ملخص
على رغم قيمة التراث المسيحي في مصر والذي يمتد تاريخه إلى بدايات ظهور المسيحية، فإن الأمر لا يخلو من أزمات بين حين وآخر تتعلق بصون هذا التراث، باعتباره جزءاً مهماً من تاريخ مصر.
على رغم قيمة وأهمية التراث المسيحي في مصر، والذي يمتد تاريخه إلى بدايات ظهور المسيحية، فإن الأمر لا يخلو من أزمات تواجهه بين حين وآخر وتتعلق بالحفاظ عليه والعمل على وضعه في المكانة التي يستحقها، وصونه باعتباره جزءاً مهماً من تاريخ مصر.
ومنذ أعوام قليلة أثيرت أزمة معنية بأعمال ترميم حدثت في دير درنكة بمحافظة أسيوط، والذي يعد آخر محطات رحلة العائلة المقدسة في مصر، إذ اعتبر بعضهم أن أعمال الترميم لم تراع الطبيعة الأثرية للمكان الذي يعد من أهم المواقع المسيحية في مصر.
من يحمي التراث؟
أزمة أخرى أثيرت أخيراً بعدما هدمت مطرانية ملوي بمحافظة المنيا، ويعود تاريخ بنائها لأوائل القرن الـ 20، وعلى رغم أنها غير مدرجة كأثر فإن لها قيمة معمارية وفنية، أما مبرر الهدم فهو أن المنطقة في احتياج إلى كنيسة أكبر لاستيعاب أعداد أكثر من المسيحيين، وستبنى بالفعل أخرى في الموقع ذاته بمساحة أكبر، وهو ما بدا مبرراً غير منطقي لبعضهم، إذ كان يمكن الحفاظ على الكنيسة القائمة وبناء أخرى في موقع آخر، أو إجراء توسعة بصورة معينة تضمن الحفاظ على أصل المبنى.
وأثارت هذه الوقائع تساؤلات عن المعيار الذي يحكم الإبقاء على كنيسة أو هدمها، ومن هو صاحب القرار في هذا الأمر في حال كانت الكنيسة غير مسجلة كأثر ولكنها ذات قيمة معمارية، ويقول أستاذ اللغة القبطية بجامعة سوهاج إبراهيم ساويرس إن "ما يحكم قيمة أي أثر عاملان، الأول هو الفرادة، فهناك قطع أو مواقع أثرية ليس لها مثيل، وهناك أخرى توجد منها نسخ عدة، والعامل الثاني هو القدم، وأيضاً القيمة التي يمثلها الأثر للحضارة ولفن العمارة في العصر الذي يعود له، وهي عوامل تشكل مجتمعة قيمة الأثر".
ويضيف، "أزمة هدم كنائس التي ليست مسجلة كآثار لكن لها قيمة فنية ومعمارية تظل مستمرة، لأن الواقع حالياً هو أن مطران المنطقة أو المحافظة التي تضم الكنيسة هو الوحيد المنفرد بسلطة اتخاذ القرار في ما يتعلق ببقاء أو هدم المبنى، ولا يمكن أن يراجعه أحد سواء كان ذا صفة دينية أو علمانية، وهذا أمر لا يصلح حالياً ولا يتناسب أبداً مع طابع العصر الحالي، والأزمة الأكبر أن كل الكليات الإكليريكية لا يُدرس فيها أية مواد تعنى بالتراث المادي، فيتخرج الكاهن أو الراهب ولم يدرس العمارة والفن والمخطوطات وغيرها من الجوانب التراثية، وبالتالي لا يدرك قيمتها وأهميتها وما تمثله من قيمة للتراث، مما ينعكس بصورة مباشرة على تعامله معها".
ويتابع، "الأزمة الأكبر أنه بعد هدم مبنى الكنيسة، وكنتيجة لعدم الوعي بهذه الجوانب في بعض الأحيان، تقام كنيسة جديدة على طرز أجنبية ليست لها أية علاقة بالطابع المصري المتعارف عليه في بناء الكنائس، سواء في المعمار أو في اختيار الأيقونات، فنفقد طابعنا المصري تدريجاً، وفي الوقت ذاته لا بد من الترويج لكثير من المواقع المسيحية ذات الأهمية الكبرى والتي لا وجود لها على الخريطة السياحية من الأساس مثل الدير الأبيض بمحافظة سوهاج، فهو يعود لـ 1500 عام مضت، ويمثل أهمية كبيرة ولكنه لا يحظي بالاهتمام نفسه الذي ربما تحظى به مواقع أخرى أقل في الأهمية التاريخية".
ترميم الآثار القبطية
دعوات عدة وجهود خرجت خلال الفترة الأخيرة لوضع عدد من المواقع الأثرية المسيحية على الخريطة السياحية، ولكن الأمر يحتاج إلى مزيد من الجهد، فبعض المواقع على رغم قيمتها التاريخية الكبرى ربما لا يعرف المصريون أنفسهم كثيراً عنها وتحتاج إلى اهتمام أكبر، سواء من الدولة أو القائمين على السياحة، إضافة إلى المهتمين بالحفاظ على التراث.
ويقول ساويرس إن "التراث المسيحي في مصر يحتاج إلى التعامل معه بصورة مختلفة، فبداية لا بد من وجود أقسام للدراسات القبطية في الجامعات لتخريج أشخاص متخصصين قادرين على التعامل مع هذا التراث باعتباره جزءاً من تاريخ وحضارة مصر، وهذا سيحل كثيراً من الأزمات لأن مفتش الآثار في المواقع المسيحية المختلفة مثل الكنائس أو الأديرة غالباً يكون على غير علم أو دراية بطابع المكان وفلسفته، وعند تعامله مع رجال الدين أو الرهبان لا توجد أي لغة حوار بينهم مما يؤدي إلى كثير من المشكلات التي يمكن تجنبها، فما نحتاجه هو نشر الوعي بقيمة وأهمية التراث المسيحي كجزء من تاريخ مصر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا تقتصر أزمات التراث المسيحي في مصر على صون التراث القبطي أو المعايير التي يبنى عليها هدم كنيسة معينة أو الإبقاء عليها، وإنما تمتد إلى ترميم كثير من المباني ذات القيمة الفنية والتاريخية التي تكون غير مسجلة كأثر وتتعرض أحياناً لعمليات ترميم تفقدها قيمتها وطابعها التاريخي، فمن يتحمل مسؤولية ترميم مثل هذه المواقع؟
أستاذ القبطيات بجامعة القاهرة عاطف نجيب يقول "بالفعل هناك أزمة في ما يتعلق بترميم المواقع المسيحية ذات القيمة التاريخية والفنية غير المسجلة كأثر، وهناك أمثلة كثيرة ومن أبرزها كنيسة المغارة بدرنكة في صعيد مصر، إذ لا يراعى القدم والطابع الخاص في عمليات الترميم من حيث الخامات المستخدمة ونظم الإضاءة وما إلى ذلك، وعلى أرض الواقع لا توجد جهة محددة تتولى متابعة هذا الأمر، فالجمعيات المسيحية لا تهتم بالإنفاق على الترميم لأن لها أولويات أخرى، وتعتبر أن هذه الأمور مسؤولية الدولة والكنيسة، وعادة ترمم من دون إشراف متخصصين يدركون قيمة هذه المواقع، فتفقد كثيراً من طابعها".
ويتابع، "منذ فترة صدر قرار بابوي بإنشاء لجنة بابوية للعناية بالكنائس القديمة، سواء المسجلة كأثر أو غير المسجلة، ضمت أساتذة في تخصصات الهندسة والعمارة، وكنت ضمن أعضائها كأثري وحيد في تشكيلها، وقد كانت خطوة جيدة ولكن على أرض الواقع لم تنعقد اللجنة من الأساس ولم تمارس عملها بإصدار اقتراحات أو توصيات، ولا نعرف ما هو مصيرها حتى الآن، وأزمة ترميم المباني الدينية لا ترتبط بالكنائس فقط، فقد شاهدنا كثيراً من المساجد وقد رُممت بصورة أفقدتها طابعها، وما يحدث في كثير من المباني بدعوى العناية بترميمها ورفع كفاءتها يتسبب في محو كثير من قيمتها".
ويكمل أن "أي موقع مسيحي يُدرج كأثر لا بد من أن تكون له أهمية في التاريخ المسيحي، وأن يحوي عناصر فنية مهمة وذات قيمة، وكثير من الكنائس لها قيمة تاريخية وفنية ولكنها غير مسجلة في عداد الآثار لأن القانون يشترط أن يكون مر على الموقع 100 عام من تاريخ صدور هذا القانون عام 1983، وبالتالي تفقد كثير من المواقع المهمة بدعوى عدم وجود شىء يحميها، والمثال الواضح أخيراً هو مطرانية ملوي، فهي مبنى له قيمة كبيرة ويعود لعشرينيات القرن الماضي، ولكنه هدم على رغم إمكان إيجاد الحلول له".
المسيحية في مصر
ومن بين حضارات متنوعة مرت على مصر منذ فجر التاريخ، كان العصر المسيحي الذي لا تزال شواهده باقية في آثار تمتد من شمال البلاد إلى أقصى جنوبها، فمذ كانت المسيحية في مهدها احتضنت مصر العائلة المقدسة بعدما هربت العذراء مريم بابنها واتجهت إلى مصر لتبارك العائلة المقدسة في رحلتها 25 موقعاً لا تزال تشهد على قيمة التراث المسيحي المصري، وقد نالت الكنيسة القبطية المصرية مكانة خاصة بين الكنائس المسيحية في العالم فهي من أقدمها، وقد أنشأها القديس مرقص في القرن الأول الميلادي في الإسكندرية، وبحلول القرن الثالث الميلادي نشأت الرهبنة للمرة الأولى في مصر على يد الأنبا أنطونيوس لتنطلق منها إلى العالم كله.
ولا يقتصر التراث القبطي على المواقع الأثرية والكنائس والأديرة وإنما يمتد إلى كثير من العادات والاحتفالات والتراث غير المادي الذي تمسك به المسيحيون على مر العصور، واكتسب بعضه صبغة مصرية تميزه وتضفي عليه طابعاً لا يوجد في أي مكان آخر في العالم، والمثال الأبرز على ذلك هو الموالد المسيحية التي تتشابه فيها كثير من العادات والاحتفالات مع الموالد التي يقيمها المسلمون لآل البيت والأولياء، فالطابع المصري له الغلبة في النهاية، بل إن هناك بعض المسلمين الحريصين على المشاركة في الموالد المسيحية، مثل مولد العذراء الذي يقام بجبل الطير في صعيد مصر.
على قوائم "يونيسكو"
لمصر سبعة مواقع مدرجة على قوائم التراث العالمي لـ "يونيسكو" ومن بينها موقعان ينتميان إلى التراث المسيحي وهما دير "سانت كاترين" ودير "أبو مينا" الواقع غرب مدينة الإسكندرية، وخلال الأعوام الأخيرة نجحت مصر في إدراج رحلة العائلة المقدسة والاحتفالات المرتبطة بها على قوائم التراث العالمي غير المادي، وإضافة إلى ذلك تبنت مشروعاً لإحياء مسار رحلة العائلة المقدسة بكل مواقعها لوضعها على الخريطة السياحية، حيث تعتبر الأماكن التي مرت بها العائلة المقدسة في مصر من أهم مواقع التراث المسيحى في العالم لا في مصر وحسب، باعتبارها محطات مرت بها وأقامت فيها أثناء رحلتها من الشمال وصولاً إلى القاهرة وحتى صعيد مصر.
ويقول عضو المجلس الأعلى للثقافة لجنة التاريخ والآثار عبدالرحيم ريحان إن "مصر سجلت بالفعل موقعين من أهم المواقع المسيحية على قائمة التراث العالمي وهما دير سانت كاترين الذي أنشأه الإمبراطور جستنيان لإحياء ذكرى زوجته ثيودورا عام 560 ميلادية، وسجلت مدينة سانت كاترين كتراث عالمي استثنائي عام 2002 لأهميتها الدينية ووجود الدير وجبلي موسى والتجلي"، ويتابع أنه "في البداية أطلق على الدير دير طور سيناء وحتى الآن لا يزال ختم مطران الدير باسم دير طور سيناء، ثم تحول اسمه إلى دير سانت كاترين في القرن التاسع الميلادي بعد العثور على رفات القديسة كاترين على أحد جبال المنطقة الذي حمل اسمها".
ويضيف، "يضم الدير منشآت مختلفة ومنها كنيسة التجلي التي تحوي داخلها كنيسة العليقة الملتهبة وتسع كنائس جانبية صغيرة، كما يشمل الدير 10 كنائس فرعية وحجرة طعام ومعصرة زيتون ومنطقة خدمات وقلايات للرهبان ومعرض جماجم، علاوة على مكتبة الدير التي تحوي 4500 مخطوط من بينها مخطوطات فريدة ونادرة".
والموقع الآخر، بحسب ريحان، هو دير أبو مينا، وقد سجل في "يونيسكو" كتراث عالمي عام 1979، وقد بدأ إنشاؤه أواخر القرن الخامس الميلادي ويبعد 75 كيلومتراً غرب الإسكندرية، ويضم الدير مركز الحج، وهو مكان لتجمع الحجاج المسيحيين، كما يضم كنيسة على الطراز البازيليكى وكنيسة المدفن وبها قبر القديس مينا والمعمودية التي تقع غرب كنيسة المدفن وبئر التعميد المكون من ثلاث درجات والمغطى بالفسيفساء".
رحلة العائلة المقدسة
الطريق الممتد من شمال مصر وحتى الصعيد الذي سلكته العائلة المقدسة في رحلتها، يضم عدداً من المواقع المهمة ومن بينها كنيسة أبو سرجة التي تضم المغارة التي اختبأت بها العائلة المقدسة، وشجرة مريم في المطرية ومغارة جبل الطير في المنيا ودير المحرق في أسيوط وغيرها من المواقع المهمة، وقد عملت مصر أخيراً على إحياء هذا المسار وافتتحت كثيراً من النقاط الممتدة خلاله بعد تطويرها للعمل على وضعها على الخريطة السياحية.
ويقول ريحان إن "مسار رحلة العائلة المقدسة تضم 25 نقطة تمتد لمسافة 3500 كيلومتر ذهاباً وعودة من سيناء حتى أسيوط، وتعتبر محطات الرحلة العدة مزارات مهمة لكل المهتمين بالتراث المسيحي، وقد نجحت مصر عام 2022 في تسجيل ملف الاحتفالات المرتبطة بالعائلة المقدسة على القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للإنسانية، والتي تشمل احتفال مولد السيدة العذراء وعيد دخول العائلة المقدسة، ويجب أن تسعي مصر إلى تقديم ملف لتسجيل مسار العائلة المقدسة كاملاً من رفح إلى دير المحرق في أسيوط تراثاً ثقافياً في 'يونيسكو' ليسهم في إحياء هذه الطريق والترويج له كتراث عالمي استثنائي".
وإضافة إلى عدد من الكنائس والأديرة التي تمتد في مصر من الشمال إلى أقصى الجنوب، يوجد في القاهرة واحد من أهم المتاحف المعنية بالتراث المسيحي في العالم، وهو المتحف القبطي الواقع في منطقة مجمع الأديان الذي يضم مجموعة من أهم القطع الأثرية المسيحية في العالم، إضافة إلى وجود الكنيسة المعلقة التي تعد من أشهر وأهم الكنائس في مصر.
وتقول مديرة المتحف جيهان عاطف إنه "بدأ العمل على إنشاء المتحف القبطي عام 1908 على يد مرقص سميكة باشا الذي اقترح على البابا كيرلس الخامس بطريرك الأرثوذوكس في ذلك الوقت إنشاء متحف يجمع الآثار المسيحية، فكانت البداية بحجرة في الكنيسة المعلقة ضمت مجموعات اُستقدمت من متحف بولاق ومن الأديرة والكنائس القديمة، إضافة إلى مقتنيات كان يملكها أعيان الأقباط، ولما زادت المقتنيات تباعاً استدعت الحاجة إنشاء متحف منفصل، فجاء إنشاء المتحف القبطي الحالي، ومع زيادة المقتنيات أنشئ له جناح آخر عام 2006، وتم الربط بينهما".
وتضيف، "يضم المتحف أكثر من 16000 قطعة أثرية، وهو المتحف النوعي الوحيد في العالم الذي يضم هذا العدد من القطع الأثرية، ومن بينها كثير من القطع الفريدة والنادرة مثل كتاب سفر المزامير، وهو أقدم نسخة كاملة لمزامير داوود في العالم، كما يضم كثيراً من الأيقونات النادرة ومن بينها أيقونة تمثل نشأة الرهبنة للأنبا بولس والأنبا أنطونيوس، وأيقونات نادرة لرحلة العائلة المقدسة وعدد من قطع نسيج القبطي الشهير".