Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نابشو القمامة في لبنان... مشهد "اعتيادي" صنعته الأزمة

يسهمون في فرز النفايات وتأمين مواد خام قليلة الكلفة للصناعة المحلية لكن أعمالهم تخلو من إجراءات الوقاية

سرعان ما تكيّف الناس مع هؤلاء، بل أصبح البعض يجمع العبوات والأواني البلاستيكية من أجل منحهم إياها (أ ف ب)

ملخص

احتاج المجتمع اللبناني بعض الوقت إلى التصالح مع هؤلاء النباشين الذين يخرق صوت عرباتهم سكون الليل، فيما يستمر حذر كثيرين من أصحاب المهن الدنيا، إذ اعتاد المجتمع على وصم الأشخاص الضعفاء وأصحاب المظهر المتواضع بكثير من الشبهات

ما إن يحل الظلام حتى ينتشر النبّاشون بين الأحياء في لبنان، يبحثون في حاويات النفايات عن مواد صالحة لإعادة التدوير أو الاستخدام الصناعي. برز هؤلاء خلال العقدين الأخيرين وكانت أعدادهم بالآحاد، لكنها آخذة بالارتفاع، فبات الأمر بمثابة مصدر دخل مساعد إلى جانب مهنتهم الأساسية.

مهنة شريفة

احتاج المجتمع اللبناني بعض الوقت إلى التصالح مع هؤلاء النباشين الذين يخرق صوت عرباتهم سكون الليل، فيما يستمر حذر كثيرين من أصحاب المهن الدنيا، إذ اعتاد المجتمع على وصم الأشخاص الضعفاء وأصحاب المظهر المتواضع بكثير من الشبهات، وقد يثير عملهم الريبة في ظل مخاوف من انفلات أمني وتزايد أعمل السلب والسرقة، لكن سرعان ما تكيّف الناس مع الوضع، بل أصبح بعضهم يجمع العبوات والأواني البلاستيكية من أجل منحهم إياها.

مع ساعات الفجر يخرج عمر الشاب الثلاثيني من منزله يجر عربة قديمة، ويجول بين الأحياء باحثاً عن العبوات البلاستيكية الفارغة، ويمضي وقتاً طويلاً في عملية البحث ويضطر إلى النبش داخل الحاويات، وأحياناً فتح أكياس النفايات المنزلية من أجل العثور على قطعة يضيفها إلى جعبته.

 

 

يقضي عمر النهار بأكمله إلى أن يملأ العربة ويشبّه البحث في الحاويات بالبحث في المجهول لأنه "لا أحد يعلم أين يوجد رزقه، لذلك عليه بذل الجهد"، ويضيف أن الحظ يقوم بدور كبير، ففي بعض الأحيان لا يتمكن من تأمين حمل واحد، وفي أحيان أخرى يكون الرزق وفيراً".

لم يلجأ عمر إلى العمل نباشاً رغبة منه في البحث بين الحاويات، وإنما بسبب الحاجة إلى عمل، ويقول "نحن أبناء بيوت عز، وكان وضع والدي ممتازاً، ولكن شاءت الأقدار أن أفلس الوالد، ولم يعُد لدينا مصدر دخل كافٍ". 

يكرر عمر أن عمل النباش لا يحقق الثروة ولكنه يستر، فهو يعيل ثلاثة أفراد آخرين، "في بعض الأحيان نؤمن ثمن مأكلنا ومشربنا، وفي أيام أخرى لا نتمكن من ذلك".

يعيش عمر رب العائلة الخوف من المستقبل، فهو على غرار المياومين في لبنان لا يمتلك الضمان ولا يخضع لمظلة حماية اجتماعية، بالتالي فإن الخوف من المرض والتقاعد أمر شديد الوطأة عليه. ويلفت إلى تخصص ضمن عمل النباشين، فبعضهم يعمل في جمع البلاستيك وآخرون في الكرتون، أو الأخشاب، فيما يقتنص فريق ثالث الفرصة ويلتقط بعض قطع الأنتيكات التي تخلى عنها أصحابها، أو حتى الكتب والمفروشات والملابس. ويقوم هؤلاء بتوريد المواد الأولية لمراكز تجميع الخردة المنتشرة في المناطق اللبنانية كافة.  

دور بارز في الفرز

يقوم النباشون بدور أساسي في فرز النفايات في لبنان، ونجحت هذه الشريحة حيث فشلت الدولة والمجتمع، إذ يسهم هؤلاء في إعادة تدوير كمية هائلة من النفايات المنزلية، ويؤمنون مواد أولية من مصدر محلي للمصنعين العاجزين عن الاستيراد بسبب أزمة الودائع وصعوبة تأمين الدولارات. لكن يؤخذ عليهم عدم استخدام الوسائل الكافية لحماية صحتهم من الجراثيم، أو حتى الوقاية من حوادث السقوط في المكبات.

يقرن الصناعي محمد إبراهيم بين بداية الأزمة الاقتصادية وازدهار عمل النباشين في لبنان، إذ ساعد في ذلك عدم انتظام أعمال الفرز التي تولتها البلديات والشركات الخاصة، ويضيف أن "انهيار سعر صرف الليرة مقابل الدولار أسهم في التشجيع على أعمال النبش، ففي السابق كانت المئة دولار تساوي 150 ألف ليرة لبنانية، أي إنه مبلغ متواضع مقارنة بالدخل في حينه. أما حاضراً فقد انتشر الأمر في أوساط العاطلين من العمل والباحثين عن مصدر دخل إضافي في ظل دولار يساوي 90 ألفاً أي 60 ضعفاً". 

ويؤكد المتخصص البيئي جلال حلواني من جهته أن لعمل النباشين نواحي إيجابية وأخرى سلبية، فهو يسهم في تخفيف كمية النفايات التي تتجه إلى المطامر، كما يدعو المواطنين إلى القيام بأعمال الفرز من المصدر، ويبرهن لهم على إمكان إعادة تدوير جزء كبير من النفايات. ويجزم أن "أكثر من 70 في المئة من النفايات غير العضوية قابلة للتدوير، ويمكن إعادة استعمالها أو استخدامها كمواد أولية تدخل في تصنيع منتجات أخرى".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشير حلواني إلى أن "النبش في النفايات غير العضوية" ليس أمراً جديداً، إذ برز في الأوساط الفقيرة بوصفه مصدر رزق وفرصة عمل للمعوزين، مضيفاً  أن "نظام الحاويات المكشوفة يشجع على البحث في النفايات عن مواد يمكن إعادة بيعها للمصانع التي تشتري الكرتون أو التنك أو البلاستيك. وهذا الشيء ممنوع قانوناً من ناحية مبدئية لأنه يخالف قواعد الصحة والسلامة العامة، فيتعرض النباشون للعدوى ويسهمون في نقل أمراض إلى محيطهم، كما أنه من الناحية الجمالية يثير حفيظة المواطنين، لكن في لبنان تغض الجهات الرسمية النظر عنه بسبب الفقر المنتشر".

يتحدث حلواني الذي شغل منصب رئيس لجنة البيئة في بلدية طرابلس خلال الفترة الماضية، عن طلب الشركة المشغلة لمطمر النفايات في اتحاد بلديات الفيحاء "منع النبش في النفايات لأن التعاقد يقوم على دخول عدد محدد من الأطنان يومياً إلى المكب، وفي حال تراجع الكمية عن الحد المتفق عليه يتراجع دخلها".

ويؤكد أن هناك منعاً لدخول المطمر إلا بإذن، لكن كان هناك توافق بين اتحاد البلديات والشركة لغض النظر عن دخول بعض المجموعات من النباشين لأن ذلك يسهم في تخفيف كمية النفايات المطمورة، ويقلل من ارتفاع الجبل – المطمر، كما أنه يساعد بعض الفقراء في تأمين دخل إضافي من جمع الحديد والبلاستيك والكرتون.

ويذكّر حلواني بالبروتوكولات الصحية المعتمدة في معامل فرز النفايات، حيث يطلب من عمال الفرز لبس القفازات والكمامات لوقايتهم من أي خطر والخضوع لمراقبة صحية دورية منعاً لأية إصابة، منبهاً من أن النباش على تماس مباشر مع أنواع مختلفة من النفايات الخطرة التي قد تتضمن نفايات طبية، أو مأكولات عفنة، وأنواعاً مختلفة من الجراثيم.

البور الناشطة

يسهم النباشون في تنشيط عمل "البُوَر" ومراكز التجميع في لبنان التي تزايدت أعدادها كثيراً خلال الفترة الماضية، ويلجأ هؤلاء إما إلى تصدير المواد الأولية المجمّعة إلى الخارج، أو بيعها للمصانع المحلية.

ويلفت خالد صهيوني، صاحب بورة في البداوي، إلى أن العمل يتركز على إعادة تدوير النفايات غير العضوية التي يقوم بجمعها النباشون بواسطة القطارات – العربات التي تجول في المناطق، إضافة إلى معامل فرز النفايات، حيث تُصنف المواد إلى فئات.

تتفاوت أسعار تلك المواد، فيبلغ سعر طن التنك والحديد 250 دولاراً أميركياً. أما البلاستيك فثمن الطن 110 دولارات، وطن القناني الشفافة 260 دولاراً والكرتون فقرابة 70 دولاراً أميركياً.

 

 

ويلاحظ صهيوني تزايداً في أعداد جامعي الخردة، ففي السابق كان الأمر يقتصر على النباشين ومعامل الفرز، أما حالياً فقد بدأ بعض أرباب البيوت والمؤسسات بتجميع تلك المواد، ومن ثم الإتيان بها لبيعها إلى أصحاب البورة.

بعد تجميع تلك المواد يتم فرمها داخل البور، وتباع لاحقاً لمصانع البلاستيك التي تنتج العلب لتعبئة الخضراوات والفواكه. أما عبوات البلاستيك المفرومة فتُصدر إلى تركيا، فهناك طلب كبير عليها لاستخدامها في صناعة الخيطان والملابس. كما أن السوق المحلية تستورد "أمبولات" جاهزة من الخارج، ويتم نفخها في لبنان من أجل إعادة استخدامها.

ويعتبر صهيوني أن هذه مهنة دائمة وتؤمن دخلاً لعدد كبير من العائلات التي تجمع الخردة. وعلى رغم تراجع السوق المحلية بسبب ضعف التصنيع، فإن التعويل يبقى على السوق الخارجية.

مواد أولية منافسة

يضع الصناعي محمد إبراهيم موضوع الفرز وإعادة التصنيع في خانة القضايا الشائكة في لبنان، ويتحدث عن إمكان الاستفادة من أنواع النفايات كافة ومعالجتها، فتلجأ بعض الدول مثل ماليزيا إلى المحارق الصحية للبقايا. ويتحدث عن تزايد في الطلب على أعمال النباشين نظراً إلى حاجة الصناعيين للمواد الأولية المنافِسة، إذ إنهم تكبدوا خسائر كبيرة بسبب انهيار سعر الصرف وغلاء ثمن المحروقات والكهرباء من جهة، ومن جهة أخرى يتزايد الطلب على تصدير هذه المواد البلاستيكية المعاد تصنيعها إلى الخارج، تحديداً إلى تركيا وأفريقيا، مما أدى إلى ارتفاع أسعار الطن من 100 – 150 إلى قرابة 250 دولاراً أحياناً بحسب جودة البضاعة.

وأسهم ذلك، بحسب إبراهيم، في مساعدة الشركات المتوسطة غير القادرة على شراء خط الإنتاج المتكامل Hotwash، والانتقال إلى شراء خطوط الصناعة البسيطة coldwash التي تكتفي بالحصول على البلاستيك من النباشين، وتقوم بفرمها وغسلها وتنظيفها من الشوائب، ومن ثم بيعها إلى المصانع الأكبر، أو تصديرها إلى تركيا لإعادة تصنيعها بمعايير جودة عالية. واشتكى من الرسوم الجمركية العالية المفروضة على الصناعي اللبناني والاستنزاف المستمر لقطاع الصناعة بسبب غياب السياسات المنصفة، وعدم توافر إعفاءات أو دعم من أجل المنافسة الداخلية والخارجية.

اقرأ المزيد

المزيد من العالم العربي