ملخص
فاز الكاتب الجزائري المقيم في باريس كمال داوود (مواليد 1970) بجائزة غونكور لسنة 2024 عن روايته "حوريات" أو "الحور العين" الصادرة عن دار غاليمار، والتي لم تترجم بعد إلى اللغة العربية. وتسببت الرواية بمنع دار غاليمار من المشاركة في معرض الكتاب في الجزائر المزمع تنظيمه بدءاً من يوم غد الأربعاء لأنها تفتح ملف مرحلة سوداء من التاريخ الجزائري المعاصر.
صرح الروائي الفرنكوفوني كمال داوود بأن روايته تعيد الاعتبار للمنسيين من ضحايا الحرب الأهلية التي شهدتها الجزائر خلال التسعينيات واستمرت إلى مطالع الألفية الجديدة. وقد استفاد من خبرته الصحافية، حيث قضى سنوات يشتغل في تحقيق صحافي مطول عن المجازر التي عرفتها مرحلة التسعينيات في الجزائر بسبب الصراع بين النظام وفصائل تابعة لحزب جبهة الإنقاذ.
وفاز الكاتب الجزائري في تحكيم جائزة غونكور، بستة أصوات من أصل 10 من المحكمين، عاد منها صوتان للفرنسية إيلين غودي، وصوت واحد لكل من الفرنسية ساندرين كوليت والرواندي غاييل فاي. واللافت أن المنافسة لم تكن سهلة، فغاييل فاي يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الثقافية في فرنسا، وقد باعت روايته "جاكارندا" 173 ألف نسخة. وهي رواية تتقاطع مع رواية داوود، لكونها تسرد تفاصيل مجازر الإبادة الجماعية التي وقعت في رواندا.
تنتقد الرواية المتوجة المادة 46 من القانون الذي وضعته السلطات الجزائرية "ميثاق السلم والمصالحة" الذي يعاقب بموجبه ما سمته "استغلال جراح المأساة الوطنية" في الكتابة والتصريحات. بالتالي أغلقت، من الوجهة القانونية، أبواب النبش في هذه المرحلة.
وكان الكاتب الجزائري قد غادر بلاده العام الماضي واستقر في باريس، بعد أن تراكمت عليه ضغوط بسبب مواقفه، وتفجر الوضع بعد دعوته الرئيس الفرنسي ماكرون لتناول العشاء في مطعم بوهران على هامش زيارته الرسمية للجزائر، ما أغضب النظام الذي رأى في ذلك إهانة له، وعمل على إغلاق المطعم الذي شهد هذا اللقاء الخاص بين الرئيس الفرنسي وصاحب رواية "تحقيق مضاد" ليتتالى الهجوم عليه في الصحافة الرسمية من مداخل مختلفة.
ويقف الجزائريون على طرفي النقيض من تجربة كمال داوود، فهناك من يرى أنه يمارس نقداً موضوعياً لأحوال بلاده، بالتالي يمارس واحدة من أنبل وظائف الأدب. وهناك في المقابل من ينعته بالخيانة، لأنه يعري الجراح الجزائرية للفرنسيين، هو الذي سبق له أن أدلى بتصريح انتقده كثر، إذ قال "أنا فرنسي أكثر من الفرنسيين".
وعقب الإعلان عن فوزه بجائزة غونكور كتب كمال داوود على صفحته في منصة "إكس"، "إنه حلمك الذي دفعت ثمنه سنوات عمرك، إلى والدي المتوفي، إلى أمي أيضاً التي لا تزال على قيد الحياة، والتي لم تعد تتذكر شيئاً مما مضى. لا توجد كلمة تعبر عن الشكر الحقيقي".
عشرية سوداء
شبهت صحيفة "لوفيغارو" رواية داوود بـ"قوة الوادي الذي غمره الفيضان بعد عاصفة رهيبة تسمى الحرب الأهلية". وتبدو رواية "حوريات" كما لو أنها نوع من المكاشفة المنسابة، والتي تستغرق 416 صفحة، تتوجه فيها البطلة "فجر" باعترافاتها إلى أنثى لا تسمعها بالضرورة، فهي تسرد معاناتها الطويلة على الطفلة التي تحملها في بطنها. كما لو أن الماضي بعذاباته ومحنه يخاطب المستقبل بما رهو رمز للأمل والتغيير، لكن اليأس هو ما يقطع هذا الخطاب. فالأم تفكر في أن تمنع الجنين من الخروج إلى الحياة، لأنها تتوقع أن هذه الحياة ستقسو على ابنتها وتجرح هشاشتها.
ترصد الرواية تفاصيل الصراع الدموي الذي قام بين النظام الجزائري والفصائل الموالية للجبهة الإسلامية للإنقاذ خلال ما يسمى "العشرية السوداء"، عقب إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية لسنة 1991، والتي حققت فيها الجبهة فوزاً كبيراً ووعدت بإنشاء دولة دينية، لكن تدخل الجيش، من أجل عدم السماح لحزب الإسلاميين بالتحكم في مصير البلاد واعتقال عدد كبير من المنتمين إليه، دفع أنصار هذا الحزب إلى الرد بعنف على هذا التدخل، فتعاقبت المجازر في ثلاث مناطق كانت تسمى "مثلث الموت"، هي الجزائر والبليدة والأربعاء، وأودت بحياة الكثيرين، إذ كانت الأرقام مهولة، فمجزرة ولاية غليزان الرمكة مثلاً عرفت قتل 1280 مدنياً في ليلة واحدة، إضافة إلى نحو 20 مجزرة في مناطق أخرى كان تراوح أعداد ضحايا كل واحدة منها بين العشرات والمئات من المدنيين.
ضد النسيان
تقول فجر، "أنا الأثر الحقيقي والدليل الأقوى الذي يشهد على كل ما عشناه خلال 10 سنوات في الجزائر. أخفي تاريخ حرب برمتها، منقوشاً على جلدي منذ أن كنت طفلة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبدأ معاناتها منذ تعرضها للذبح من قبل إرهابيين في شمال غربي الجزائر نهاية التسعينيات، في مذبحة شنيعة زهقت فيها أكثر من ألف روح، لكن الطفلة التي لم تتجاوز عامها السادس نجت من هذه الجريمة، لكنها تعرضت لضرر بليغ على مستوى حبالها الصوتية، وظلت الندبة الكبيرة على عنقها ذكرى سيئة عن تلك المرحلة المظلمة من تاريخ الجزائر. فقدت فجرها صوتها، لذلك تبدو في رواية "حوريات" كما لو أنها تبحث عن صوت جديد، صوت آخر قادر على مواصلة النقد والترافع ضد الظلم والبشاعة، صوت يرفض ما أقدمت عليه البلاد من عفو عن السفاحين الذين لاذوا بالجبال بعد أن قتلوا أعدادا كبيرة من سكان المناطق الموالية للنظام، ولم تكن هذه المجازر تميز بين شاب وشيخ ورضيع.
تنوب فجر عن شريحة كبيرة من الجزائريين الذين رفضوا مواثيق "قانون الرحمة" و"المصالحة الوطنية" التي أتاحت للقتلة الإفلات من العقوبة، والتي كانت تحاكم كل من يحاول تجريم "المعفى عنهم" من السفاحين والإرهابيين. بالتالي تحاول بطلة رواية "حوريات" الانعتاق من صمت مزدوج، طرفه الأول فرضته عليها جريمة الذبح التي تعرضت لها، وحرمتها من النطق مجدداً، وطرفه الثاني فرضته الدولة، بحيث منعت الخوض في الموضوع، مهددة بالسجن كل من يعود إلى هذه الأحداث، سواء عبر تصريحات صحافية عنها أو عبر استغلالها في الكتابة.
تمثل فجر رمزاً للذاكرة التي ترفض المحو والنسيان، فقد عملت الدولة بكل وسائلها من أجل عدم فتح هذا الصندوق الأسود من جديد، لكن عيون أهالي الضحايا ظلت معلقة إلى السماء، بعد أن حرمت من إجابات على أسئلتها، وفقدت بالتالي كل صور الاعتبار.
سبق لكمال داوود أن دخل صالون غونكور من باب ضيق، حين فاز سنة 2015 بجائزة غونكور للرواية الأولى. وبتتويجه هذا العام بالجائزة الكبرى يفتح أبواباً هائلة باتجاه ترسيخ حضوره الأدبي، خصوصاً لدى قراء الرواية بلغة موليير.