائرات والقنابل الأميركية الخارقة للتحصينات لتدمير الأنفاق (أ ف ب)

ملخص

من الواضح أن الجيش الإسرائيلي يحتاج إلى سنوات لجعل الأنفاق تحت الأرض في قطاع غزة غير صالحة للاستخدام، لكن لا أحد يعرف كم من الوقت لديه بالفعل، نظراً إلى الضغوط العسكرية والدولية المتزايدة التي ستضطره للانسحاب عاجلاً أم آجلاً، ويشكك بعض الخبراء في أن هذا ممكن.

تعد الحرب التي اندلعت بين "حماس" وإسرائيل منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 فريدة من نوعها في تاريخ الحروب القديمة والحديثة، إذ إن إحدى ساحات القتال الرئيسة تقع تحت الأرض، وتمتد تحت مدن ومخيمات وبلدات قطاع غزة وتتجاوزها إلى أراضٍ مجاورة، بحسب الخبراء العسكريين الذين يعدون استمرار مقاومة الفلسطينيين لنحو عام كامل، على رغم الحصار الخانق المضروب عليهم منذ 17 عاماً في قطاع جغرافي ضيق ويفتقر إلى الموارد الضرورية، ضرباً من الأعجوبة ولغزاً صعباً من ألغاز هذه الحرب التي لم تعرف البشرية مثيلاً لها في التاريخ.

وتشكل شبكة الاتصالات تحت الأرض إحدى العقبات الخطرة التي تعترض هجمات الجيش الإسرائيلي داخل قطاع غزة. فالممرات التي حفرها الفلسطينيون لها أغراض مختلفة وتمثل مدينة صغيرة تحت الأرض، تفشل عمليات التطهير الدموية التي تقوم بها الوحدات الإسرائيلية، فالمسلحون الفلسطينيون يخرجون من الأنفاق لمفاجأة القوات الإسرائيلية بعمليات قنص وتفجير ومكامن محكمة، ثم ينسحبون إلى داخل الأنفاق. وحين تخرج الوحدات الإسرائيلية من منطقة تعتقد أنها قامت بتطهيرها في قطاع غزة، سرعان ما يخرج المقاتلون الفلسطينيون من مخابئهم لمعاودة السيطرة عليها.

 

وعلى رغم عدم وجود خريطة مفصلة في المصادر المفتوحة لممرات الأنفاق تحت الأرضية في تربة قطاع غزة، فإن وجود نظام الأنفاق الفلسطيني في هذا القطاع معروف منذ زمن.

وأوضح أندريه زيلتين كبير المحاضرين في كلية HSE للدراسات الشرقية أن الاتصالات تحت الأرضية في الجزء الجنوبي من القطاع على الحدود مع مصر كانت موجودة قبل عام 1967، عندما احتلت إسرائيل المنطقة. ثم، بحسب المتخصص نفسه، استخدمت لتهريب البضائع من مصر عبر قطاع غزة إلى إسرائيل. وكانت قنوات التهريب هذه ذات أهمية خاصة حتى عام 2005، أي حتى انسحاب وحدات الجيش الإسرائيلي من القطاع. وأضاف، "لقد كانوا يحملون كل شيء من السجائر إلى الجوارب. لكن (حماس) بالطبع غيرت طبيعة ومهمة هذه الأنفاق إلى مستوى نوعي مختلف كثيراً، إذا حكمنا من خلال مقاطع الفيديو التي أصبحت متاحة في بعض الأحيان. هناك هياكل هندسية محصنة جيداً تسمح لساكنيها بالبقاء لفترة طويلة من دون الخروج إلى سطح الأرض".

"مترو" غزة

قامت حركة "حماس" ببناء شبكة جديدة من الأنفاق بصورة مكثفة منذ عام 2007. وهي بدأت البناء مباشرة بعد حرب أهلية قصيرة أطاحت فيها بحركة "فتح"، التي تحكم الضفة الغربية، من قطاع غزة، واستولت على السلطة. ومن المفترض أن تتكون الشبكة تحت الأرض من نحو 1300 نفق بأطوال إجمالية تراوح ما بين 400 و500 كيلومتر، بحسب تقديرات مختلفة، وللمقارنة يبلغ إجمالي طول أنفاق مترو موسكو الشهير 460 كيلومتراً.

وكان قادة "حماس" أنفسهم يتباهون بأن الطول الإجمالي للأنفاق تحت قطاع غزة يصل إلى 500 كيلومتر، وقال أحد مؤسسي "كتائب عز الدين القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس" يحيى السنوار، عام 2021، إن الطول الإجمالي للأنفاق يبلغ نحو 500 كيلومتر. على أية حال، هكذا نقلت صحيفة "جيروزاليم بوست" آنذاك كلمات السنوار الذي أصبح اليوم القائد العام للحركة. فإذا كان هذا صحيحاً، فإن طولها الإجمالي أكبر من طول أنفاق مترو موسكو.

 

وقد وردت مراراً وتكراراً في الصحافة الروسية مقارنات بين "مترو غزة" و"مترو موسكو" الذي استغرق بناؤه عقوداً طويلة، والذي يبلغ طوله الإجمالي 460.5 كيلومتراً. في الواقع، هذا هو بالضبط ما يطلق عليه الجيش الإسرائيلي عادة اسم "مترو غزة".

وتعد الشبكة الواسعة من الأنفاق والمخابئ في قطاع غزة أحد التحديات العسكرية الرئيسة للجيش الإسرائيلي الذي عجز بعد عام كامل من القتال الضاري عن تحقيق نصر واضح وجلي. وخلافاً للتوقعات، لم يتم حتى كتابة هذا التقرير سحق المقاومة المسلحة في القطاع، على رغم استخدام الجيش الإسرائيلي لأعتى وأحدث وأفتك الأسلحة الأميركية والغربية في هجومه على قطاع غزة المحاصر من كل الجهات.

الآن، بعد أكثر من 11 شهراً من الأعمال العدائية، فإن نظام الاتصالات الضخم تحت الأرض الذي أنشأه الفلسطينيون وحلفاؤهم يبقى هو الذي يؤمن "غرف" العمليات والقيادة والسيطرة لضباط "حماس" على عشرات الآلاف من مقاتليهم، والعقبة الرئيسة أمام استعادة الأسرى الإسرائيليين في القطاع المحاصر، وتحقيق النصر النهائي للجيش الإسرائيلي الذي يعد من أقوى الجيوش النظامية في المنطقة.

فكرة الأنفاق

الحاجة إلى بناء مثل هذا النظام المعقد تحت الأرض كان سببها الأكيد والواضح هو التفوق الواضح للجيش الإسرائيلي الذي يحتل المرتبة الـ18 في مؤشر القوة النارية العالمي. وللمقارنة: الجيش الألماني يحتل المركز الـ25 فحسب. في المجموع، يبلغ عدد قوات الدفاع الإسرائيلية نحو 170 ألف عسكري. و"حماس"، وفقاً للبيانات المنشورة قبل بدء الحرب في غزة، كان لديها ما بين 25 و50 ألف مقاتل. إضافة إلى ذلك، فإن الحركة الفلسطينية غير قادرة على الصمود في وجه الضربات الجوية الإسرائيلية.

بالمناسبة، استخدم الجيش الإسرائيلي في البداية الطائرات والقنابل الأميركية الخارقة للتحصينات لتدمير الأنفاق، القادرة على تدمير أضخم الهياكل. ومع ذلك، فإن مثل هذا الأسلوب يتطلب معلومات استخباراتية دقيقة ويخاطر بتعريض حياة الأسرى الإسرائيليين الذين من المحتمل أن يكونوا محتجزين داخل الأنفاق للخطر. إضافة إلى ذلك، يلعب الجانب المالي للقضية لمصلحة "حماس": على سبيل المثال، تبلغ كلفة كل قنبلة جوية من طراز BLU-109 أكثر من 20 ألف دولار.

تاريخ أنفاق غزة الحديثة

بدأت الأنفاق الحديثة في غزة بالظهور في أواخر التسعينيات وأوائل القرن الـ21 على طول الحدود مع مصر، وكانت تستخدم لتهريب الأسلحة. وخلال العملية العسكرية في قطاع غزة عام 2014، اكتشف الجيش الإسرائيلي الأبعاد الحقيقية للأنفاق. وكان هذا هو السبب وراء بناء سياج على طول الحدود مع قطاع غزة، والذي يمتد أيضاً تحت الأرض لمنع المسلحين من الخروج عبر الأنفاق إلى الأراضي الإسرائيلية.

ومشروع بناء الأنفاق تحت الأرض لأهداف عسكرية وليست تمريرية فقط بدأ عام 2007، وتنقسم الاتصالات تحت الأرض في قطاع غزة إلى ثلاثة أنواع: تلك اللازمة لعبور الحدود مع إسرائيل من دون أن يلاحظها أحد، وتلك الموجودة تحت المباني السكنية في القطاع الفلسطيني، والممرات المؤدية إلى الأراضي المصرية.

 

وتم بناء معظم الأنفاق تحت الجدار الحدودي إما يدوياً أو باستخدام أدوات بناء بسيطة، ولكن مع استيفاء المتطلبات الهندسية الأساسية للبناء بإشراف مهندسين مصريين وفلسطينيين وحتى روس من المتخصصين بإنشاءات أنفاق المترو في روسيا: هناك كهرباء وماء وتهوية، وأقبية وغرف محصنة ومعززة ومجهزة بمضخات لضخ المياه في حالة اختراق المياه الجوفية، ويوجد بالغرف ممرات ومخارج للطوارئ في حال تدمير الممرات الرئيسة. وفي غضون بضعة عقود فحسب، قام مهندسو "حماس" من جنسيات مختلفة ببناء ما يقدر بنحو 1300 إلى 1500 نفق، منها ما بين 300 و500 قيد الاستخدام حالياً.

وعند مخرج جزء كبير من هذه الأنفاق توجد منصات إطلاق صواريخ "القسام" غير الموجهة أو مواقع لقذائف الهاون عيار 120 ميليمتراً. وقد تم تجهيز كل من هذه المخارج بستارة خاصة، الجزء العلوي منها مموه ويكاد يكون من المستحيل اكتشافه من الجو.

وانطلاقاً من مفاجأة الظهور وجغرافية الهجمات، فإن جزءاً كبيراً من الاتصالات تحت الأرض يؤدي إلى جنوب إسرائيل، إلى المناطق الواقعة بين عسقلان وأشدود. وتؤدي مخارج أخرى، يعتقد أنها لا تقل عن 20، إلى مناطق شرقية مثل ريم، إذ هاجمت "حماس" زوار مهرجان "سوبر نوفا سوكوت" للموسيقى الإلكترونية، وإلى منطقة "كيبوتس ماغين" في جنوب إسرائيل. ووفقاً للبيانات الأولية، فإن جزءاً كبيراً من الأنفاق يؤدي مباشرة إلى الطرق. وعلى طول هذه المواقع، تحرك مقاتلو "حماس" المسلحون بسرعة إلى مواقع العمليات، ثم تراجعوا على طولها إلى عمق أراضي غزة بعد تلقيهم أوامر بذلك من قياداتهم المحلية يومي الثامن والتاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

ومنذ عام 2014، يستخدم الجيش الإسرائيلي قوات خاصة للقتال في الأنفاق. ولتدريبهم، تم بناء أنفاق خاصة في إسرائيل، ويستخدم نظام الواقع الافتراضي للتدريب، ويتم تدريب الجنود على العمل باستخدام أجهزة استشعار خاصة، كما تستخدم الروبوتات والكلاب المدربة بصورة خاصة.

ساحة معركة غير تقليدية

القائد الأعلى السابق لحلف شمال الأطلسي في أوروبا جيمس ستافريديس حاول تقديم تفسيره لسبب فشل الجيش الإسرائيلي، المجهز بأحدث الأسلحة، والمدعوم أيضاً بإمدادات أحدث الأسلحة من الولايات المتحدة، في هزيمة جيش صغير إلى حد ما، مجموعة من المسلحين الفلسطينيين في منطقة محتلة ومغلقة فعلياً.

وبيت القصيد، كما يعتقد ستافريديس، هو أن مقاتلي "حماس" قد خلقوا بالفعل ساحة معركة جديدة بسبب وجود شبكة أنفاق واسعة النطاق ومعدة مسبقاً في قطاع غزة. وبحسب بعض التقديرات فإن الطول الإجمالي للأنفاق لا يقل عن 500 كيلومتر، وتبلغ المساحة الإجمالية لقطاع غزة 360 كيلومتراً مربعاً (الطول 40 كيلومتراً والعرض بين ستة و23 كيلومتراً).

وفي بعض المناطق، يبلغ قطر الأنفاق ما يسمح للمركبات بالتحرك من خلالها. وتوجد مخابئ واسعة ومحصنة جيداً تحت الأرض، وغالباً ما تقع تحت مبانٍ كبيرة فوق الأرض، كما أن شبكة متاهات "حماس" تحت الأرض لديها عديد من المخارج الخفية إلى السطح. وعلاوة على ذلك، يقول الخبراء إن بعضها يقع خارج الجيب الفلسطيني، بل وعلى ما يبدو، داخل أراضي إسرائيل نفسها كما داخل سيناء المصرية.

وقال القائد الأعلى السابق لحلف شمال الأطلسي، "لقد تمكنت قوات (حماس) من خلق ساحة معركة مختلفة تماماً عن الصراع التقليدي على السطح"، إلا أنه لا يعد أن القوة شبه العسكرية الفلسطينية متخلفة في استخدام التكنولوجيا الحديثة في الحرب مع الجيش الإسرائيلي. وأضاف أن تكتيكات "حماس" إلى جانب التقنيات المتقدمة التي تعمل على تحسين فاعلية المسلحين، تشكل تحدياً جديداً للتخطيط الاستراتيجي للجيش الإسرائيلي. ووفقاً للجيش الإسرائيلي، قام المسلحون الفلسطينيون بتدريب القوات على القتال تحت الأرض باستخدام معدات الرؤية الليلية، وساعات التوقف، وأجهزة تتبع نظام تحديد المواقع GPS، وأساليب التمويه المتطورة، إضافة إلى ذلك، يتم فصل الأنفاق بأبواب وبوابات مقاومة للانفجار.

وشدد ستافريديس على "أن المسلحين المقاومين لإسرائيل والدول المارقة يمكن أن يتبعوا المسار نفسه من خلال تبني تجربة الحرب السرية التي خبرتها (حماس) في غزة على مدى عقود"، ووفقاً لهذا القائد العسكري المتقاعد في حلف شمال الأطلسي، فإن "نظام الأنفاق الأكثر تعقيداً المصمم للحرب اليوم" يقع في كوريا الشمالية، ولا يستبعد أن تكون حركة "حماس" قد استعانت بمهندسين كوريين شماليين لبناء شبكة أنفاقها المشابهة لتلك التي تملكها بيونغ يانغ على طول حدودها مع جارتها الجنوبية. ولماذا تحتاج إليها كوريا الديمقراطية، التي لديها ما يكفي من الأسلحة الأرضية الحديثة من إنتاجها، بما في ذلك الأسلحة النووية، ليس واضحاً تماماً، وربما قام الكوريون الشماليون ببناء الأنفاق منذ عقود عدة، عندما لم يكن جيشهم قوياً.

 

لكن من المرجح أن الجيش الإسرائيلي يخشى ببساطة دخول أنفاق "حماس"، ويبدو أن فكرة إغراق المتاهات تحت الأرض تحت قطاع غزة بمياه البحر، والتي تم التعبير عنها العام الماضي في إسرائيل، غير قابلة للتحقيق من الناحية الفنية.

العالم السفلي لقطاع غزة

وقبل بدء الحرب في أكتوبر 2023، ذهب ما يصل إلى 95 في المئة من إجمالي إمدادات الأسمنت إلى القطاع إلى "مترو غزة" وقدر طول الاتصالات تحت الأرض بـ400 إلى 500 كيلومتر.

لكن الجيش الإسرائيلي قدر اعتباراً من يناير (كانون الثاني) 2024 أن الطول الإجمالي لشبكة الاتصالات تحت الأرض يراوح ما بين 560 كيلومتراً و725 كيلومتراً، مع أكثر من 5700 مدخل فردي، وأنه استخدم 6 آلاف طن من الأسمنت و1.8 ألف طن من الفولاذ في بنائها.

وعثر الجيش الإسرائيلي على معدات متخصصة لحفر الأنفاق ومبانٍ تحت الأرض معدة جيداً لحصار طويل. بمعنى آخر، تم استبدال "الجحور" البدائية ذات الدعامات الخشبية منذ أوائل العقد الأول من القرن الـ21 بأنفاق ومخابئ رأسمالية جيدة التخطيط والبناء على الطراز الكوري الشمالي، مما يؤكد أن مهندسين من كوريا الديمقراطية ساعدوا حركة "حماس" و"حزب الله" اللبناني في بناء الأنفاق. وفي تلك الغرف التي تم احتجاز الأسرى الإسرائيليين فيها، لم يدخروا أي وقت أو جهد في بلاط الجدران المزخرف، بحسب ما روى هؤلاء الذين خرجوا في أول صفقة تبادل في ديسمبر (كانون الأول) الماضي.

وبالفعل خلال الأعمال العدائية، أصبح من الواضح أن شبكة الاتصالات تحت الأرض كانت أكثر اتساعاً وأكثر تقدماً من الناحية الفنية وأكثر تعقيداً مما كان متوقعاً. ولم تحتو الأنفاق على ملاجئ لقيادة المسلحين وأفراد قواتهم ومسارات للحركة السرية للأشخاص والبضائع فحسب، بل احتوت أيضاً على مراكز قيادة ومستودعات أسلحة ومرافق لإنتاج الذخيرة، وتبين أن بعض الغرف كانت كبيرة جداً بحيث يمكن أن تدخلها السيارات والشاحنات بحرية. ولم يعثر على أنفاق تحت البنايات والمساجد والمدارس فحسب، بل تحت كل مكان من الأراضي الزراعية وحتى المقابر. علاوة على ذلك، تم ربط المرافق الموجودة فوق الأرض والبنية التحتية تحت الأرض في بنية تحتية واحدة من طريق الشبكات الكهربائية والاتصالات والصرف الصحي.

"حماس" باقية ما بقيت أنفاقها

وخلال عملية "السيوف الحديدية" لم يحقق الجيش الإسرائيلي نتائج مثيرة كثيراً للإعجاب على الأرض. وبعد أن فقد مئات القتلى وأكثر من 1500 جريح منذ بدء العملية البرية (منذ نهاية أكتوبر 2023)، يدعي الإسرائيليون أنهم قتلوا نحو 13000 مسلح. صحيح أنهم دمروا في الوقت نفسه معظم المساكن والبنية التحتية، في الأقل في شمال القطاع، بالتالي، ليس لدى اللاجئين الذين تراكموا في الجنوب مكان يعودون إليه. ويقدر البنك الدولي أن البنية التحتية في قطاع غزة تعرضت لأضرار بقيمة 18.5 مليار دولار.

في الحرب السرية لم يظهر عدو الإسرائيليين بحكم الأمر الواقع في ساحة المعركة. ويعد القتال تحت الأرض تقليدياً من أصعب المعارك، فالقوة النارية والمعدات ليست مهمة جداً، ومن الواضح أن الجانب المهاجم في وضع ضعيف، لأنه ليست لديه معلومات كاملة عن ساحة المعركة ولا يمكنه إجراء الاستطلاع إلا من خلال الوجود فعلياً على الأرض وفي كل بقعة من بقاعها.

وبعبارة أخرى، فإن الجانب الفلسطيني، حتى بعد 11 شهراً من الضربات الجوية المتواصلة تقريباً، وعمليات التطهير على الأرض، والخسائر الكبيرة على ما يبدو في القوة البشرية والقوة النارية، لا يشعر على الإطلاق بأنه في وضع يائس. وبقدر ما يمكن الحكم عليه، فإن عمق الأنفاق، والتفرع والتصميم الفني للأنفاق، وإمدادات الغذاء والماء التي يتم توفيرها هناك، تسمح للقوات الفلسطينية بالبقاء تحت الأرض لأشهر عدة أو سنوات، وفي الوقت نفسه الحفاظ على الاتصال مع عالم "الخارج"، ولكن الأهم من ذلك هو أن نظام أنفاق "مترو غزة" يمثل مشكلة وليس لها حل عسكري واضح لا عند إسرائيل ولا عند حلفائها البريطانيين والأميركيين والألمان والإيطاليين والأطلسيين بصورة عام، وذلك بسبب الهيكل الداخلي المعقد متعدد المستويات لهذه الأنفاق، والذي يتطلب أحياناً، أشهراً عدة، لتدميرها بالكامل، بحسب ما قال الجيش الإسرائيلي لصحيفة "إزفيستيا" الروسية. وعلى رغم السيطرة شبه الكاملة على الجزء الشمالي من الجيب، يواصل الجيش اكتشاف أنفاق يبلغ طولها كيلومتراً واحداً، ويقاتل مجموعات صغيرة من الأعداء الذين من الصعب هزيمتهم كلياً للأسباب التالية:

أولاً، يختبئ قادة "حماس" في مكان ما تحت الأرض، وعلى الأرجح يحتجزون الأسرى الإسرائيليين الباقين هناك.

ثانياً، في المستقبل، في حالة الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من قطاع غزة، لن يتدخل أحد في ترميم الأنفاق القائمة على الأجزاء المتبقية من شبكة تحت الأرض وإقامة الثكنات والمستودعات ومنصات إطلاق الصواريخ هناك مرة أخرى. وبهذا المعنى، فإن عجز إسرائيل عن تدمير البيئة اللازمة لإعادة إنتاج الإمكانات العسكرية، أي المساحات المحمية تحت الأرض، أكثر أهمية بكثير من اعتقال أو قتل قادة "حماس".

ثالثاً، نظراً إلى أن الأنفاق لا يتم بناؤها تحت منشآت سكنية ومدنية فحسب، بل ترتبط بها بصورة مباشرة عبر ممرات وشبكات كهربائية وخدمية، فإن تحييدها لم يعد مرتبطاً بالتحديات العسكرية، بل بالتحديات الإنسانية.

وفي الوقت نفسه فإن القيمة القتالية غير القليلة للأنفاق، لم تقرب إسرائيل من تحقيق نجاح حاسم في الحرب. ولقد أظهرت "حماس"، جنباً إلى جنب مع الجماعات المتحالفة معها، نموذجاً غير مسبوق في البقاء في مواجهة عدو يتفوق عليها مرات عديدة في القوة والمعدات التقنية. وبفضل الاتصالات السرية، تحافظ الحركة على ذاتيتها، وتتفاوض على هدنة وليس لديها أي نية للاستسلام. علاوة على ذلك، تتمسك بشروط قرار مجلس الأمن الدولي لتبادل الرهائن، التي من الواضح أنها غير مقبولة بالنسبة إلى الحكومة الإسرائيلية، مثل وقف دائم لإطلاق النار، وانسحاب قوات جيش الدفاع الإسرائيلي من قطاع غزة، والسماح للمدنيين بالعودة إلى أماكن إقامتهم الدائمة. وبفضل الاتصالات السرية، تحافظ "حماس" على استقلالها، وتتفاوض على هدنة وليس لديها أي نية للاستسلام.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ما العمل؟

السؤال في حد ذاته يحمل تعقيداته، ليس من السهل اكتشاف كائن مثل نفق تحت الأرض وفحصه وتدميره أو جعله غير صالح للاستخدام. ويستخدم الجيش الإسرائيلي وسائل وأساليب تقنية معقدة للغاية ومتنوعة لهذا الغرض: بدءاً من الروبوتات التي يتم التحكم فيها من بعد وحتى الكلاب المدربة خصيصاً. على سبيل المثال، لتدمير جزء واحد فقط من نفق يبلغ طوله 2.5 كيلومتر، يتطلب الأمر 30 طناً من المتفجرات.

وقالت آنا أوكولوفا ممثلة الجيش الإسرائيلي لصحيبفة "إزفيستيا" الروسية "لاتخاذ قرار بتفجير نفق معين، من الضروري جمع المعلومات والتحقق منها بعد دراستها من أجل صياغة خطة لتدميرها"، وكشفت أوكولوفا عن أن خطة إسرائيل لإغراق الأنفاق باستخدام محطات ضخ قوية تضخ مياه البحر فشلت. في البداية، افترض بعض الممثلين الإسرائيليين أن هذه الطريقة ستكون الأكثر فاعلية وستستغرق بضعة أسابيع فحسب، لكن في الممارسة العملية، تحول كل شيء بصورة مختلف، ولا تعد الفيضانات في بعض الأحيان الطريقة الأنسب نظراً إلى تعقيد البنية الداخلية للبنية التحتية تحت الأرض في أماكن معينة، بدءاً من عمق وعرض كل نفق إلى وجود عدد هائل من الألغام متعددة المستويات، بحسب ما أوضحت أوكولوفا التي أكدت أنه "تم القضاء على كل الأنفاق التي اكتشفناها بطريقة أو بأخرى. لدى بعضها بنية داخلية معقدة، ما يجعل إغراقها بلا معنى". وأضافت "قامت إحدى الوحدات بصب الماء في هذا النفق لمدة ثلاثة أيام، ولكن من دون جدوى".

وفي بداية مارس (آذار) الماضي تم تفجير أكبر نفق للحركة في التاريخ من حيث العرض والعمق، والذي تم اكتشافه في شهر ديسمبر الماضي، وتم صب الخرسانة عليه. وكان يقع على بعد 400 متر فقط من الحدود الإسرائيلية، وأقصى عمق له يصل إلى 50 متراً (ارتفاع مبنى مكون من 15 طابقاً)، ما يجعل مهمة تدميره بالغارات الجوية غير قابلة للتطبيق تماماً.

وأوضح رائد إسرائيلي، وهو ضابط في الوحدة الهندسية في "فرقة غزة" "أن العملية التنفيذية لتحديد موقع الأنفاق ليست عملية سهلة ولا قصيرة. فرسم الخرائط والاستطلاع والتدمير هي عملية معقدة تتطلب كثيراً من الوقت والموارد". وأضاف "تتفرع أنفاق (حماس) في اتجاهات عدة أسفل شمال قطاع غزة، هي في الأساس تشكل نظاماً كاملاً متكاملاً تحت الأرض، مزوداً بالكهرباء والاتصالات والهاتف والصرف الصحي. يمكن إغلاق الأجزاء الفردية بأبواب مدرعة، وهي مصممة خصيصاً لمنع الجيش الإسرائيلي من دخول النفق". وتابع "نحن نعلم أن هذا كان المشروع الرئيس لعائلة السنوار، وكان يقود العمل في هذا المشروع محمد السنوار، شقيق يحيى السنوار"، وعلى حد قوله، فقد تم بناء عديد من الأنفاق بهدف تنظيم غارات على الأراضي الإسرائيلية.

وقال الرائد الإسرائيلي أيضاً "يتعلم الجيش الإسرائيلي من مثال الأنفاق المكتشفة لأنه بفضل اكتشافها، تمكن الجيش من فهم تعقيدات الأصول الاستراتيجية لـ(حماس)، والتي يمكننا من خلالها معرفة كيفية بناء الأنفاق واستخدامها. يمكننا استخدام هذه المعرفة في أماكن أخرى".

فلا تزال أنفاق "حماس" تشكل مشكلة كبيرة لإسرائيل وللولايات المتحدة وللوسطاء الدوليين في صفقة التبادل العاجزين عن الضغط على الحركة المحتمية داخل أنفاقها، لأنها هذه الأنفاق توفر ميزة سياسية استراتيجية في انتظار الوقت المناسب. ومن الواضح أن الوقت يعمل ضد إسرائيل، استناداً إلى حقيقة أن الوضع الإنساني للأسرى في قطاع غزة سيزداد سوءاً، وسوف تتزايد الخسائر في صفوف المدنيين.

ولا يوجد سيناريو واقعي لاستعادة الأسرى الإسرائيليين عسكرياً، وتقليل الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين في الوقت نفسه (وهو ما يطالب به شركاء إسرائيل الدوليون)، وتحقيق الأهداف الرئيسة للحملة العسكرية برمتها التي أعلنتها الحكومة الإسرائيلية، وهي إطلاق جميع الرهائن الذين تم أسرهم أثناء هجوم السابع من أكتوبر 2023، مع تدمير "حماس" كقوة عسكرية سياسية في الوقت نفسه.

ويجب أن يؤخذ في الاعتبار أن الجيش الإسرائيلي الذي شن هجوماً دموياً سخر له كل قدراته والمساعدات الأميركية الفتاكة المقدمة له، يحتفظ بالسيطرة المباشرة على مناطق صغيرة نسبياً في غزة، بعد أن اضطر إلى سحب كثيرين من عسكرييه، منذ فترة طويلة، من مناطق أخرى، وتوجيههم نحو الضفة الغربية والحدود الشمالية، وتحول شكل العمليات القتالية خلال الأشهر القليلة الماضية إلى عمليات غارات موضعية، ولكن انطلاقاً من حقيقة ظهور المسلحين بصورة دورية في المناطق التي يبدو أنه تم تطهيرها بالفعل، ولا سيما في مستشفى "الشفاء" نفسه، وإعلان الجيش الإسرائيلي بانتظام عن اكتشاف أنفاق جديدة، فإن وظيفة طرق الاتصالات المخفية تحت الأرض لا تزال قائمة.

ولحل المشكلات ذات الصلة، تشارك وحدة القوات الخاصة التابعة لقوات الهندسة "يالوم"، ووحدة الكلاب البوليسية "أوكيتس". ومن المعروف أن إسرائيل حاولت إغراق جزء من الأنفاق بمياه البحر خلال عملية "أتلانتس" باستخدام المضخات، لكن النتيجة لم تكن كما كان متوقعاً.

ووفقاً لمصادر استخباراتية إسرائيلية وأميركية، اعتباراً من يناير 2024، تضرر ما بين 20 و40 في المئة من شبكة الهياكل تحت الأرض بأكملها في قطاع غزة، أو أصبحت غير صالحة للاستخدام. ولم يتم الكشف عن البيانات الرسمية حول هذه المسألة عمداً، وبما أنه منذ يناير (كانون الثاني) 2024 نفسه انتقلت القوات الإسرائيلية من مرحلة المناورة في الحرب إلى عمليات الاجتياح والغارات الفردية، فمن غير المرجح أن يكون هذا الرقم قد ارتفع بصورة حادة.

ومن الواضح أن الجيش الإسرائيلي يحتاج إلى سنوات لجعل الأنفاق تحت الأرض في قطاع غزة غير صالحة للاستخدام، ولكن لا أحد يعرف كم من الوقت لديه بالفعل، نظراً إلى الضغوط العسكرية والدولية المتزايدة التي ستضطره للانسحاب عاجلاً أم آجلاً، ويشكك بعض الخبراء في أن هذا ممكن. وبناءً على ذلك، بالنسبة لقادة "حماس"، فإن استراتيجية الانتظار في الأعماق حتى وقت يجبر فيه مسلحوهم والضغوط الدولية الإسرائيليين على الرحيل، من أجل الصعود بعد ذلك إلى القمة كمنتصرين، تبدو قابلة للتطبيق تماماً.

المزيد من تحقيقات ومطولات