ملخص
في هذا التحقيق المشترك، تبحث "اندبندنت عربية" في أسباب هجرة شبان عرب، وما ينتظرهم في البلد الجديد، في حال نجحوا في الوصول إليه، وما الطرق التي يستعملها الشباب للهرب من واقعهم.
إذا بحثنا جيداً في أسباب هجرة الشباب العربي من بلادهم نجد أنهم يهربون من واقع مرير، واقع لا يتغير أو يتطور، بل يزيد سوءاً مع مرور الوقت. أحلام لا تكتمل، وقصص نجاح تتأثر بظروف اقتصادية وسياسية، أو اعتقالات أو حتى، أو في أبسط الأمور انعدام الفرص.
التوتر الدائم الذي يعيشه عديد من الدول العربية، يدفع شبابها صوب الهجرة، والخيار الأول أوروبياً، ومن ثم الولايات المتحدة، للبحث عن كما يقولون عن الحلم الضائع. وغالباً ما يعتمد الشباب على طرق غير شرعية للهجرة، عبر عبور الحدود مثلاً خلسة، أو من خلال رحلة بالبحر، وفي كلتا الحالتين، الموت يتربص بهم.
ونسمع يومياً عن غرق قارب هجرة، أو اعتقال مجموعة من المهاجرين غير الشرعيين وإرسالهم مجدداً إلى بلادهم.
في هذا التحقيق المشترك، تبحث "اندبندنت عربية" في أسباب هجرة شبان عرب، وما ينتظرهم في البلد الجديد، في حال نجحوا في الوصول إليه، وما الطرق التي يستعملها الشباب للهرب من واقعهم.
السودان... أعداد متزايدة تهاجر عبر السنين
فرضت ظروف عدة سياسية واقتصادية واجتماعية على السودانيين مغادرة ديارهم، إذ بدأت موجات الهجرة منذ سبعينيات القرن الماضي إلى دول الخليج، واستمرت طوال العقود الماضية بعد اكتشاف وجهات جديدة.
وتنوعت دوافعها ما بين الهجرة الاختيارية لتحسين الأوضاع، وما بين الهرب من الحروب أو الاضطهاد أو عدم الاستقرار أو تغير المناخ والكوارث الطبيعية. وزادت حدة الهجرة في عهد الرئيس السابق عمر البشير، إذ عمل نظامه على تصفية الخدمة المدنية من موظفيها واستبدالهم بالمنتسبين لنظام "الإخوان المسلمين".
كما تأثرت نشاطات اقتصادية أخرى في مجالات الزراعة والتعدين والتجارة والأعمال الحرة. ولم يستثن قطاع التعليم، إذ واجه طلاب الجامعات والمعاهد العليا التضييق الذي فرضه عليهم جهاز الأمن والمخابرات عبر ذراعه "أمن الطلاب"، خصوصاً المنتمين لأحزاب سياسية أخرى غير التنظيم الإسلامي، فهاجرت أعداد كبيرة منهم إلى غرب وشرق أوروبا والولايات المتحدة وأستراليا وغيرها.
تواصلت هجرة السودانيين واتخذت إضافة إلى الدوافع السابقة شكلاً إثنياً هذه المرة، بعد اندلاع الحرب في دارفور عام 2003، فهاجرت مجموعات عرقية كثيرة من غرب السودان. واستمر الحال حتى سقوط النظام السابق عام 2019، ليبدأ فصل جديد من الهجرة بعد اشتعال الحرب في الـ15 من أبريل (نيسان) 2023.
هجرة واسعة
شهدت دول الخليج العربي هجرة واسعة من السودانيين بعد الحرب، خصوصاً إلى السعودية حيث يستمر نظام الإقامات، وكذلك الزيارات العائلية التي تبعتها إجراءات ميسرة تتعلق بتجديدها من دون الحاجة إلى الخروج من المملكة كما كان يحدث سابقاً. كما وفرت دولة الإمارات إضافة إلى الإقامات العائلية والزيارات، إقامة الحروب والكوارث لأعداد كبيرة من السودانيين ضمن دول أخرى تواجه الظروف نفسها، وهي إقامة مستمرة وفق إجراءات ميسرة ومستمرة إلى انتهاء الحرب.
أما الهجرة إلى بقية دول الجوار فأعلنت منظمة الهجرة الدولية، في يوليو (تموز) الماضي، أن "مليونين و238 ألفاً و671 شخصاً عبروا إلى البلدان المجاورة بما في ذلك تشاد وجنوب السودان وجمهورية أفريقيا الوسطى ومصر وإثيوبيا، منذ بداية الحرب ضمن نحو 10 ملايين و594 ألفاً و576 شخصاً، بينهم 7 ملايين و794 ألفاً و480 شخصاً نزحوا داخلياً"، وصنفتها الأمم المتحدة بأنها أكبر أزمة نزوح في العالم.
ووفقاً لمنظمة الإغاثة الدولية "تفتقر عدد من المخيمات التي يأوي إليها اللاجئون والنازحون إلى الموارد الأساسية للعدد المتزايد من السكان، ففي تشاد لا يملك عدد من اللاجئين السودانيين مصدراً موثوقاً للغذاء. وفي عام 2023 وحده استوعب أكثر من 1500 مريض بسبب سوء التغذية الحاد، جميعهم دون سن الخامسة، في برنامج التغذية التابع لمنظمة "أطباء بلا حدود" في مقاطعة سيلا بالقرب من الحدود السودانية - التشادية، إذ تدير منظمة أطباء بلا حدود مشروعاً للطوارئ. وفي داغيسا، تقدم عيادات "أطباء بلا حدود" المتنقلة الرعاية الصحية الأساسية للعائدين التشاديين، بما في ذلك فحص سوء التغذية".
أكبر هجرة أطفال
قالت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، "يشكل الأطفال ما يقرب من 51 في المئة من الفارين من الحرب مما يجعل السودان واحدة من أكبر أزمات نزوح الأطفال في العالم. تمكنت البلدان من فحص وتسجيل نحو 44105 أطفال معرض للخطر".
وأضافت المفوضية "يواجه الأطفال مجموعة واسعة من أخطار الحماية في كل مرحلة من مراحل لجوئهم ونزوحهم - قبل وأثناء وبعد هربهم. وتشمل هذه الانتهاكات الجسيمة لحقوق الأطفال، وتقييد الوصول إلى الأمان، والانفصال عن الأسر، والعنف القائم على النوع الاجتماعي (وخصوصاً العنف الجنسي وزواج الأطفال)، والضائقة النفسية الاجتماعية، واحتجاز المهاجرين، والاتجار بهم، والوصول المحدود إلى خدمات حماية الطفل، بما في ذلك على طول الطريق إلى الأمان".
وأفادت المفوضية "تكشف تقارير رصد وتقييم الحماية التي أجريت في تشاد وإثيوبيا وجنوب السودان عن حوادث متزايدة من الاتجار وتهريب الأطفال والمراهقين السودانيين، وبخاصة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 19 و27 سنة من الخرطوم وغرب ووسط دارفور، وكذلك ولايتي النيل الأزرق والأبيض. معظمهم في طريقهم إلى دول الخليج وأوروبا ووجهات أخرى".
وأوردت "في جنوب السودان، نحو 56 في المئة من اللاجئين السودانيين هم دون سن 18 سنة، وفي أوغندا 43 في المئة من نحو 40 ألف شخص مسجل لدى الحكومة هم أطفال، منهم 37 في المئة من الأطفال المعرضين للخطر".
معضلة التسجيل
وفي ما يتعلق بأوضاع اللاجئين في مصر، ذكرت مفوضية شؤون اللاجئين "منذ بداية الصراع في السودان وحتى يونيو (حزيران) الماضي، قدمت المفوضية في مصر مواعيد تسجيل لنحو 600 ألف شخصاً أجبروا على الفرار من السودان، منهم 300 ألف أي 50 في المئة تم تسجيلهم بالكامل، ويشكل عدد الأطفال نحو 42 في المئة".
معبر هجرات
في المقابل طالب وزير الداخلية السوداني المكلف اللواء خليل باشا سايرين، بإيجاد حلول جذرية للهجرة غير الشرعية بتطوير علاقات التعاون والشراكات بين الدول المصدرة ودول العبور والدول التي يقصدها المهاجرون. وكشف أثناء مشاركته في "منتدى المتوسط للهجرة غير الشرعية" بليبيا، عن ترتيبات مع الاتحاد الأوروبي لتوقيع اتفاق يقنن الهجرة غير الشرعية، وذلك بتحديد مطلوبات الدول الأوروبية من العمالة وتوفير إمكانات لدول المعبر والمصدر للحد من الظاهرة.
يذكر أن الاتحاد الأوروبي كان وقع اتفاقاً مع الحكومة السودانية عام 2016، لوقف الهجرة غير الشرعية، وهي مهمة عهد بها البشير إلى قائد "قوات الدعم السريع" محمد حمدان دقلو (حميدتي). وقدرت تقارير دولية أموال المساعدات التي دفعها الاتحاد الأوروبي للسودان بموجب "عملية الخرطوم" للقيام بمهمة مكافحة الهجرة غير الشرعية بنحو 200 مليون دولار في الفترة بين 2016 حتى 2018.
وبحسب تقارير البنك الدولي احتل السودان المركز السادس من حيث أعداد اللاجئين عالمياً في عام 2017، بينما احتل المركز الثامن بالنسبة إلى أعداد اللاجئين القادمين من أفريقيا إلى أوروبا عبر البحر المتوسط في العام ذاته. كما أن السودان دخل في تجربة أخرى بإنشاء قوات مشتركة سودانية (الدعم السريع)، ومن دول ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى.
تبدد الحلم
قال الصحافي محمد المهدي مصطفى عن تجربته في الهجرة إنه فكر فيها قبل الحرب "كنت أنوي الهجرة من السودان، لتحقيق ولو قدر بسيط من المشاريع التي يحلم بها أي شاب سوداني، خصوصاً أن الظروف الاقتصادية كانت تمضي من سيئ إلى أسوأ"، وأضاف "كنت أعمل في اتجاهات عدة، فبينما قدمت لوظيفة خارج السودان، كنت أنتظر نتيجة منحة دراسية قدمت لها أيضاً وجهزت أوراقي والنفقات اللازمة التي ستعينني على الرحلة، ولترتيب إجراءات الإقامة والسكن والمعيشة في الفترة الأولى".
وأورد "بعد اشتعال الحرب، اقتحم جنود من قوات الدعم السريع منزل الأسرة في أمدرمان، ونهبوا كل شيء بما فيه اللابتوب الخاص بي والمال الذي ادخرته للسفر. ولم يكتفوا بذلك بل أحرقوا أرشيفي الصحافي (الورقي)، وحبست في إحدى غرف المنزل لأكثر من 12 ساعة، بعد أن عصبوا أعيني بقماش وقيدوا يدي وأرجلي من خلاف ثم نقلوني إلى مكان مجهول، وبعدها بـ10 ساعات أطلقوا سراحي".
وواصل الصحافي "بعد هذه التجربة المريرة، تغيرت خطة السفر، وتحولت إلى هجرة قسرية، إذ قررت الخروج من أم درمان والسفر إلى مصر وبعد محاولات فاشلة عدة في طلب تأشيرة الخروج، قررت السفر عبر طرق التهريب".
وتابع "أدركت أن القرار كان خاطئاً، فغير الإحساس بالموت الوشيك، عند مطاردة شرطة مكافحة التهريب على الحدود المصرية - السودانية، كانت معاناة الإحساس بالعجز عن تقديم المساعدة لآخرين معنا في الرحلة منهم أم وطفلها فارقاً الحياة جراء العطش ونفاد الماء، لنقوم بعدها بشرب ماء السيارة (اللديتر) المخلط بالصابون الذي اقتسمناه مما تسبب لنا في آلام وأمراض لاحقاً".
وذكر "كان آخر ما تركته ورائي أثناء عملية الهرب، حقيبتي وبها شهاداتي الدراسية وشهادات الخبرة، إذ سقطت أثناء المطاردة، لتطوى صفحة الآمال الأولى من الهجرة ويتبدد معها الحلم".
اليمن... البحث عن سبيل نحو مستقبل أفضل
يسعى اليمنيون إلى الهجرة من بلدهم نتيجة الاضطرابات والحروب التي أسهمت بصورة كبيرة في خلق بيئة غير ملائمة للسكان والاستثمار، مع غياب مقومات الحياة الكريمة مثل الأمن والحرية وتوفير فرص العمل ووجود دولة عادلة، كما أن الفساد المستشري في منظومة الحكم يعد سبباً إضافياً يدفع كثيرين، وبخاصة المثقفين والمتعلمين، لمغادرة البلاد.
تحديات لحياة أفضل
بعد عقد من الحرب أصبح حلم الهجرة الخيار الأكثر جاذبية لكثير من الشباب والعقول اليمنية بدافع الأمل في حياة أفضل، إذ يغادرون البلاد بحثاً عن ظروف معيشية كريمة، سواء إلى الدول المتقدمة التي تتمتع باستقرار وأمن كبيرين وتوفر حياة كريمة لمواطنيها وللمهاجرين على حد سواء، مع احترام حرية الشعوب في اختيار حكامها أو إلى الجوار مثل دول الخليج العربي سعياً وراء فرص العمل.
وخلال سعيهم إلى تحقيق حلم الهجرة للدول الأوروبية على أمل نيل حق اللجوء والعيش بسلام، يواجه كثير منهم رحلات محفوفة بالأخطار عبر البحار أو المعابر الحدودية البرية، حيث تقابلهم إجراءات أمنية صارمة تهدف إلى الحد من الهجرة غير الشرعية، وتلك الرحلات قد تعرض حياتهم للخطر أو قد تنتهي بمأساة.
عند وصول اليمنيين إلى دول الشتات يواجهون تحديات وصعوبات عدة، من أبرزها التكيف مع المجتمع المحلي واللغة، إضافة إلى فهم القوانين المتعلقة بكل مهنة ومتطلبات الكفاءة والخبرة، فالدين والعادات اليمنية قد تكون غير مألوفة في المجتمعات الغربية مما يزيد تعقيد عملية الاندماج والتكيف مع الحياة الجديدة.
وفي المقابل يجد اليمنيون المهاجرون إلى الدول العربية، وبخاصة الخليجية، اندماجاً أسهل على الصعيدين الاقتصادي والثقافي بفضل المشتركات بينهم، إلا أنهم يواجهون في الوقت نفسه تحديات أخرى تتعلق بوضع الإقامة والاستقرار.
القلب في الوطن والجسد في الغربة
ضمن قصص الهجرة غادر محمد قعيبل الزرنوقي (40 سنة) وطنه متوجهاً إلى الجزائر عام 2006، حيث بقي هناك حتى عام 2017 وبعدها انتقل إلى النيجر حيث عاش حتى عام 2023، قبل أن يعبر إلى ليبيا ثم إيطاليا، وهو يعيش حالياً في فرنسا.
ويقول الزرنوقي "كان قراري بالسفر في البداية من أجل الدراسة، وكنت أعتقد أنني سأبقى لأعوام عدة فقط حتى أتخرج وأعود إلى وطني، لكن للأسف حتى الآن لم أتمكن من العودة بسبب تدهور الأوضاع هناك مما دفعني إلى التخلي عن فكرة العودة في الوقت الحالي والتفكير جدياً في إيجاد بلد آمن ومستقر يضمن الحقوق والحريات ويوفر العدالة والمساواة، مما يساعدني في تحقيق أحلامي وضمان مستقبل أطفالي".
وقد حصل الزرنوقي على شهادة البكالوريوس في هندسة الاتصالات وشبكات الكمبيوتر، وماجستير في تكنولوجيا المعلومات والاتصال والإدارة، وعلى رغم أن قلبه لا يزال يحن إلى وطنه فإن جسده يعيش في الغربة لأسباب عدة، ويوضح "في اليمن تسيطر الجماعات الدينية المسلحة على أجزاء كبيرة من البلاد بينما يعاني الجزء الآخر إدارة حكومية هشة، مما يجعل الحياة هناك في أدنى مستوياتها".
ويضيف، "تحملت مرارة الغربة على رغم الأحزان والدموع التي رافقت وداع أمي وأبي وإخوتي وأقاربي، وعلى رغم الشوق الكبير لهم ولأصدقاء الطفولة وذكريات الصبا، فالمنطقة التي أتيت منها تخضع لسيطرة جماعة الحوثي التي تمارس أشكالًا عدة من الجرائم والظلم والقهر، إضافة إلى التمييز العنصري، وتعمل على تمزيق النسيج الاجتماعي ومحو الهوية الوطنية الأصيلة".
ويتابع، "كل هذه الظروف تجعلني أعيش في رعب دائم حتى وأنا في الغربة، بخاصة أنني ناشط معارض لهم ولجميع الجماعات الدينية والأفكار الرجعية الإرهابية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ونتيجة لذلك تلقيت تهديدات مستمرة، بعضها يهدد أهلي وأقاربي بالأذى، بما في ذلك فتاوى تكفير وتهديدات بالقتل، وكل هذا جعلني أعيش حالاً نفسية صعبة للغاية، مع أحلام وكوابيس مزعجة لا تفارقني".
المرتبة السادسة
تشهد اليمن نزفاً مستمراً في هجرة العقول والكفاءات إلى دول عربية وأجنبية، أو بالأحرى تهجيراً قسرياً نتيجة تراكمات على مدى أربعة عقود، وتشمل هذه التراكمات استنزاف العقول وتهميشها وعدم توفير بيئة ملائمة لدعم المواهب والقدرات داخل البلاد، وهذه الظاهرة تفاقمت بصورة كبيرة خلال الأعوام الأخيرة بسبب الحرب التي دمرت البلاد وغياب الأمن والاستقرار السياسي، مما دفع كثيراً من المعلمين والأطباء والسياسيين وغيرهم إلى الهجرة لأسباب اقتصادية أو سياسية بحثًا عن حياة أفضل.
وتشير إحصاءات عام 2021 إلى أن اليمن احتل المرتبة السادسة بين الدول العربية من حيث هجرة الكفاءات، إذ يتزايد عدد المهاجرين بصورة مستمرة، ومن المتوقع أن يستمر ذلك حتى تنتهي الحرب ويحل السلام.
مصر... شباب يحملون أحلامهم فوق القوارب
الشابة التي ترتاد نادي الجزيرة الرياضي في مصر حيث علية القوم وبقايا الأرستقراطية المصرية تتحدث عن إما الهجرة إلى الولايات المتحدة الأميركية، أو البقاء في ألمانيا بعد التخرج في الجامعة التي تدرس فيها هناك. لماذا وهي لا تحتاج إلى المال أو فرصة العمل شبه المضمونة عبر علاقات والديها؟، لأن "المجتمع صار بالغ التشدد، وأعداد المتأثرين بالأفكار الظلامية، والنازحين من الريف ومعهم أفكارهم الغارقة في الرجعية عن المرأة والانفتاح على الثقافات والحضارات تجبرها على العيش في فقاعة، وهي لا تريد ذلك".
والشاب الذي تخرج بأحلام عريضة قبل عامين في كلية التجارة قسم إدارة أعمال، ثم وجد نفسه يدير أعمال صاحب مقهى عبر العمل "كاشير" مساءً، والعمل سائقاً في أحد تطبيقات النقل نهاراً يتحدث عن حلم الهجرة، يسميها فرصة، في دبي أو عمان أو السعودية.
أضغاث أمنيات
خطة الهجرة أو حلم الهروب أو أضغاث أمنيات الفرصة تعتري كثيرين من الشبان والشابات في مصر ممن يقفون على أطراف نقيض التصنيف الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي.
بين من يحملون أعلى الشهادات الجامعية وأدناها وغير المتعلمين أو أنصافه، ومن ولدوا وفي أفواههم ملاعق من ذهب أو حتى فضة تضمن لهم حداً أدنى من الفرص الجيدة، ومن ولدوا بلا ملاعق أو فرص، ومن يبحثون عن غاية العيش ضمن مجتمع يقولون إنه منفتح ومتعدد ومتنور، لا يتدخل في حريات الأفراد الشخصية ولا يعنيه سوى التزام القانون والعقد الاجتماعي من حقوق وواجبات، ومن لا يبتغون سوى عقد عمل يدر دخلاً يمكّنهم من بناء بيت صغير على بقايا أرض زراعية أو سداد قيمة المهر والشبكة والجهاز ليتزوج ويكمل نصف دينه ليبدأ بضخ عيال يخوضون الدائرة نفسها مجدداً، ومن يتخيل أن حلمه بالعمل كمدير كبير أو تنفيذي قدير لن يتحقق إلا في بلاد "العم سام" أو عاصمة النور أو حتى الضباب، ما زالت غاية الهجرة تدغدغ أحلام كثيرين في مصر.
من أميركا وأوروبا غرباً، وأحياناً اليابان والصين وماليزيا شرقاً، إلى الدول الاسكندينافية شمالاً وجنوب أفريقيا جنوباً، وبالطبع دول الخليج على مرمى حجر، وليبيا على مرمى نصف حجر، تدور الخطط والأحلام.
أحلام شرعية
منها أحلام شرعية، لن تخطو خطوة إلا إذا كانت قانونية، ومنها خطط غير شرعية، ففرصة القوارب تختفي تارة تحت ضغوط سياسية وتعود تارة بانفلاتة هنا أو غض طرف هناك.
الإحصاء الرسمي الأحدث الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2016) يشير إلى أن نحو 10 ملايين مصري يعيشون خارج البلاد، مما يعني أن 10 في المئة تقريباً من المصريين يعيشون خارجها، وهذه نسبة مرتفعة.
الباحث المشارك في معهد أبحاث السياسات العامة في جامعة "تكساس أي أند أم" الأميركية جورج نوفل يركز على زاوية التعليم والدرجة العلمية بين المهاجرين المصريين، وغالبيتهم من الشباب، ويشير في دراسة عنوانها "الاقتصاد المحلي والهجرة العالمية: الوضع في مصر" والمنشورة على موقع "حلول للسياسات البديلة" التابع للجامعة الأميركية في القاهرة إلى أن ما يقارب ثلث المهاجرين المصريين هم من حملة الشهادات الجامعية أو الشهادات العليا وأن 70 في المئة تقريباً يختارون الهجرة إلى دول مجلس التعاون الخليجي، فيما يهاجر الباقون إلى الوجهات طويلة الأمد التقليدية في شمال أميركا وأوروبا.
وعبر نسب مئوية صادمة وأرقام غير متوقعة، يركز نوفل الضوء على إمكان حصول المهاجر المصري إلى أميركا على شهادات عليا من ماجستير ودكتوراه أعلى من المعدل الوطني للمواطن الأميركي!. كما يظهر المهاجر المصري قدرات متميزة حدة على صعيد التحصيل العلمي بصورة عامة. وفي 2016، كان 63 في المئة من المهاجرين المصريين في أميركا يحملون ما لا يقل عن شهادة بكالوريوس أو أعلى، وأكثر من نصف المصريين الذين يعيشون في أميركا يعملون في وظائف مهنية أو إدارية، مقارنة بـ 30 في المئة فقط من المواطنين الأميركيين، واحتمالية أن يصبح المصري المهاجر إلى أميركا طبيباً أعلى بـ10 مرات من المواطن الأميركي.
وتفيد معلومات البنك الدولي بأن معدلات البطالة المرتفعة وندرة فرص العمل في مصر تدفع الشباب المتعلم إلى الهجرة. ويشار إلى أن قوة العمل المصرية تبلغ نحو 30 مليون مصري تحت عمر الـ30 سنة.
على قلب مهاجر واحد؟
هذه القوة الهادرة لا تقف على قلب مهاجر واحد، ففروق كبرى وصغرى تفرق بينهم، والباحثون عن قدر أوفر من الرفاه وجودة أعلى في الحياة وهامش حرية أوسع يختلفون عن اللاهثين وراء لقمة العيش حرفياً، مع اختلاف نوعيات اللقمة.
اللقمة الأميركية تختلف عن الخليجية، وكلتاهما تعطيان مذاقاً يختلف عن البحث عن مخرج في ليبيا مثلاً حيث الأوضاع الأمنية ليست في أفضل صورها، أو في إيطاليا أو اليونان حيث احتمالات النجاة من رحلة البحر تتعادل أو تقل قليلاً عن ترجيحات الموت.
لا تتوافر إحصاءات عن نسبة الشباب المصري المخطط أو الراغب أو الحالم بالهجرة، إلا أن إحصاء أجرته شبكة "الباروميتر العربي" البحثية عام 2022 أشارت إلى أن قلة قليلة فقط من المصريين يودّون ترك بلدهم وأن هذه القلة مدفوعة بالشباب المتعلم، ويبقى قوس احتمالات التغير في التوجهات مفتوحاً في ضوء التغيرات الكثيرة التي ألمت بالاقتصاد والأوضاع الإقليمية الآخذة في التعقد التي تلقي بظلال وخيمة كثيرة على مصر والمصريين، لا سيما الشباب في مقتبل الحياة.
الخليج وجهة
يقول مدير التواصل السياسي في "الباروميتر العربي" محمد أبو فلغة لـ"اندبندنت عربية" إن "المهاجرين المحتملين من مصر ينظرون إلى الخليج على أنه الوجهة المفضلة لهم. أما أميركا، فتُعدّ ضمن الوجهات الأقل تفضيلاً بالنسبة إلى المصريين، وهذا يعود لعوامل مختلفة مثل الحواجز الجغرافية واللغوية التي ترجح كفة دول الخليج العربي في هذا الشأن".
ولأنه يصعب تجاهل أو تناسب حجم الأحلام التي كانت تسيطر على كثير من الشباب المصري الآمل في تقفي أثر الحلم الأميركي في السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات، فإنه يصعب كذلك تجاهل المستجدات على الساحة التي أطاحت بالحلم الأميركي من على رأس قائمة وجهات الأحلام، ولو كانت الإطاحة لأسباب لوجستية منطقية.
يقول أبو فلغة إنه يحتمل أن يكون صعود التيارات المناهضة للهجرة في الغرب وأميركا، جنباً إلى جنب مع تنامي الـ"إسلاموفوبيا" في هذه الدول، ضمن الأمور التي تدفع الشباب المصري الراغب في الهجرة بعيداً من أميركا، كدولة مقصد، ويضيف أن "’الحلم الأميركي‘ نفسه يبدو أنه تلاشى خلال العقود الأخيرة، حتى في الولايات المتحدة نفسها، فما بالك بالدول الأجنبية".
خفوت الحلم الأميركي
تلاشي أو تضاؤل أو خفوت نجم الحلم الأميركي أضيفت إليه حرب غزة، فألقت بظلال على أحلام الهجرة، بعضها مرده أسباب سياسية وفي أقوال أخرى أخلاقية. بعض الشباب ممن لهم باع في حلم الهجرة غرباً، لا سيما صوب أميركا، بات يتحدث عن ازدواجية فجة في مبدأ اعتناق الحقوق والحريات والكرامة الإنسانية، إلخ في ضوء دعم أو السكوت على ما يجري في غزة والضفة الغربية.
تبقى تلك مشاهدات تستلزم دراسات واستطلاعات تتقصى الأعداد وتتحقق من التوجهات، فكم من فرصة هجرة حقيقية تتغلب على ممانعات سياسية أو ثقافية أو حتى دينية بالضربة القاضية.
يوضح أبو فلغة أن استطلاع "الباروميتر العربي عام 2022 أشار إلى تدني مكانة الدول الغربية بصورة عامة كوجهة للهجرة للشباب المصريين"، ويضيف أنه على رغم عدم حدوث تغيرات كبرى على توجهات الهجرة من قبل المصريين في العامين الماضيين، فإنه يحتمل أن تكون حرب غزة ألحقت مزيداً من الضرر بصورة الغرب، لافتاً إلى أن دولاً أخرى في المنطقة أظهرت تدنياً واضحاً في توجهات الهجرة صوب أميركا، ووارد جداً أن يكون الشباب المصري سار في النهج نفسه.
الهجرة شرقاً
أما الهجرة شرقاً، ولو كانت موقتة ولأغراض اقتصادية بحتة، فما زالت دول الخليج تتصدر قائمة الرغبات والأحلام، ربما باستثناء طبقات اقتصادية واجتماعية وتعليمية تشكل أقلية صغيرة، ويقول أبو فلغة إن الإمارات والسعودية والكويت هي الوجهات المفضلة للمهاجرين المصريين المحتملين. ويعود ذلك على الأرجح إلى الجاليات المصرية الكبيرة نسبياً في هذه الدول التي تمثل قصص نجاح وقدوات تحتذى، مضيفاً أن وجود هذه الجاليات يقوم بدور نقطة انطلاق ووسيلة مساعدة للشباب الآتي حديثاً إلى الخليج والراغب في الاستقرار هناك.
ويقول "إذا أضيفت إلى ذلك عوامل القرب الجغرافي وعدم وجود عوائق لغوية وتوافر الوظائف والمهن للعمالة الماهرة وغير الماهرة على حد سواء، تحتفظ دول الخليج لنفسها بمكانة الصدارة على رأس أولويات المهاجرين المصريين المحتملين، لا سيما من الشباب".
النية والطموح
نية الهجرة تتشابه قليلاً وتختلف كثيراً مع طموح الهجرة واتخاذ خطوات فعلية ومدروسة لتفعيلها، وخفت الحديث عن مهاجري القوارب غير النظاميين المصريين الذين يقذفون بأحلامهم جنباً إلى جنب مع حياتهم في البحر المتوسط. فسياسات الرقابة باتت أكثر صرامة على الشواطئ المصرية، لكن تظل شواطئ أخرى ملجأً للمغامرين. وبحسب وكالة الاتحاد الأوروبي للجوء، مثّل المصريون عام 2022 واحداً من كل خمسة مهاجرين وافدين إلى إيطاليا عن طريق الهجرة غير الشرعية، وانخفاض الأعداد لا يعني بالضرورة انخفاض الرغبة، فقط صرامة الرقابة.
استطلاع "الباروميتر العربي عام 2022 أشار إلى تدني مكانة الدول الغربية بصورة عامة كوجهة للهجرة للشباب المصريين"
وتأرجح أعداد المهاجرين أو الراغبين في الهجرة في اتجاه الغرب لا يعني بالضرورة أن الشباب بات أكثر سعادة أو قناعة بالحياة في مصر، أو أن توجهاته تغيرت في ضوء مجريات المنطقة السياسية والأمنية، لكن ربما يعني أيضاً تغيرات في سياسات قبول المهاجرين في دول المقصد.
في كل الأحوال، تظل العوامل الاقتصادية حاكمة في أسباب الهجرة ودوافعها، وتتبعها توليفة من الأسباب منها التعليمي سعياً إلى فرص تعليمية أفضل، والمعيشي بحثاً عن أجواء حياة أكثر رحابة وانفتاحاً، والسياسي فرحابة التعبير أوسع.
وبقي عامل النوع، إذ إن العرف الثقافي والقيد المجتمعي يحدان من قدرة الشابات على التفكير في الهجرة، فما بالك بالهجرة ذاتها. ما زال العرف سائداً، ولكن علامات الشيخوخة تظهر عليه، وأعداد متزايدة من الشابات يقفن على أعتاب الهجرة، أو هاجرن بالفعل، ولكن تظل أعدادهن أقل بكثير من أقرانهن من الذكور.
سوريا... نزف استمر لسنوات
عاشت سوريا واحدة من أقسى فصول الهجرة الجماعية المسجلة في التاريخ الحديث، الهجرة التي جاءت محاكية لصورة تغريبة جماعية، قليل منها كيفي، وأكثرها قسري لجملة عوامل وأسباب يمكن اختصارها بالقول: "إنها الحرب، وفي حرب امتدت قرابة عقد ونصف العقد، تحولت صورة البلاد إلى وحش مستبد يمتص قدرات ومقدرات وقيم وأحلام ومستقبل أولاده، دافعاً إياهم إلى معاركة وحوش الغابات وقسوة مناخها وأمواج البحر العاتية، للوصول إلى حيث كثير منهم الآن، إلى الدول الآمنة في البر الأوروبي أو حتى الخليجي".
الهجرة الأولى
يمكن تقسيم هجرة الشباب السوري خصوصاً والعائلات عموماً إلى ثلاث مراحل، المرحلة الأولى بين عامي 2012 و2015، أي بعد نشوب الحرب بعام واحد (منتصف مارس "آذار" 2011)، واشتداد المعارك واجتياح المدن ودمارها على رؤوس ساكنيها، آنذاك لم تكن الهجرة محمولة على دوافع اقتصادية مباشرة، إذ كان لا يزال الجميع يستطيع تدبر أمور معيشته اليومية، لكنه لا يستطيع تدبر إمكانية إن كان سيظل حياً حتى الغد، فهرب الناس من جحيم المدافع والقذائف ورصاص القنص.
الهجرة الثانية
الهجرة الثانية كانت بين عامي 2017 و2019، وكانت مرتبطة بالأشخاص الذين اتضح لهم أن أفق استمرار الحياة في بلدهم بات أكثر صعوبة، ولو أن الحرب انحسرت بصورة نهائية من مراكز المدن الرئيسة، وحتى "داعش" مُنيَ بهزيمته الكبرى وخرج من معادلة الصراع، وانتهت حرب مفخخات المدن والأجساد المتفجرة، كانت هذه الهجرة مبنية على التضخم والبطالة ومحاولة البحث عن بدائل حيوية تضمن بناء مستقبل سليم للفرد أو العائلة.
العائلات التي نجت بأكملها نحو أوروبا معظمها حصل على إقامات دائمة أو جنسيات، والأفراد الذين نجحوا في الوصول فهؤلاء أمنوا مصدر دخل واسع لأسرهم في الداخل السوري، خصوصاً أن معلومات حصلت عليها "اندبندنت عربية" وطابقتها مع اقتصاديين مطلعين ومصادر في المصرف المركزي، فإن هؤلاء المغتربين ـ قسراً - يؤمنون معيشة جيدة لعشرات آلاف الأسر في الداخل السوري عبر نظام الحوالات الشهرية.
الهجرة الثالثة
أما الهجرة الثالثة التي بدأت بعيد عام 2020 وما زالت مستمرة حتى اليوم فكانت تحمل عنصر المفاجأة، قياساً بما اعتبره السوريون من هجرات سابقة أنها قاسية وقياسية ومستحيلة التكرار، لكن ظروفاً طارئة حالت دون أن يتوقف النزف البشري السوري إلى الخارج.
الغريب أن العقد الأول من الحرب شهد سيطرة مسلحي المعارضة على ثلثي مدينة حمص، وأكثر من نصف حلب، وأرياف حماه، ومدن دير الزور والحسكة والقامشلي وتدمر ودرعا وسلسلة جبال لبنان الشرقية (القلمون السوري)، وريف دمشق بطبيعة الحال، مع وصولهم إلى عمق دمشق وتنفيذهم عمليات في عمق العاصمة، ومن بينها ولعلها أشدها، اغتيال خلية إدارة الأزمة في وسط العاصمة، والخلية تلك كانت مؤلفة من كبار ضباط الأمن والجيش في الجمهورية، قبل أن تعود السيطرة للحكومة وحلفائها في معظم تلك المناطق.
في أواخر عام 2019 ومع مطلع عام 2020 أقرت الولايات المتحدة قانون "قيصر" في مواجهة سوريا، وهو قانون حاصر البلاد براً وبحراً وجواً، مانعاً عنها الهواء والإمداد والتعاون الدولي، وليكتمل عقد 2500 عقوبة دولية على نظام دمشق بذلك القانون، وتباعاً انهارت الليرة السورية بسرعة خيالية من 10 أضعاف إلى 300 ضعف أمام الدولار الواحد، وهنا بدأ فصل جديد في الحرب السورية.
الهجرة الأعنف
الأكيد أن الهجرة الثالثة هذه المرة جاءت أعنف وأوسع وأقوى وأكثر شمولية، حتى كادت تفرغ البلاد حرفياً من رعاياها، والحديث هنا يختلف عن الهجرتين السابقتين اللتين كانتا للحفاظ على الحياة، لتجيء هذه الهجرة بحثاً عن الحياة ورفضاً للموت جوعاً.
ما حصل بعد 2020 أوضح أن البلاد دخلت نفقاً مظلماً يحتاج إلى عقود للخروج منه، المعامل على قلتها انهارت، سوريا لم تعد تملك نفطها وغازها وسياحتها وقمحها وقطنها وحبوبها، وما عادت تستطيع تقديم شيء لساكنيها.
الفرق بين الهجرات الثلاث
ما ميز الهجرتان الأولى والثانية هو اختيار الطريق البحري أو البري نحو أوروبا، في الهجرة الأولى عبر تركيا نحو غابات اليونان وبلغاريا أو عبر البحر، ومن ثم إلى دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، وهناك فقد آلاف السوريين حياتهم، برداً، أو في مواجهة الوحوش، أو ضياعاً، أو غرقاً، أو قتلاً من قبل المهربين الطامعين.
اختلفت الهجرة الثانية قليلاً، فاحتفظ بعضهم باختيار سلوك طريق البر التركي، فيما راح آلاف آخرون نحو حدود بيلاروس مستفيدين من تجاذبات سياسية روسية -أوكرانية في مسألة الضغط على أوروبا بملف اللاجئين.
أما في الهجرة الثالثة فقد تغيرت قواعد الأمر قليلاً، وصار التوجه إلى الخليج وليبيا والصومال والسودان (قبل حربها) أكثر أماناً وضمانة، وهو ما فعله مئات آلاف السوريين، الأمر سهل، من مطار دمشق إلى حيث هم مسافرون، دبي مثلاً، وفي هذه الهجرة مكسب وخسارة، مكسبها أمان الرحلة والطريق، وخسارتها أن العامل سيظل عاملاً ولن يحظى بجنسية ولو ظل هناك 50 عاماً، ويمكن ترحيله لأبسط سبب، خلاف الدول الأوروبية التي تتولى اللاجئين تجنيساً ودعماً مالياً.
الاستطلاع الذي جانب الصواب في سوريا
ثمة اليوم في 2024 نحو 7 ملايين لاجئ سوري حول العالم، هؤلاء المسجلون رسمياً، ويفترض أن الرقم الحقيقي يعادل الضعف، وهذا يعني أن أكثر من نصف الشعب السوري خارج بلاده.
وتلك نتيجة طبيعية في بلد تسود فيه شريعة الغاب وقوانينها والخطف والاحتيال والتضخم والبطالة وغياب الخدمات شبه التام.
الاستطلاع الحديث الذي نشره "الباروميتر العربي" ومفاده رغبة نصف سكان بعض البلدان العربية بالهجرة قد جانب الصواب في الملف السوري بخاصة، فالغالبية العظمى تبحث عن سبل الهجرة، ولا يد في ذلك لدور ثقافي أو فكري أو تعليمي، من الطبيب إلى العامل وما بينهما، كلهم يتشارك الحلم ذاته.
وبالنسبة إلى الفئة العمرية فذاك الحلم صار قدراً، ومما لا شك فيه أن حرب غزة لم تؤثر في قرارات السوريين، فهم خبروا حرباً ليس في مرارتها وعنف تفاصيلها حرب أخرى.
تونس... نصف الشباب يحلم في الهجرة لحياة كريمة
تطورت الهجرة في تونس بسياق اجتماعي واقتصادي وسياسي مختلف، وتحولت من فكرة متاحة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي إلى حلم شبه مستحيل اليوم يراود فئات واسعة من الشباب التونسي، في ظل القيود التي باتت تفرضها الدول الأوروبية المستقطبة للمهاجرين، وفي سياق متغيرات اقتصادية وديموغرافية تعيشها دول المنشأ ودول الاستقطاب.
36 ألف تونسي يهاجرون سنوياً
ويقيم مليون ونصف المليون تونسي في الخارج، بينما يغادر سنوياً نحو 36 ألف تونسي لاعتبارات مختلفة أهمها الاقتصادية والاجتماعية، وتتجه هجرة التونسيين نحو أوروبا وبلدان الهجرة التقليدية كفرنسا وإيطاليا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا والمملكة المتحدة.
وبحسب بيانات المعهد الوطني للإحصاء (مؤسسة عمومية) تسكن الرغبة في الهجرة خصوصاً وجدان الشباب الذين تراوح أعمارهم ما بين 15 و29 سنة، إذ أعلن 40 في المئة منهم عن نيتهم في الهجرة، كما أن واحداً من كل ثلاثة تونسيين من ذوي المستوى التعليمي العالي يفكر في الهجرة، وأكثر من 20 في المئة من التونسيين غير المهاجرين يرغبون في المغادرة، ولديهم نية الهجرة.
أسباب اقتصادية
أسامة يحيى شاب ثلاثيني من محافظة بنزرت (شمال)، حالم بالهجرة إلى الضفة الأخرى من المتوسط، وهو حاصل على شهادة جامعية في الهندسة الميكانيكية، لم توفر له عملاً مستقراً، على رغم تنقله بين مؤسسات عدة في ظل الصعوبات التي تواجهها البلاد.
يحلم أسامة بالهجرة إلى أوروبا لـ"بناء مستقبله"، قائلاً، "الوضع في تونس بات صعباً للغاية، الوضع الاقتصادي متدهور والأجور ضعيفة، بينما متطلبات الحياة الأساسية باتت بعيدة المنال، لم يعد الشباب في تونس اليوم قادراً على تحصيل عمل لائق يتماشى ومؤهلاته، كما أن المرتبات لا تسد الرمق، لذلك هاجر أصدقائي من اختصاصات مختلفة بحثاً عن العمل اللائق والأجر المناسب. في أوروبا يمكنك أن تعيش حراً وأن تصنع من نفسك رجلاً قادراً على تكوين أسرة".
وعن احتمال عودته إلى تونس بعد فترة من الهجرة، يقر أسامة بأنه "سيزور تونس في العطل والمناسبات، أما الاستقرار الدائم فسيكون هناك، ملوحاً بيده في اتجاه الغرب".
طرق أسامة أبواب السفارات ومكاتب التشغيل، وأنفق أموالاً طائلة، وأهدر وقتاً طويلاً في انتظار الحصول على تأشيرة عبور قانونية إلى أوروبا، إلا أن مساعيه كلها باءت بالفشل، ولا تزال الهجرة أمله في حياة أفضل، وينتظر موافقة السفارة الكندية في القريب.
هاجس أسامة بالهجرة إلى أوروبا أو كندا يراود خمس التونسيين، بحسب آخر الأرقام التي أصدرها المسح الوطني للهجرة لعام 2021، بينهم الكفاءات الطبية والهندسية وغيرها بسبب الامتيازات التي تقدمها البلدان المستقطبة لهذه الفئات، بينما تواجه هذه الشريحة صعوبات كبيرة في تونس.
الهجرة ثقافة اجتماعية
الإقبال على الهجرة لا يعود فقط إلى الأسباب الاقتصادية والاجتماعية فحسب، بل أيضاً إلى الثقافة السائدة إذ تعرف مناطق عدة في تونس بنزوع سكانها إلى الهجرة عبر الطرق القانونية لمساعدة الأهل من الجيل الأول للهجرة، أو عبر الهجرة السرية خصوصاً في المناطق الساحلية.
ويلاحظ الباحث في علم الاجتماع نجيب بوطالب في دراسة أنجزها حول "ظاهرة هجرة شباب محافظة تطاوين عبر دول البلقان"، أن "أسباب الهجرة مختلفة عن الأسباب التقليدية المعلومة مثل الفقر"، مشيراً إلى أن "غالب السكان في هذه المحافظة (تطاوين) وفي الجنوب الشرقي عموماً، هم من العائلات المتوسطة التي تملك العقارات والأراضي، إلا أن المنطقة لها تقاليد في الهجرة منذ عشرات الأعوام".
عجز عن خلق الثروة
ومن جهته، يرجع المتخصص في علم الاجتماع وسياسات الهجرة منير حسين في تصريح إلى "اندبندنت عربية"، الدوافع الرئيسة للهجرة بالنسبة إلى تونس وعدد من الدول العربية المشابهة إلى الأسباب الاقتصادية، إذ "عجزت السياسات والخيارات التي تتبعها هذه الدول في صنع الثروة، وفي خلق مواطن الشغل المناسبة"، وهي خيارات في تقديره "نابعة من المقاربات النيوليبيرالية التي فُرضت من طريق الإصلاح الهيكلي، مما أدى إلى تخلي الدولة عن التدخل في الشأن الاقتصادي، وفشلت تلك السياسات في تأمين مواطن شغل لائقة، تلبي طموحات الشباب خصوصاً من الكفاءات".
ويضيف المتخصص في سياسات الهجرة، أن من أسباب الهجرة أيضاً "تقلص هامش الحريات العامة، في ظل نزوع دول عدة عربية إلى الاستبداد والتسلط، وضرب أي مجموعة تحاول أن تدافع عن حقوقها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية".
ويعد منير حسين أن "الدول الأكثر استقطاباً للمهاجرين التونسيين هي أوروبا لا سيما فرنسا وإيطاليا وإسبانيا، وذلك لوجود جالية تونسية مهاجرة سابقاً، تلعب دور الحاضنة للمهاجر الجديد وتساعده بداية في البحث عن عمل، وتصريف أموره الأولية سواء في أوروبا أو في كندا".
معوقات التأشيرة
ويأسف المتخصص في علم الاجتماع لما تفرضه الدول الأوروبية من "معوقات إجرائية منها صعوبة الحصول على التأشيرة، لأن المقاربة التي تعتمدها أوروبا أمنية بالأساس، علاوة على أن ملف الهجرة أصبح اليوم وقوداً للحملات الانتخابية لعدد من مرشحي الأحزاب، وخصوصاً اليمينية المتشددة منها لاستمالة الناخبين من الرافضين للمهاجرين".
وتعتمد أوروبا وكندا على مقاربة انتقائية للمهاجرين تعتمد على الكفاءات والمهارات التي تحتاج إليها اقتصاداتها، بينما تتقلص حظوظ المهاجرين من اليد العاملة مما أسهم في ازدهار الهجرة السرية نحو أوروبا من هذه الفئات.
المهاجرون وقود الانتخابات
من جهة أخرى، يعتقد منير حسين أن الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة فاقمت العنصرية والكراهية ضد المهاجرين، مما دفع بعدد منهم إلى المغادرة، بينما يراجع عدد آخر قرار الهجرة إلى دول فيها بيئة معادية للمهاجرين".
وقد تعرض عدد من المهاجرين التونسيين في دول عدة أوروبية وكندا إلى ممارسات عنصرية بسبب انتماءاتهم أو إعلان تضامنهم مع الشعب الفلسطيني.
ولا تقتصر ظاهرة الهجرة في تونس على الهجرة إلى بلد آخر، بل تشهد البلاد أيضاً هجرة وافدة إذ ارتفع في الأعوام الأخيرة عدد المهاجرين القادمين إلى تونس خصوصاً من أفريقيا جنوب الصحراء، الذين يقدر عددهم بأكثر من 90 ألفاً يتحين معظمهم فرصة الهجرة نحو أوروبا.
الأردن... البحث عن الفرصة المفقودة
تتزايد رغبة الأردنيين في الهجرة عاماً بعد آخر، مدفوعة بعوامل عدة اقتصادية واجتماعية، إذ تعاني البلاد تحديات اقتصادية مستمرة كالبطالة وارتفاع كلف المعيشة وزيادة المديونية. وعلى وقع نسبة بطالة تجاوزت 22 في المئة وارتفاع منسوب الإحباط، وجد الشباب الأردني ضالته في البحث عن حياة كريمة، إما عبر الاغتراب أو الهجرة ولو بطرق غير شرعية.
وتشير الإحصاءات الرسمية إلى وجود نحو 750 ألف أردني يعيشون في الخارج، معظمهم في دول الخليج العربي، يسهمون بتحويلات مالية تبلغ نحو 10 في المئة من الناتج المحلي. واحتلت أميركا وكندا النسبة الأعلى كجهة مفضلة للهجرة بنسبة 40 في المئة تلتها دول مجلس التعاون الخليجي بنسبة 31 في المئة وحلت أوروبا في المرتبة الثالثة بنسبة 16 في المئة.
اغتراب وهجرة غير شرعية
قبل نحو ثلاثة أعوام رد رئيس الوزراء الأردني السابق عمر الرزاز على تساؤل شاب أردني إن كان ينصحه بالهجرة من البلاد بقوله، "لا تهاجر"، واعداً إياه بتحسن الأوضاع الاقتصادية، إلا أن نسب البطالة والفقر والمديونية وغلاء الأسعار آخذة في التصاعد منذ ذلك الحين.
وفيما اعتاد الأردنيون على مشاهدة أخبار الهجرة غير الشرعية عبر شاشات التلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي، في بلدان تشهد حروباً وصراعات واضطرابات سياسية، لم يدر يوماً في خلدهم أن يتحولوا إلى مادة إخبارية لقنوات تلفزيونية أميركية أجرت مقابلات حية مع بعضهم أثناء تسللهم عبر الحدود المشتركة مع المكسيك.
ومنذ بداية عام 2024 خاض شبان أردنيون غمار رحلة مليئة بالأخطار والمشقة، بدءاً من التعامل مع السلطات الرسمية في الدول التي يعبرونها باتجاه الولايات المتحدة، مروراً بشبكات التهريب والسماسرة والعصابات وانتهاء بالظروف الطبيعية القاسية حيث المبيت بالعراء والمشي لساعات وأيام طويلة، في رحلة البحث عن" الحلم الأميركي".
وتحولت قرى عدة وبلدات في شمال الأردن تحديداً إلى مركز للشباب الراغبين بالهجرة، فضلاً عن شبان آخرين بطبيعة الحال من العاصمة عمان ومدن أخرى مركز للشباب الذين يهاجرون إلى الولايات المتحدة بطريقة غير شرعية.
ووصل عدد الأردنيين في أميركا والدول الأجنبية الأخرى لنحو 200 ألف في عام 2021، بحسب أرقام وزارة الخارجية الأردنية. ووفق استطلاع يعود لعام 2020 أجاب نحو 79 في المئة من عينة استُطلعت آراؤها أنهم يفكرون بالهجرة إلى الخارج من دون العودة إلى الأردن مطلقاً.
وبحسب السفارة الأميركية في عمان، يحصل في كل عام نحو 374 أردنياً على فرصة الهجرة العشوائية بنظام القرعة من أصل 50 ألف فرصة مخصصة لكل مواطني دول العالم. بينما حصل نحو 35 ألف أردني على فيزا لمدة خمسة أعوام من بينهم نحو 2500 فيزا لأغراض الدراسة والتبادل الثقافي.
موسم الهجرة إلى بريطانيا
ولا تقتصر أحلام الشباب الأردني على الهجرة إلى الولايات المتحدة بل تتعداها إلى دول أخرى كبريطانيا، إذ تصف تقارير محلية حال بعضهم بأنهم باتوا مشردين في الطرق، فيما تحتجز السلطات البريطانية العشرات منهم لإعادتهم إلى بلادهم.
ووجد آلاف الأردنيين في العاصمة البريطانية ضالتهم بحثاً عن حياة جديدة ومنذ إعلان لندن عن نظام التأشيرة الإلكترونية الجديدة ETA .
يقول عدنان حميدان رئيس منصة العرب في بريطانيا، إن بعض الشباب الأردني قدم إلى لندن عبر الفيزا الإلكترونية رغم معرفتهم بمخالفة ذلك للقوانين المحلية، إذ يحظر عليهم العمل أو الإقامة لفترات طويلة.
ويسرد حميدان بعض القصص المؤلمة لشبان تقطعت بهم السبل في بريطانيا بعد أن اضطروا لبيع كل ما يملكون للسفر إلى لندن بهدف العمل والإقامة، في بلد تعد المعيشة فيها صعبة ومكلفة.
معوقات
ثمة معوقات تواجه راغبي الهجرة من الأردنيين وفقاً لمستويات تعليمهم وخبرتهم ومدى درايتهم بالظروف القانونية والاجتماعية المتعلقة بالهجرة. مثل متطلبات التأشيرات، القوانين الجديدة وصعوبة الحصول على تصاريح عمل. وبعض الإجراءات البيروقراطية المعقدة التي تشكل صدمة لكثيرين وتنهي حلمهم في لحظات فضلاً عن تعرض كثيرين منهم للاحتيال.
في حين يواجه آخرون صعوبات في التكيف والاندماج في المجتمعات المحلية للبلدان التي هاجروا اليها. وتشير نتائج استطلاع للرأي قام به المعهد الجمهوري الدولي في الأردن، إلى أن فئة الشباب الذين تراوح أعمارهم ما بين 18-35 عاماً، هي الفئة العمرية الأكثر رغبة بالهجرة.
بينما حذر استطلاع آخر أجراه مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية من هجرة الكفاءات بسبب جملة من الأسباب المعيشية والاقتصادية والسياسية وضغوط الحياة. الأمر الذي يؤدي إلى استنزاف وتفريغ للمؤسسات الحيوية.
ووفقاً لرئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي، موسى شتيوي، فإن العولمة التي شهدها العالم بشكل متسارع من أبرز أسباب الهجرة. فضلاً عن الأوضاع الاقتصادية والحروب والنزاعات.
ويلفت شتيوي إلى خطورة هجرة الكفاءات الأردنية، على رغم وجود جوانب إيجابية في المقابل إذ تعد حوالات الأردنيين من الخارج محركاً للعجلة الاقتصادية.
دوافع وتحديات متعددة
في المقابل، أسهمت حرب غزة ومن قبلها جائحة كورونا ولو بصورة محدودة في التأثير في قرار الهجرة بالنسبة للأردنيين، مع ودود دوافع أخرى اجتماعية وسياسية، وبعض التحولات النفسية التي قد تدفع بعض الأردنيين للتفكير في الهجرة أكثر من أي وقت مضى بحثاً عن الاستقرار والفرص الاقتصادية.
لكن الباحثة الاجتماعية سجى محمد ترصد آثاراً اجتماعية وثقافية واسعة تتجاوز الجانب الاقتصادي لظاهرة الهجرة كالتأثير في النسيج الاجتماعي، والهوية الثقافية، وديناميات الأسرة، فضلاً عن التغيرات الديموغرافية حيث تؤدي هجرة الشباب إلى انخفاض نسبة القوة العاملة وتؤثر في النمو الاقتصادي والاجتماعي.
ويواجه المهاجرون الأردنيون تحديات قانونية واجتماعية متعددة عند الانتقال إلى بلدان جديدة كالاختلاف في القيم والعادات واللغة خصوصاً الدول التي لا تتحدث الإنجليزية. فضلاً عن نمط الحياة السريع في الدول الغربية وبعض الموروثات والقيم الاجتماعية.
المغرب... أميركا وأوروبا هما الوجهة المفضلة
يأمل آلاف الشباب في المغرب بالحصول على فرصة للهجرة إلى بلدان أوروبا أو أميركا من أجل تحقيق ذواتهم وأهدافهم، سواء في الدراسة أو العمل أو النجاح المهني. هذه الرغبة الجامحة لدى كثيرين ترجمتها أرقام حديثة لدراسة أنجزها البارومتر العربي، ورد فيها أن 35 في المئة من المغاربة يفكرون في الهجرة إلى الخارج.
ووفق الدراسة هناك 55 في المئة من الشباب المغاربة بين 18 و29 سنة أعلنوا عن رغبتهم الأكيدة في الهجرة إلى خارج البلاد، ونحو 24 في المئة فقط من الذين تجاوزت أعمارهم 30 سنة أبدوا رغبتهم في الهجرة.
وتطرقت الدراسة إلى المستوى الدراسي والتعليمي للراغبين في الهجرة، فجاء أن 42 في المئة منهم يملكون مستوى تعليمياً جامعياً، و33 في المئة منهم مستواهم يصل إلى البكالوريا (الثانوية العامة) أو أقل. ولفتت الدراسة إلى دوافع هذه الهجرة نحو الخارج، وتبين أن نحو النصف (تحديداً 45 في المئة) من الراغبين في الهجرة إلى أوروبا أو أميركا أو دول الخليج أيضاً مدفوعون بأسباب مادية واقتصادية بحتة.
تأتي الولايات المتحدة في صدارة الدول التي تجذب الراغبين في الهجرة من الشباب المغاربة، بنسبة 26 في المئة من مجموع الشباب الذين شملهم الاستطلاع، وفي الرتبة الثانية كندا بنسبة 23 في المئة، وألمانيا بـ19 في المئة، وقطر بـ5 في المئة، والسعودية بـ2 في المئة.
وكشفت المعطيات ذاتها عن أن أكثر من نصف الشباب المغاربة الراغبين في الهجرة (تحديداً 53 في المئة) يفكرون في الهجرة بأية طريقة كانت حتى لو كانت هجرة غير نظامية، عبر "قوارب الموت" أو غيرها من الطرق غير القانونية.
يذكر أن غالبية الراغبين في الهجرة هم شباب متعلمون حصلوا على شهادات جامعية متوسطة أو عليا.
طموحات شابة
نهيلة، شابة في العشرينيات تخرجت في أحد المعاهد العليا للمهن شبه الطبية، وتبحث عن أية فرصة عمل في كندا أو بلجيكا.
وحول أسباب رغبتها في الهجرة، وليس العمل داخل الوطن، توضح أن الامر يتعلق بتحسين ظروف عيشها، ومدى المكاسب الاجتماعية والمهنية التي تحصل عليها في أوروبا أو أميركا، مقارنة مع بلدها الأصلي.
وجواباً عن سؤال في شأن اختبار بلجيكا وكندا تحديداً، كشفت نهيلة عن أن السبب يتعلق فقط باللغة التي درست وتخرجت فيها، وهي اللغة الفرنسية، بالتالي تبحث عن آفاق جديدة للشهادة التي حصلت عليها، والوظيفة التي تطمح إليها باللغة نفسها التي درست وتعلمت وتدربت بها داخل بلدها، مثل كندا وبلجيكا، وحتى فرنسا أيضاً.
هذه الحيثية التي وردت على لسان نهيلة وكثير من الشباب، أشار إليها استطلاع البارومتر العربي عندما أكد أن "تفضيلات الشباب في المغرب في شأن اتجاهات الهجرة تختلف تبعاً لعوامل عدة على رأسها الدوافع اللغوية والثقافية".
وإذا كانت نهيلة تنتظر فرصة الهجرة إلى الخارج لتحقيق ذاتها وتتويج مسارها بوظيفة تناسبها، وتتيح لها الرقي المهني والاجتماعي والاقتصادي، فإن عدداً من الشباب المغاربة يرغبون في الهجرة بأقصر الطرق دون انتظار فرص للعمل أو فرص للهجرة من أجل الدراسة خارج البلاد.
ويجنح عديد من الشباب المغاربة صوب الهجرة غير النظامية، أو ما يسمى "الحريك"، إما من طريق "قوارب الموت"، أو باقتحام سياجات مدينتي سبتة ومليلية الواقعتين تحت السيادة الإسبانية، أو عبر السباحة وغيرها من الطرق الاحتيالية، لا سيما من طرف الشباب غير الحاصلين على تعليم جيد، والذين يشكون من الإقصاء الاجتماعي والأسري والنفسي أيضاً.
دوافع رغبات الهجرة
من جهته يرى الباحث السوسيولوجي محمد شقير أن الشباب المغاربة يرغبون في الهجرة إلى الدول الأوروبية، بخاصة دول غرب أوروبا، إذ تأتي فرنسا في الدرجة الأولى، نظراً إلى العلاقات التاريخية بين البلدين، وعامل اللغة الذي يسهل عملية التعامل، إضافة إلى وجود جالية مغربية مقيمة هناك تسهل اندماج الشباب المهاجرين.
ولفت شقير إلى أن إسبانيا وإيطاليا تعدان الوجهتين المفضلتين لدى الشباب المغربي في الهجرة، بالنظر إلى عامل القرب الجغرافي بين المغرب وهذه الدول، فضلاً عن وجود جالية مغربية مقيمة هناك.
وأوضح أن الولايات المتحدة وكندا تحولتا إلى وجهة مفضلة للهجرة لدى شريحة أخرى من الشباب المتعلم المتقن للغة الإنجليزية. وعزا شقير رغبة قطاع عريض من الشباب المغاربة في الهجرة إلى أميركا بفضل ما تتيحه "القرعة الأميركية" (برنامج القرعة لتأشيرات التنوع) لهؤلاء الشباب من فرص للهجرة إلى الولايات المتحدة.
أما بخصوص كندا أفاد شقير بأن الشباب المغاربة يرغبون في الهجرة إلى هذه الوجهة لأنها توفر وسائل متنوعة لاستقطاب الشباب، بخاصة مستوى التغطية الاجتماعية والتعليم الجيد، وبسبب رواج اللغة الفرنسية في بعض المقاطعات هناك.
لبنان... فصول من "الإحباط" المستمر
في عام 1854، وطأ أنطونيوس البشعلاني ابن بلدة صليما، أرض بوسطن الأميركية قبل أن ينتقل إلى نيويورك للدراسة ومن ثم التدريس، فاتحاً صفحة جديدة من حياة أبناء "لبنان الصغير" الذي عانوا ضيق المساحة، ومحدودية الموارد، وجمود النظام السياسي.
ويجزم المؤرخ اللبناني أميل حتي أن البشعلاني هو المغترب الأول إلى العالم الجديد. ما هي إلا سنوات حتى كرّت السبحة، وفتح الباب أمام موجات متتالية من الهجرة انطلاقاً من لبنان الكبير إلى "أرض الأحلام" التي أنقذت أهل البلاد مرّات عدة، إن من المجاعة، أو ويلات الحروب، ومؤخراً من تبعات الانهيار المالي والاقتصادي.
البحث عن أول بابور
هرباً من المجهول الذي يعيشه هاجر اللبنانيون الأوائل نحو المجهول، هذه المعادلة تختصر موجات الهجرة الأولى التي بدأت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر التي انصبت نحو الأميركيتين. حيث كان يتجه اللبناني الذي يعاني ضيق الحال إلى مرفأ جونية أو بيروت، يركب "البابور" أي السفينة، وينزل في آخر محطة، ليبدأ فصلاً جديداً من حياته بحسب الدكتور شوقي عطية.
منذ ذلك الحين، ترسخت الهجرة في وجدان الشعب اللبناني، وباتت المتنفس الأخير والفرصة لتجاوز الصعاب، مُشكلةً قصارى طموح الشريحة الكبرى من الشباب الذين يقضون حياتهم في الدراسة، ويبذلون المال لتنمية الخبرة، ولكن في النهاية يجدون أنفسهم أسرى حلقة مفرغة عنوانها البطالة.
يؤصل الباحث السوسيولوجي عطية لظاهرة الهجرة اللبنانية، فهي ارتبطت بـ "لبنان الصغير" الذي يعرف حالياً بمحافظة جبل لبنان، والتي اتخذت طابع الإمارة ومن ثم بدءاً من 1840 باتت نظام من الحكم الذاتي تحت مسمى القائمقاميتين الدرزية والمارونية، ومن ثم ظهور المتصرفية في 1860 التي يحكمها متصرف مسيحي غير لبناني من التابعية العثمانية.
شكل هذا الإطار السياسي، وعملية تعداد السكان بصورها البدائية، أداةً لرصد الهجرة. وبالتالي أصبحت مغادرة كل فرد من الأفراد المقيمين نحو الخارج علامة فارقة في حياة الجماعة الصغرى والكبرى، وسيتم التعامل معه كمهاجر.
يعزو عطية موجات الهجرة الأولى إلى ضيق المساحة الزراعية، واستخدام التقنيات التقليدية في الانتاج، مما يخلق الحاجة لدى الفرد والجماعة المؤلفة بين 300-400 ألف إنسان مقيم، ناهيك عن اعتماد تقنية البناء الأفقية التي ولّدت ازدحام وكثافة غير مسبوقة، مؤكداً "لم يختر اللبناني المهاجر الأول الوجهة التي يقصدها، فكان هؤلاء الرواد يركبون البحر نحو أماكن مجهولة عليهم، لذلك نجدهم اتجهوا نحو الغرب، نزلوا في البرازيل والولايات المتحدة، وترينداد وتوباغو، والأرجنتين، وغيرها من المناطق الجغرافية البعيدة عنهم".
شكلت زيارة المهاجر الأول لأرض الوطن، وبدء المراسلات الخطية، فرصة لتشجيع أخرين ممن وجدوا معالم النعمة بادية بوضوح على المغتربين، ومع توق الإنسان للتقليد بدأت موجات هجرة جديدة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية وأحياناً سياسية. كما ينوه عطية إلى موجات هجرة قصيرة المدى نحو مصر وتركيا وأوروبا إن للدراسة أو التجارة، لذلك "لا ينظر إليها الكثير من اللبنانيين بالهجرة بسبب القرب الجغرافي أو أنها في نفس الدولة في صيغتها القديمة كما هو حال السلطنة العثمانية الواسعة، وكأنهم ينتقلون من ولاية إلى أخرى".
لَم الشّمل
لم تكن الموجة الثانية من الهجرة إلى المجهول، فقد قصد الجيل الجديد من المهاجرين أقاربهم، ومعارفهم، وهكذا دواليك. لذلك يلاحظ نشوء مجتمعات لبنانية، وأحياناً ذات صبغة مناطقية ضمن شرائح متشابهة، إن في أفريقيا، أو استراليا، أو الأمريكيتين.
ويملك هؤلاء ثقلاً ديمغرافياً كبيراً، وخلال العقد الماضي برزت الدعوات لاستعادة هؤلاء المتحدرين الجنسية اللبنانية، وأقر قانون استعادة الجنسية اللبنانية في عام 2015، ولكن لم تكن النتائج ضمن التوقعات. فقد دعوا للتسجيل، ولكن لم يستجب أكثر من ثلاثة آلاف إنسان.
من هذا المنطلق، يسلط عطية النظر إلى المقاربة اللبنانية "الرومنسية" لموضوع الهجرة ومسائل الهوية، وشعور الجماعات بالكبت وخسارة السلطة، مسلطاً الضوء على ما يعرف بـ "الإحباط المسيحي"، ففي أعقاب الحرب الأهلية شكل هؤلاء 45 في المئة، إلا أن الترويج لهذا الإحباط تسبب لهجرات متزايدة، ليصلوا عتبة الثلث، معطوفاً على تراجع الخصوبة والنمو الديمغرافي. وقد ظهرت بوادر إحباط سني عقب 2005، وتكرار هذه الظواهر يؤدي إلى تأثير عميق في هذا البلد.
يعتقد عطية أن الغالبية الساحقة من اللبنانيين تطمح للهجرة، لا بل تربي أبنائها على ذلك، لافتاً إلى أثر التربية على قرار الأبناء المستقبلي، لأن "أقلية من الأهل باتوا يتعاملون مع الهجرة بمنحى سلبي، ويرددون أن البلد ليس أوتيل نتركه عندما نضجر منه".
كرة الثلج
تشبه ظاهرة الهجرة اللبنانية "كرة الثلج" التي تكبر عاماً بعد عام، وتأتي الأزمات الاقتصادية والسياسية لترسخ هذا المنحى، وسط خشية من تحول البلاد نحو الشيخوخة. يتطرق عطية إلى "أجيال من المهاجرين"، مشيراً "من حيث المبدأ بعد جيلين تضعف الرابطة مع البلد الأم، ولكن تسهم الهجرة المستمرة من الوطن اللبناني في الحفاظ على هذه الرابطة حتى اللحظة"، واصفاً ما يحدث بنزيف مستمر من المهاجرين".
ويشير الباحث السوسيولوجي إلى خسارة كبيرة بفعل هجرة الرأسمال البشري والكفؤ، حيث يخسر لبنان هؤلاء بوصفهم فاعلين في حقول الإبداع والتغيير، وتراجع في البنية الديمغرافية التي أصبحت هرمة "حيث شهد لبنان تراجعاً في النمو السكاني والولادات بنسبة 30 في المئة في عام 2024 مقارنة بما كانت عليه في 2019".
الهجرة والتهجير السياسي
خلال عقد من الزمن غادر لبنان قرابة 626 ألف نسمة، يشكلون 12 في المئة من السكان. وتشكل نسبة الشباب منهم الغالبية، إذ تتراوح أعمار 70 في المئة منهم بين 25 إلى 40 سنة، أي أن البلاد تفقد عصب العملية الانتاج الاقتصادي، وإعادة انتاج السلطة السياسية. وحسب التقديرات غادر 180 ألف لبناني في عام 2023، مقابل 59 ألف غادروا البلاد في 2022 على ضوء دراسة الدولية للمعلومات.
ويعود جزء كبير من تلك الهجرة إلى الشعور بالإحباط لدى اللبناني وعدم القدرة على التغيير في ظل جمود النظام القائم، ورسوخ البنى التقليدية.
يؤكد الدكتور فضل فقيه المدير التنفيذي للمركز اللبناني لحقوق الإنسان أنه "عندما لا يتمكن الفرد من التأقلم مع النظام القائم، سيبحث عن نظام أفضل يؤمن له وجوده، بالرغم من خسارة جزء من البيئة الاجتماعية والعائلية"، مشيراً إلى "وجود سياسة ممنهجة لتخفيض نفقات الدولة على الأشخاص المقيمين على أراضيها، على مستوى استيراد القمح والفيول، والنفقات الطبية وغيرها".
لذلك، يفضل فقيه استخدام مصطلح "تهجير الشباب" من أجل خفض الكلفة، ومن ثم استغلال هؤلاء في معرض محاولتها زيادة مداخيلها بالعملة الأجنبية، وتقدر سبة الحوالات إلى لبنان بقرابة 7 مليارات دولارات أميركي، تساهم في صمود اللبناني المقيم.
يلفت فضل فقيه إلى وجود عوامل متعددة تساهم في الحض على الهجرة، إلى جانب الأزمة الاقتصادية، هناك إحباط بسبب انتهاك النظام السياسي لحقوق الأفراد المواطنين باستمرار وبطريقة ممنهجة، وسط حرمانه من القدرة على المواجهة بمختلف أشكالها، وتحديداً على الصعيد القانوني حيث فرغت المؤسسات القضائية، وتعطيل مفاعيل الانتخابات بفعل العنف الممارس على المخالفين. لذلك، يعتقد أن إقامة مؤسسات قوية، وتكريس استقلالية السلطة القضائية، هي ضرورة من أجل الحفاظ على اللبناني في أرضه بوجه الانتهاكات الجسيمة.
يتطرق فضل فقيه إلى تأثير سلبي لاتفاق الدوحة في اعقاب أحداث 7 مايو (أيار) 2008، الذي قضى على مفهوم المعارضة في لبنان وبروز صيغة "الديمقراطية التوافقية"، وتبعته هجمة شرسة على القضاء اللبناني وتعطيله في المطلق. وبالتالي، تقدمت التسويات السياسية والمساومات على حساب الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للموطنين لأنها لا تشكل أولوية لدى السلطة، منوهاً بنظرة المغتربين للوضع اللبناني التي تكون أقل تأثراً بالاصطفافات السياسية والطائفية والعائلية، حيث يتحررون من الضغوط بصورة جزئية.
كما يعتبر أن "تهجير الأدمغة عامل مساعد لبقاء النظام الحاكم الذي يسعى للحفاظ على شريحة التبعية العمياء، وليس أصحاب التفكير المتحرر. لذلك لبنان شهد مرحلة إفقار ممنهجة، من أجل استغلال هؤلاء عند الحاجة إليهم، وخير دليل شراء الأصوات في الانتخابات".
الجزائر... الهجرة رغبة جامحة لدى الغالبية
تستمر ظاهرة الرغبة في الهجرة لدى الجزائريين في التفاقم خلال السنوات الأخيرة، وباتت مصدر قلق وتساؤلات لدى كثير من المراقبين كونها تطاول فئات متنوعة من المجتمع. وتطرح معها علامات استفهام حول الأسباب التي تدفع الجزائريين نحو التفكير في الهجرة وتداعياتها، بعد أن أصبح كل جزائري مشروع مهاجر ولو بعد حين.
سياق تاريخي
تعتبر ظاهرة الهجرة في الجزائر جزءاً من السياق التاريخي العميق الذي يعود لفترة الاستعمار الفرنسي، بدأ هذا السياق تحديداً في عام 1871 عندما استولت حكومة الجمهوريين في فرنسا على 500 ألف هكتار من الأراضي الزراعية الخصبة في الجزائر، ضمن إطار سياسة "الاستعمار الرسمي" التي هدفت إلى منح الأراضي مجاناً للمهاجرين الفرنسيين والأجانب وتشجيعهم على بناء المدن الصغيرة في الريف الجزائري.
نتج من هذه السياسة تدفق كبير من سكان الريف الجزائري نحو مراكز الاستيطان التي أنشأتها الحكومة الفرنسية، إذ وجدوا فرصاً للعمل في الزراعة والبناء، وبدأت الهجرة تتخذ طابع التنقل القصير في البداية، قبل أن تتسع وتصبح منتظمة بمرور الوقت.
مع دخول القرن الـ20، وتحديداً في الربع الأول منه، تحولت الهجرة إلى فرنسا نفسها مع توسع الصناعة هناك وحاجة المصانع إلى اليد العاملة. بدأت أعداد كبيرة من الجزائريين في الهجرة إلى هذا البلد الأوروبي، بخاصة إلى مدينة مرسيليا وضواحيها، بحثاً عن فرص عمل في وظائف لا تتطلب مهارات عالية. ومع اندلاع الحربين العالميتين الأولى والثانية، أصبحت فرنسا تعتمد بشكل متزايد على العمال الجزائريين لتعويض نقص اليد العاملة نتيجة الحرب.
بعد استقلال الجزائر شهدت البلاد موجة جديدة من الهجرة نتيجة للصعوبات الاقتصادية ونقص الوظائف، إذ لجأ عدد من الجزائريين إلى الهجرة لفرنسا بحثاً عن حياة أفضل.
وعلى رغم الجهود الفرنسية للحد من هذه الهجرة، استمرت الأعداد في الارتفاع حتى وصلت إلى مستويات قياسية في الستينيات، مما دفع فرنسا إلى إغلاق باب الهجرة في وجه الجزائريين عام 1964.
روابط مشتركة
وتحتضن أوروبا أكبر عدد من أفراد الجالية الجزائرية المقيمة في العالم، في مقدمها فرنسا، التي تعود بالأساس للروابط التاريخية المشتركة، بسبب الاحتلال الذي دام 132 عاماً، وتلاه بعد الاستقلال اتفاقات عدة ثنائية لتسهيل تدفق واندماج المهاجرين الجزائريين في فرنسا.
يقدر عدد الجزائريين المقيمين في الخارج بنحو 7 ملايين شخص، وفقاً لتقارير حكومية وإحصاءات مختلفة، الغالبية العظمى منهم يعيشون في فرنسا، إذ يشكل الجزائريون واحدة من أكبر الجاليات الأجنبية هناك. إضافة إلى فرنسا توجد جاليات كبيرة من الجزائريين في دول أوروبية أخرى مثل إسبانيا إيطاليا وبلجيكا، وفي دول الخليج العربي وكندا والولايات المتحدة.
وفي كل مرة يتم فيها الحديث عن المهاجرين الجزائريين، يطرح ملف التحويلات المالية للمغتربين، وتشير تقديرات البنك الدولي إلى أن الجزائر حلت السابعة عربياً من حيث تدفق أموال المغتربين بنهاية ديسمبر (كانون الأول) 2023، وبلغت 1.8 مليار دولار، ما يمثل 0.8 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، وهي نسبة ضئيلة ترتفع معها مطالب متكررة بتحسينها.
أسباب متشابكة
وتعد الظروف الاقتصادية من أبرز العوامل التي تدفع الجزائريين نحو الهجرة، بسبب معاناة الاقتصاد من مشكلات هيكلية مزمنة تشمل البطالة المرتفعة، بخاصة بين الشباب، وأزمة نقص فرص العمل الجادة، وصعوبات في تحقيق الاستقرار المالي، مما يعكس تحديات كبيرة تواجه الشباب في الحصول على فرص عمل ذات جودة، مما يدفعهم للبحث عن فرص أفضل في الخارج.
إضافة إلى العوامل الاقتصادية، تلعب العوامل الاجتماعية والسياسية دوراً مهماً في قرار الهجرة، بما في ذلك القلق من الفساد الإداري، وضعف الخدمات العامة، ونقص فرص المشاركة في صنع القرار، هذه العوامل تؤدي إلى حال من الإحباط واليأس بين فئات واسعة من المجتمع، مما يسهم في زيادة الرغبة في مغادرة البلاد بحثاً عن بيئة أكثر استقراراً وفرصاً أفضل لتحقيق الذات.
ولعل أحد التداعيات البارزة لظاهرة الهجرة في تأثيرها في البنية الاجتماعية في الجزائر، بخاصة عندما تكون مكثفة، أنها تؤدي إلى نقص في الكفاءات البشرية والمواهب التي تشكل جزءاً أساساً من عملية التنمية الوطنية.
هذا النقص قد يؤثر في مختلف القطاعات، من التعليم إلى الصحة، إذ يفرغ السوق من الأفراد المؤهلين والطاقات الشابة القادرة على إحداث تغيير إيجابي.
وسعياً منها إلى وقف نزف الكفاءات الطبية والعلمية نحو الخارج، قررت السلطات الجزائرية في يوليو (تموز) الماضي تجميد التصديق على شهادات الكفاءة الطبية للأطباء موقتاً حتى تاريخ آخر.
وقدمت وزارة التعليم العالي توضيحات في شأن قرارها منع التصديق على الوثائق الخاصة بخريجي كليات الطب بالجزائر، وأكدت أنه "في إطار دراسة سبل كبح ظاهرة هجرة الكفاءات الوطنية لخريجي العلوم الطبية نحو الخارج، علقت عملية التصديق المباشر على شهادات العلوم الطبية موقتاً، وستستأنف بعد اقتراح حلول تسمح بمعالجة هذه الظاهرة والحد منها".
وتثير هجرة الأطباء من الجزائر إلى الخارج جدلاً سياسياً متواصلاً في البلاد، ففي فبراير (شباط) 2022 نشرت وزارة الصحة الفرنسية بيانات تؤكد نجاح أكثر من ألف طبيب جزائري في امتحان المناظرة ومعادلة الشهادات، الذي يعد البوابة الرئيسة للعمل طبيباً في فرنسا، مما يسمح لفرنسا بالاستفادة مجاناً من الكوادر الطبية الجاهزة التي أنفقت عليها الجزائر ملايين لتكوينها.
ودفعت هذه البيانات البرلمان الجزائري آنذاك إلى استجواب الحكومة في شأن الخطط التي تسمح "بتدارك الأمور قبل تفاقمها وحدوث مضاعفات أصعب على المجتمع الجزائري، ومعالجة الأوضاع المادية للطبيب، وتحسين الظروف المهنية والاجتماعية".
وفي مارس (آذار) الماضي أطلقت مجموعة من الجزائريين المقيمين في الخارج "مجلساً عالمياً لجزائريي المهجر"، بناء على طلب من حكومة البلاد، التي تبحث عن أدوات لصناعة الرأي، والتأثير في القرارات التي تصنع بالخارج.
ظروف قاهرة
ويقول الإعلامي الجزائري موسى قاسيمي إن كثيراً من الشباب الجزائريين ممن يقدمون على الهجرة بطريقة قانونية أو غير شرعية إلى الضفة الأخرى من البحر الأبيض المتوسط يعتقدون أنهم سيجدون ظروفاً أفضل من تلك التي يعيشونها في بلادهم، وأنهم سيجدون كل أسباب النجاح والتفوق بمجرد أن تقع أقدامهم تراب القارة الأوروبية.
ويوضح في حديث لـ"اندبندنت عربية" أن "من بين الدوافع التي تشجع الشباب على الهجرة بحسب آراء بعضهم، الظروف القاهرة التي يعانونها، على غرار مشكلة البطالة والتسرب المدرسي وتعاطي المخدرات، وهناك من أصابهم اليأس في إيجاد منصب عمل لائق يضمن لهم دخلاً من شأنه توفير حاجاتهم الأساسية وحاجات أفراد عائلاتهم، لأن الهجرة في الواقع لا تقتصر بشكل خاص على غير المتمدرسين ومن لا يملكون شهادات عليا ووظائف فحسب".
ويضيف أن "بعض المؤشرات تؤكد في المقابل وجود دكاترة وخريجي الجامعات وطلبة جامعيين ورياضيين وفنانين وحرفيين وشباب ينتمون لفئات مختلفة ضمن العشرات من الذين يهاجرون نحو أوروبا ومختلف الدول الأخرى، بمن فيهم الفتيات والنساء وربما عائلات بأكملها".
وأفاد قاسيمي بأن "فئة الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 22 و40 سنة من أكبر الفئات العمرية التي تحاول ولو على حساب حياتها امتطاء ما يسمى بقوارب الموت بحثاً عن غد أفضل ومستقبل مشرق - على حد تعبيرهم - في البلدان التي يتجهون إليها على غرار إيطاليا وإسبانيا، ومنهم من يقصد اليونان وتركيا كبلدان عبور، قبل التوجه في ما بعد إلى دول أوروبية، خصوصاً فرنسا بحكم عامل اللغة، أو إنجلترا وبلجيكا".
هاجس دائم
في المقابل يرى أستاذ علم الاجتماع بجامعة وهران الدكتور ياسين فعفاع أن ملف الهجرة خصوصاً غير الشرعية من المشكلات والقضايا المطروحة دولياً، وشكل هاجساً لعدد من الدول والحكومات في العالم، إذ تعد الجزائر من بين الدول التي تشهد هجرة مواطنيها وشبابها بشكل مستمر الجزائر.
ويقول فعفاع إن ظاهرة الهجرة عرفت تفاقماً خطراً في السنوات العشر الأخيرة، بحسب الأخبار المنتشرة أيضاً عبر مواقع التواصل الاجتماعي على رغم غياب إحصاءات رسمية حول العدد الحقيقي للمهاجرين غير الشرعيين، إلا أن الواقع يكشف عن حقائق وأرقام تقديرية وتقريبية مقلقة.
ويضيف أن أسباب ظاهرة الهجرة، بحسب عدد من الدراسات الأكاديمية وخصوصاً في علم الاجتماع ترجع إلى الوضع الاجتماعي المتدهور وضبابية الأفق التنموي في تمثلات الشباب، بالتالي فقدانهم الأمل في تحسن الوضع.
وضمن هذا السياق تبرز أزمة البطالة والسكن التي تعد أكبر الهواجس التي تزعج الشباب والعائلات الجزائرية، إضافة إلى غياب تكافؤ الفرص خصوصاً بين الكفاءات العلمية، وحدوث شرخ واضح بين المسؤولين والسياسيين وخطاباتهم التي توصف لدى الشباب بالشعبوية والديماغوجية.
أما الأسباب النفسية، بحسب المتحدث، فتعتبر تحصيل حاصل للعوامل والأسباب الاجتماعية، ومنها الإحباط النفسي الحاد والخطر وحالات الاكتئاب نتيجة ذلك.
ويقول إن آخر الدراسات السيكولوجية تشير إلى أن حالات الاكتئاب ومنه إدمان الشباب للمخدرات بكل أنواعها في ارتفاع خطر، معتبراً ذلك من الأسباب المباشرة للتفكير والعمل على التخطيط والذهاب إلى تنفيذ فعل الهجرة مهما كلف الأمر.
ويؤكد فعفاع أن الشباب الجزائري بحاجة إلى مؤشرات حقيقية تجعله يرى إمكان تغيير الواقع إلى الأفضل، عبر تنمية اقتصادية حقيقية وعدالة اجتماعية وخطاب سياسي يقدم ضمانات عملية لتأمين مستقبلهم.
العراق... الحلم الأوروبي الكبير
يحلم عامر سعد (45 سنة) بحياة جديدة في أوروبا، والابتعاد عما يسميه حياة الإحباط في العراق، عسى أن يجد ضالته في بلاد الغرب، وسعد متزوج وأب لثلاثة أطفال أكبرهم قد أكمل 13 ربيعاً. يقول "أبحث عن فرصة هجرة إلى أوروبا وإذا ما وجدت سأهاجر بالتأكيد".
ويوضح أن الفرصة أتيحت له عام 2018، من خلال السفر إلى تركيا عبر مهربين، لكنه لم يجازف كونه أباً لعائلة ويخاف على مصيرها في حال حصل له أي مكروه.
سعد ليس وحده من يفكر بالهجرة، إذ يوجد ملايين العراقيين تركوا البلاد لأسباب مختلفة، منها الوضع الأمني والسياسي، والمشكلات الاقتصادية الصعبة وازدياد نسبة البطالة.
الرجوع إلى العراق
يروي إياد صالح الذي هاجر إلى السويد معاناته بعد رفض طلب لجوئه في السويد وعودته إلى العراق . يقول "سافرت إلى السويد عام 2018 بسبب الوضع الأمني والاقتصادي السيئ وبعد معاناة طويلة، ورحلة ماراثونية عبر البحار، بعدما دفعت للمهربين كل مدخراتي ليوصلوني إلى أوروبا".
ويضيف "بعد رحلة طويلة استقريت في السويد لأقدم طلب لجوء هناك، لكن طلبي رفض بعد ستة أعوام من الانتظار، مما اضطرني للعودة إلى العراق".
4 ملايين عراقي
وبحسب إحصائية أطلقها المركز العراقي لحقوق الانسان، هناك 4 ملايين لاجىء عراقي حول العالم يوجدون بصورة رئيسة في الولايات المتحدة، ألمانيا، بريطانيا، الدول الأوروبية، وبعض الدول العربية. وازدادت ظاهرة الهجرة في العراق بعد 2014 بعد سيطرة تنظيم داعش على ثلث مساحة البلاد .
إرجاعهم قسراً
ويوضح عضو لجنة الهجرة والمرحلين النائب سوران عمر أن الوجهة الأولى للاجئين هي أوروبا ، مشيراً إلى رجوع مئات منهم بعد رفض طلبات لجوئهم. وقال عمر "أعداد الذين هاجروا ويعتزمون المهاجرة بازدياد وأسباب الهجرة مختلفة، فسابقاً كان كثير ممن هاجروا هم من الأحزاب المعارضة، وذهبوا إلى دول الجوار".
وبعد سقوط نظام صدام والحرب الطائفية وحرب داعش هاجر كثير من العراقيين لأسباب عدة سواء بسبب الوضع الأمني والاقتصادي والحروب التي عانتها البلاد. وبيّن عمر أن أعداد الذين هاجروا تزداد وهم يهاجرون، بصورة غير شرعية من طريق مهربين يأخذون مبالغ هائلة في مقابل خدماتهم .
وعن الطريق الذي يسلكه المهاجرون، أوضح عمر "أن الغالبية تذهب من طريق تركيا بسبب الفقر والوضع الاقتصادي"، مشيراً إلى أن المهاجرين يهربون من طريق البحر إلى دول أوروبا.
ولفت إلى وجود مشكلة أخرى تتمثل بعودة المهاجرين من أوروبا إلى العراق بعد رفض طلبات لجوئهم، وتوقيع العراق اتفاقات مع تلك الدول على عودة العراقيين الطالبين اللجوء للبلاد.
الاقتصاد والأمن والحريات
يرى الكاتب والصحافي باسم الشرع أن الوضع الاقتصادي والأمني وغياب الحريات هو الذي يدفع الشباب العراقي إلى الهجرة. ويضيف "عوامل الهجرة السابقة موجودة ومتمثلة بغياب النمو الحقيقي وانعدام فرص العمل". ورجح أن تتقلص الهجرة بصورة عامة لعدم وجود فرص لدخول الأراضي الأوروبية لا سيما مع التشديد الأمني في ظل الحرب بين روسيا وأوكرانيا.