ملخص
لئن كنا قد أشرنا إلى مناسبتين في كتابات دا فنشي وجه فيهما نقداً "جارحاً" لرفيقه، فإن ذكر الأخير للأول يبدو أكثر إيجابية بكثير في صفحات أخرى بقلم دا فنشي حسد كثر من الفنانين الشباب بوتيتشيلي عليها، متمنين لو حظوا هم بمثلها. ففي نهاية الأمر لم يورد دا فنشي تلك الملاحظات إلا لاحقاً حين بات نجماً لامعاً في عالم الفن، بينما تبدلت أحوال بوتيتشيلي وغاب ذكره. وفي هذا ما فيه من دلالة على أية حال.
كان من المتوقع للمعرض الكبير والتاريخي الذي أقيم قبل عام ونصف العام في باريس، لأعمال ساندرو بوتيتشيلي (1445-1510) أن يكشف السر الحقيقي الذي جعل هذا الفنان النهضوي الكبير، الذي كان من شأنه أن يعد كبير الكبار في عصر النهضة الإيطالية، ولا سيما في فلورنسا، يتوقف عن الرسم ذات يوم من دون أن يبرر موقفه أو حتى من دون أن يتناقش في شأنه مع رفاقه ولا حتى مع رفيقه الأكبر ليوناردو دا فنشي الذي كان، من ناحيته، ينظر إليه على أنه صديق لدود على رغم أنه كان يكبره بسنوات عدة. وكان السؤال الأساس هنا يتعلق، ولا سيما بعد رحيل بوتيتشيلي، بما إذا كانت انتقادات وجهها دا فنشي إلى رفيقه هي التي دفعت هذا الأخير إلى وداع الفن مرة وإلى الأبد، فكانت النتيجة أن نسي تماماً، وفي الأقل حتى ظهور تيار "الما - قبل - رافائيليين" الذين أعادوا اكتشافه، ومنحوه مكانة لا تضاهى في تاريخ تيارهم الذي كان من سماته رفض كل ما بدأ مع رافائيل خاتماً عصر بوتيتشيلي.
انتقادات ليوناردو
مهما يكن من أمر، تقول الحكاية في هذا الجانب، إن دا فنشي قد وجه، في مدوناته، انتقادات قاسية إلى بوتيتشيلي تتعلق، بخاصة، بقضية المنظور الذي كان صاحب لوحة "موناليزا" يعيره أهمية كبرى، ويرى أن زميله مقصر فيه. ومن هنا نجده يقول له مؤنباً في إحدى الملاحظات التي اشتهرت لاحقاً "اسمع يا ساندرو، أنت لا تقول لنا لمَ هذه الأشياء الثانوية المرسومة في الصف الثاني من مسطح لوحاتك تظهر في مكان من اللوحة وكأنه أوطأ من أشياء الصف الثالث"، أو ذلك المقطع الذي يسخر فيه ليوناردو من لوحة "بشارة العذراء" التي رسمها بوتيتشيلي لعائلة غواردي في عام 1490، قائلاً له "لقد حدث لي أن شاهدت في يوم من الأيام، على مسطح لوحتك البشارة، ملاكاً يظهر وكأنه يطرد سيدتنا العذراء من غرفتها أو يحاول فعل ذلك في الأقل، مظهراً في مواجهتها حركات وتصرفات غريبة وغاية في القسوة والعنف، تشبه حركات قد يبديها الشرير تجاه واحد من ألد أعدائه، بينما تبدو السيدة العذراء وكأنها راغبة في رمي نفسها من أعلى شباك يمكنها الوصول إليه".
شاهد "الموناليزا" وفقد رشده
والحقيقة أننا إذا أضفنا إلى هذا ما يقوله مؤرخ الفنون النهضوية جورجيو فازاري من أن بوتيتشيلي قد توقف عن الرسم وهو في سن الشباب، أو في عمر يحاول فيه الفنانون الاستفادة مما بلغوه من شأن ومكانة، معلناً، في الوقت نفسه، أنه لم يعد راغباً طوال ما تبقى له من العمر في أن يرسم أي شيء والكف عن ممارسة الرسم تحديداً منذ اللحظة التي وقع فيها نظره على لوحة "موناليزا" لدا فنشي نفسه، مدركاً أنه لن يتمكن أبداً من مضاهاتها، وقرر أنه لن يمارس فن الرسم بعد ذلك أبداً، غير أن هذا كله لا يمكنه أبداً أن يلغي الفرضية الأخرى التي أشرنا إليها أعلاه وتتعلق بالداعية سافونارولا. فالواقع أن ثمة كثراً من المؤرخين يؤكدون أن بوتيتشيلي قد وقع، خلال المراحل الأخيرة من حياته، تحت تأثير ذلك الداعية المتطرف والرجعي إلى حد بعيد، والذي تفاقم نفوذه واستشرت رجعيته في تلك المرحلة، وكان من بين أخطر الأفكار التي نشرها في تلك الحقبة النهضوية الرائعة، فكرة ينادي فيها بأن الفن حرام والرسم نفسه رجس من فعل الشيطان. وكان من نتيجة تأثير سافونارولا على بوتيتشيلي أن هذا الأخير لم يكتف بالتوقف عن الرسم، بل وصل أيضاً إلى حد التبرؤ من كل لوحاته التي صور فيها فينوس وكاد يدمرها لولا تدخل أصحابه فاكتفى بأن استحلفهم بأن يبقوها بعيدة من ناظريه. ومن هنا يفسر، على أية حال، سر اختفاء معظم لوحات هذا الفنان الكبير حتى بدايات القرن الـ19 إذ أعاد "الما - قبل - رافائيليين" اكتشافه كما أسلفنا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تلميذان في محترف واحد
على أية حال، كل هذا يبدو بعيداً اليوم، وتتوالى المعارض والمناسبات التي تعيد الاعتبار إلى بوتيتشيلي وفنه، وتعاد رواية حكايات صداقته مع دا فنشي وهي صداقة نمت بكل محبة وإخلاص حين تعارف الرسام اليافع الملقب بـ"البرميل الصغير" (بوتيتشيلي)، إلى درجة نسي معها الناس اسمه الحقيقي، أليساندرو فيليبيبي، على ليوناردو الرسام الموهوب الذي يصغره بما لا يقل عن ثماني سنوات، والذي كان قد انضم إليه في محترف الفنان الرائد فيروكيو الذي سيتخرج على يديه بعض كبار فناني تلك المرحلة. وكان بوتيتشيلي قد سبق دا فنشي إلى المحترف، كما كان قد سبق له أن تدرب في عديد من المحترفات، ولكن ليس في مجال فن الرسم وحسب، بل إن تدريبه الأول كان لدى صائغ مجوهرات من أشهر حرفيي ذلك الزمن. ويروي فازاري أن إلحاق بوتيتشيلي بالصائغ كان من بنات أفكار والده الذي "كان قد ضاق ذرعاً بمخيلة ابنه الواسعة، والتي لا تتوانى عن خرق المحرمات". ولعل اللافت في تلك المسيرة هو أن بوتيتشيلي، على رغم بعده، أول الأمر، عن عالم الرسم وصغر سنه، تمكن بسرعة من إيجاد طرق قربته من أشهر فناني ذلك الزمن ما مكنه في عام 1464 من تغيير خطواته، ملتحقاً بمحترف الرسام المعلم فرا فيليبو ليبي الذي كان من المقربين من الحاكم كوزما دي مديتشي، كما كان واحداً من أشهر الفنانين الفلورنسيين. ولقد كان بوتيتشيلي، من الشطارة والموهبة بل حتى من الدهاء، إلى حد أنه لم يمض على وجوده لدي ليبي ثلاث سنوات حتى بات معاونه الرئيس، لينتقل بتلك الصفة نفسها إلى محترف فيروكيو. وهناك تم لقاؤه "الحاسم" بحسب تعبير فازاري، مع ليوناردو الذي تمكن، بدوره، من الالتحاق بالمحترف نفسه.
تعاون فانتقاد فتكريس
وعلى رغم فارق العمر بين بوتيتشيلي ودا فنشي، ربطت الصداقة بينهما منذ لقاءاتهما الأولى داخل المحترف وخارجه، بل ثمة مصادر موثوقة تفيد بأنهما تشاركا في لوحة عنوانها "عمادة السيد المسيح"، ستنسب دائماً إلى فيروكيو، لكن بوتيتشيلي عاونه فيها، ناهيك بأن مصادر عديدة تشير إلى أن دا فنشي عاون هذا الأخير في اشتغاله عليها، وكاد يعد شريكاً له فيها لولا صغر سنه. ولربما يمكننا هنا أن نقول إن دا فنشي لم يكن راضياً عن الدور الصغير الذي لعبه في رسم تلك اللوحة الجماعية التي كانت بالغة الشهرة في ذلك الحين، فاغتاظ من بوتيتشيلي معتبراً إياه أنه كان هو من أبعده عن البروز في ذلك النشاط المبكر بالنسبة إليه. ولربما يعود إلى ذلك الغيظ القديم موقف دا فنشي السلبي من بوتيتشيلي وانتقاداته اللاذعة له. لكن هذا لا ينبغي أن ينسينا أن تأثير بوتيتشيلي على دا فنشي لا يمكن نكرانه بأية حال من الأحوال، بدءاً من لوحة أخرى عن "البشارة" رسمها ليوناردو وحده، هذه المرة، لكنه كشف فيها عن عمق تأثره المبكر برفيقه القديم، ولا سيما من خلال ما يمكننا ملاحظته بقوة من تموجات أسبغها دا فنشي على شخصية الملاك، الذي ينقل الخبر السعيد إلى "العذراء"، بصورة تجعل من تلك التموجات عنصراً سيكولوجياً شديد الأهمية في تصوير قلق العذراء ثم سعادتها بالخبر، وهو عنصر ليسوا قلة أولئك المؤرخون والنقاد الذين يعدونه قمة ما يمكن لدا فنشي الإقرار به من عمق تأثير بوتيتشيلي فيه. ولعل في مقدورنا هنا أن نلفت النظر إلى أن دا فنشي، عدا عن ذلك "الاعتراف" الموارب بأستاذية بوتيتشيلي له، خص هذا الأخير، ومن دون مجمل رفاقهما، في محترف فيروكيو بالذكر مرات عديدة في دفاتره وكتاباته. ولئن كنا قد أشرنا إلى مناسبتين في كتابات دا فنشي وجه فيهما نقداً "جارحاً" لرفيقه، فإن ذكر الأخير للأول يبدو أكثر إيجابية بكثير في صفحات أخرى بقلم دا فنشي حسد كثر من الفنانين الشباب بوتيتشيلي عليها، متمنين لو حظوا هم بمثلها. ففي نهاية الأمر لم يورد دا فنشي تلك الملاحظات إلا لاحقاً حين بات نجماً لامعاً في عالم الفن، بينما تبدلت أحوال بوتيتشيلي وغاب ذكره. وفي هذا ما فيه من دلالة على أية حال.