Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نحو معالجة فلسفية لانحرافات المسلك الإنساني المعاصر

خطر الأيديولوجيا يهدد المجتمع بعيدا عن القراءة النقدية

رسمة تمثل مفهوم الإيديولوجيا (صفحة إيديولوجيا - فيسبوك)

ملخص

لا مجتمع من دون أيديولوجيا، ومن دون مجموعةٍ من الأفكار والقيَم والمبادئ التي تخصه. لكن هذا لا يعني أن تُنزه الأيديولوجيا، فلا تخضع للنقد الشديد والقاسي حتى لا تتحول إلى أفيونٍ يدمر المجتمع. إذاً، إن الأيديولوجيا أنظومةُ "المبادئ" والقيَم والعقائد والأفكار المترابطة والمتماسكة التي تؤمن بها جماعةٌ معينةٌ من البشر وتبدو لهم أنها الأمْثَل إذا ما أرادوا أن يعيشوا حياةً فُضلى.

يمكن النظر في الأيديولوجيا كما لو كانت برنامجاً سياسياً طويل الأمد، غايتها تعبئة الجماهير وتحفيزها وتحريكها للوصول إلى السلطة وتحقيق الأهداف المرجوة. غاية الأيديولوجيا، إذاً، الفعلُ في الواقع، غايتها تحريكُ الجماهير، وليس المعرفة المنزهة عن الغرض أو البحث عن الحقيقة بغض النظر عن منفعة هذا البحث العملية، كما هي حال الفلسفة. لذلك بإمكاننا القول إنها، في جوهرها، سياسيةٌ بامتياز. من بين وجوه اختلافها أيضاً عن الفلسفة أنها تخص جماعةً معينةً من البشر، في حين أن الفلسفة تتوجه من حيث المبدأ إلى البشرية جمعاء. إنها تناسب السياسيين والمثقفين الذين يدعون امتلاكَ قدراتٍ خارقةٍ بإمكانها تغيير الواقع، لكنها لا تناسب الفلاسفة الذين جل همهم أن يبحثوا عن الحقيقة.

على رغم كل مثالب الأيديولوجيا وسيئاتها، فإنه لا بد منها ولا غنًى عنها، إذ لا بد لكل مجتمعٍ من أنظومةٍ من الأفكار والقيَم والأفاهيم والمبادئ والعقائد المترابطة التي يعمل بهَدْيها. فالأيديولوجيا تحث أصحابها ومُعتنقيها وتدفعهم لكي يعملوا ويغيروا وجه التاريخ. أملنا الوحيد أن يصاحبَ الأيديولوجيا نوعٌ من النقد الفلسفي الحر حتى لا تتحول إلى دينٍ جديد، أو إلى مجموعةٍ من الآراء الجامدة التي لا حياة فيها، فلا تعود تصلح للحياة على الإطلاق. أفضلُ المجتمعات مَن يقبل ضمنياً إخضاعَ أيديولوجيته للنقد الفلسفي المستمر، ومَن يسمح للفلاسفة والمفكرين أن يُمارسوا النقد بكل حرية.

 

 

وعليه، تختلف الأيديولوجيا عن الفلسفة. فالفلسفة للجميع، للبشرية جمعاء، للإنسان بما هو إنسانٌ عاقلٌ ينهم بالأسئلة التي يطرحها العقل بطبيعته. إنها تحافظ على حركة الفكر وحركة الأفهوم، فلا تعامل الأفهوم تعاملَها مع رأيٍ نهائي ثابت. كذلك إنها عبارةٌ عن وجهاتِ نظرٍ تمثل بادراتٍ فلسفيةً يقوم بها عباقرةٌ أفذاذٌ نسميهم فلاسفة. وجهات النظر هذه لا تدعي القبض على الحقيقة. لكل وجهة نظرٍ حقيقتُها الخاصة بها. كل بناء فلسفي يحتمل النقد، حتى لو أدى النقد إلى انهياره وتحوله إلى مجرد أنقاضٍ مضيئةٍ، إذ ما يلبث العقل البشري أن يحاول البناء مجدداً.

أما الأيديولوجيا فإنها فكرُ جماعةٍ معينة، تتوجه أصلاً إلى أفراد الجماعة هذه مهما قل عددُها أو كثُر. لا يمكن الأيديولوجيا أن تتوجه إلى البشرية جمعاء؛ لأنها تنطلق من مُسلماتٍ يؤمن بها أتباعها، لكن من الصعب أن يسلم بها كل البشر. هكذا تنشأ أيديولوجياتٌ ويكون لها أتباعٌ، غالباً ما يؤمنون بها من دون نقاشٍ كبير، فتسْلَم الأيديولوجيات من النقد. بناءً عليه، قد تتحول فلسفةٌ ثوريةٌ حتى علميةٌ في وقتٍ من الأوقات إلى مجرد أيديولوجيا، وذلك عندما تتحول إلى مجموعة آراءٍ جامدةٍ نهائيةٍ لا تسمح بأي نقدٍ، كما هي حال "الفلسفة الماركسية" التي تحولت إلى مجرد أيديولوجيا ماركسيةٍ ما لبثت أن انهارت مع انهيار الاتحاد السوفياتي والأنظومة الاشتراكية.

بين العَمارة الفلسفية والكوخ الأيديولوجي

لذلك يُقال إن الأيديولوجيا مقبرة الفلسفة بحسب صديقنا المفكر اللبناني إيلي نجم. نضيف أنها أيضاً خطيئة الفيلسوف. يحاول الأيديولوجي أن يتناسى أن الأيديولوجيا التي يتبناها مجردَ أداةٍ لتعبئة الجماهير وتحريكها، فيتشاطر وينبري لتحويلها من خطابٍ سياسي يسعى إلى تحقيق برنامجٍ سياسي معينٍ إلى قولٍ فلسفي يبحث عن الحقيقة وينطق بها. هكذا يبني الأيديولوجي أنظومتَه الأيديولوجية أو عمارته الجميلة الهشة من دون أن يُخضعها للنقد الفلسفي الدائم. لذلك نراه لا يطيق الحقيقة التي تخالف أيديولوجيته، فيصر على تبني "حقيقته" الهشة التي صنعها بنفسه! لذلك يتمسك أصحاب الأيديولوجيا بها على رغم ظهور عشرات الحقائق التي تكذبها!

 

إذاً، شتان ما بين العَمارة الفلسفية والكوخ الأيديولوجي. مع ذلك، يبدو أن هناك من لا يهوى العيش إلا في الأكواخ!

 

أستمعُ إلى بعض الأدالجة المتفلسفين، فأجدهم بمنزلة كارثة أيديولوجية. لا علاقة لهم بالفكر ولا بالفلسفة ولا بالثقافة، وإنْ اختصوا أحياناً بالفلسفة! لكنهم حتى في مجال الأيديولوجيا ما برحوا دونها. إنهم مجرد كارثة أو عاهة أيديولوجية أو حتى أصحاب أيديولوجيا رثة. لذلك أعجب من أحزابهم كيف تدعهم ينطقون باسمها!

الفلسفة والأيديولوجيا لا تجتمعان: فإما الكهف، وإما الخروج منه! من هنا، عندما يتأدلج الفيلسوف، يدخل إلى كهف أفلاطون ثانيةً، فلا يعود يرى سوى ظلال الحقيقة على جدران الكهف! لذلك يجب على الفيلسوف أن يحافظ على حرية الفكر، أن يحافظ على حركة الأفهوم، أن يحافظ على حرية العقل وأن يمنعه من الاستقالة. عليه أن لا يحول الأفهوم إلى رأيٍ نهائي جامد. باختصارٍ، على العقل أن لا يستقيل!

متى تصبح الأيديولوجيا خطراً على المجتمع؟

الأيديولوجيا سلاحٌ فتاكٌ أحياناً لا يقِل خطراً عن الأسلحة النووية، تزين لمعتنقيها فعلَ الإجرام. هكذا يجد الديكتاتور إلى جانبه مَنْ يزين له دائماً أعماله القبيحة، يجد إلى جانبه المثقف البهلوان الذي يحصر عمله في تسويغ أعمال السلطان. لذلك تراه ينتقل من سلطانٍ إلى آخر بحسب المنفعة المادية. من هنا عقمُ العِلم عندما يُحاول منافسة الفلسفة والحلول محلها. فالعلم ليس من وظيفته اكتشاف الأيديولوجيا القاتلة ومحاربتها، كما قد يتضمن هو نفسُه بشكلٍ مبطنٍ أيديولوجيا غير حميدة. ولطالما كان العلماء مجردَ أدواتٍ في خدمة السلطان.

يَقتل الأيديولوجي ويُقتل باسم الأيديولوجيا، حتى لو كانت منافيةً كل المبادئ الإنسانية. ذلك بأنه يظن أن أيديولوجيته مقدسةٌ وفوق النقد، تستحق أن يُناضِل من أجلها حتى لو ارتكبَ المجازرَ ومات في سبيلها. بل إنه يقتل بلذةٍ وسرورٍ معتقداً أن ما يقوم به عملٌ حسنٌ ورائع. هذا ما يُفسر، إضافة إلى المصالح الشخصية والقومية والجَماعية طبعاً، الجرائمَ الفظيعة التي يرتكبها الأدَالجة أو المؤدلجون، أكانوا من التيارات الدينية المتشددة أم كانوا من التيارات الدوغمائية غير المتدينة.

 

 

الأيديولوجيا قادرةٌ، إذاً، على تزيين أي شيءٍ مهما كان قبيحاً ورديئاً. لذلك يحيط السلطان المجرمُ نفسَه بالمثقفين ورجال الدين ليبيضوا إجرامه أمام الناس. يكفي السلطة أن تزين إجرامَها وسرقتها أموالَ الشعب ببعضٍ من الأفكار، ببعضٍ من الأيديولوجيا لتكون مرتاحة الضمير، بل لتكون فخورةً جداً بما اقترفته يداها! وعليه، فالتفكير… ذلك الرعب الذي لا يتحمله ولا يُطيقه كثيرون! يكفي أن تفكر من دون وصايةٍ وتخرج من الإطار السائد حتى تُتهم وتصبح خطيراً! إذاً، هناك أشخاص لا يفكرون ولا يريدون لك أن تفكر. فالتفكير، في عرفهم، عملٌ خطيرٌ لا يتحملونه. فإما أن تقول ما يقولون، وإما أن يحسبوك عدوا فيبدؤون بتهجماتهم الشخصية عليك.

بِمَ تختلف الفلسفة عن الدين؟

الدين رؤيةٌ كونية. لكنه ليس بأنظومة فلسفية، ليس بسستام فلسفي، ليس بعمارة فلسفية. إنه مجموعةُ عقائدَ وأخبارٍ تتخذ صفة اليقين لأن القائل بها، في نظر المؤمن، هو الله. أما الفلسفة فأمرٌ آخر مختلفٌ تماماً، وإنْ كانت تنافس الدين أحياناً كثيرة. فالفلسفة لا تقدم لنا عقيدةً مختلفة، ولكنها تسائلنا عن الطريقة التي بها أنشأنا عقائدنا. لا تقدم لنا معلومات، بل تجعلنا نفكر بطريقة مختلفة.

ليس كل ما يتوجه إلى الناس أجمعين فلسفة. فقد يكون أدباً أو فناً أو ديناً. فالرواية الأدبية أو اللوحة الفنية تتوجهان إلى البشر أجمعين، لكن ليس عبر الأفاهيم، بل عبر أدواتها الفنية الخاصة. الفلسفة هي الفلسفة، هي محبة الحكمة. وأفضل تصنيف للفلسفة هو نسبتها إلى اللغة التي كتِبت بها. فنقول فلسفة يونانية نسبةً إلى اللغة اليونانية، ونقول فلسفة عربية نسبةً إلى اللغة العربية التي كُتبت بها. هذا لا يعني أنها تتوجه إلى الإغريق فقط أو العرب فقط، إذ تصبح عندئذٍ أيديولوجيا.

 

 

عندما نوقِف حركة الفكر، عندما نُوقِف حركة الأفهوم ليُصبح مجردَ رأيٍ، تَسقط الفلسفة في مستنقع الأيديولوجيا وتتحول إلى أنظومةٍ من الأفكار النهائية الجامدة. من طبيعة الفكر أنه في حركةٍ دائمةٍ لا تهدأ. ومن ثم، علينا أن نعيد النظر في السستام الذي بنيناه على الدوام لأن المشكلات الفلسفية تتغير باستمرار، مما يُحتم علينا إعادة النظر، بشكلٍ دائمٍ، في ما لدينا من فلسفاتٍ وأيديولوجياتٍ وأفكارٍ وأفاهيم.

نقد الفكرة ونقد الممارسة

في المجتمعات العربية يُمنع على المفكر أن ينتقد السلطان الذي يُرفع إلى مستوى القداسة، وأن ينتقد النهج الذي يتعالى على المكان والزمان، وأن ينتقد الفكرة المنزلة من السماء، وأن ينتقد أخيراً الأنظومة التي وضعها مؤسسون كبار. ما هو مسموحٌ له أن ينتقده، هو فقط بعض الممارسات الهامشية، بعض التطبيق وبخجلٍ شديد، شرطَ أن لا يضر نقدُه بالشخص ولا بالمقدس ولا بالنهج ولا بالفكرة. لذلك يكتفي بعضنا بنقد التطبيق أو بنقد الشخص الذي يطبق، متجاهِلاً أن النقد الحق والمنتِج هو النقد الذي يصيب المنهج والفكرة أيضاً!

لا شيء في أفهوم الأيديولوجيا يشي بالعصمة أو يدعي أن الأيديولوجيا مقدسةٌ ونهائية. لذلك لا مانع، من حيث المبدأ، من أن تخضع الأيديولوجيا، بشكلٍ دائمٍ، للنقد الفلسفي حتى لو أدى ذلك إلى تعديلها جذرياً لتصبح، في كل مرةٍ، مناسبةً بقدر الإمكان مقتضياتِ العصر. يكفي أن تمنع الأيديولوجيا النقدَ الفلسفي، يكفي أن تحارب العقلَ الفلسفي، حتى تتحول إلى أيديولوجيا خطِرة وتكف عن كونها أداةً فعالةً للنهضة بالمجتمع. إذاً، الأيديولوجيا الشمولية التي تسعى إلى أدلجة كل شيءٍ ترتكب جريمةً كبرى بحق المجتمع لأن المجتمع لا يقوم إلا بالتعدد والاختلاف.

عندما يتحول الدين إلى مجرد أيديولوجيا ظلاميةٍ قاتلةٍ، يصبح أفيوناً للشعوب. وكل أيديولوجيا تفقد دورها التحفيزي والنهضوي تتحول كذلك إلى أفيونٍ للشعوب، حتى لو كانت أيديولوجيا ملحِدة. أن تكون الأيديولوجيا ضروريةً لتحريك المجتمعات لا يعني أن نتبنى أي أيديولوجيا كيفما كان وكيفما اتفق بعيداً من النقد الفلسفي.

ما زالت الفلسفة ملطخةً بالعار الذي ألحقه بها فيلسوف ألمانيا الكبير مارتن هايدغر عندما أيد النازية أو ما ظنه "الصحوة القومية الجرمانية". كان حرياً به أن يقول "لا"، وأن يستشعر أثر البربرية والظلامية اللتَين سيطرتا على ألمانيا ودمرتا أوروبا. سبق للفيلسوف اللبناني كمال يوسف الحاج (1917-1976) من قبلُ أن أشار إلى أن الفيلسوف يهتم بالسياسة الكبيرة ويترك السياسة الصغيرة لرجال السياسة الذين يلهثون وراء منصبٍ هنا ومنصبٍ هناك، وتتملكهم الكراسي فيصبحون عبيداً لها.

من الصعب أن تناقش صاحب أيديولوجيا، دينيةٍ أو غير دينيةٍ، يدعي امتلاك الحقيقة ويزعم أنه على الحق المبين، مهما بينتَ له من عقم أيديولوجيته ومهما قدمتَ له من بدائلَ أفضل. تجده يحبِس نفسَه داخل أسوار أيديولوجيته الضيقة، فلا يستطيع الخروج منها كما لا يمكنه التفكير خارجها. لكن من السهل أن تُناقش مستنيراً متحرراً من الوصاية الفكرية التي تمارسها الأيديولوجيا على أصحابها لا يدعي امتلاك الحقيقة، وهو يبحث دائماً عما هو بارزٌ ولافتٌ وهام ومثيرٌ للانتباه من أفكارٍ، أنى وجدها، ليجدد بها البناء الفكري.

بين التحليل العلمي والحُكم الأيديولوجي

تختلف الترسانة الأيديولوجية بطبيعتها عن الترسانة الأفهومية الفلسفية. لذلك علينا أن نحذر دائماً من الوقوع في براثن الأيديولوجيا. لقد وقع اللبنانيون على سبيل المثال في قاع الجحيم أو يكادون. ووقوعهم كان غير مسبوقٍ. وتحليل ظاهرة هذا الوقوع أو هذه الكارثة عمليةٌ معقدةٌ جدا في بلدٍ يعاني من أمراضٍ نفسيةٍ مزمنةٍ، ومشكلاتٍ اقتصادية عميقةٍ، وتحالفاتٍ سياسيةٍ غير طبيعية، واضطراباتٍ مجتمعيةٍ طائفيةٍ متنوعةٍ، وموقعٍ جيوسياسي يقع على تقاطع زلازل المنطقة، وطبقةٍ سياسيةٍ نادرة الوجود في طريقة أدائها الفاسد، وقادة-آلهة، وفسادٍ مجتمعي مُستشرٍ، واحتكاراتٍ تجاريةٍ خبيثة.

وعليه، إذا لم نفسح في المجال أمام التحليل العلمي وبقينا في الأحكام الأيديولوجية التي تجمع الحاضر بالماضي والمستقبل والتي تجد أن أسباب ما يحدث تعود إلى أزمنةٍ غابرةٍ وإلى مسؤولية أشخاصٍ ماتوا منذ ألفٍ ونيفٍ من السنين، واستخدمنا العُدة والترسانة الأيديولوجية التي نراها في بطون الكتب القديمة والتي نتوارثها عبر الأجيال، فإنا لن نظفر بالتشخيص العلمي السليم. ومن ثم، لن نستطيع أن نعالج المشكلة التي نتخبط فيها بابتداع الأفاعيل الفلسفية والعلمية المناسبة، وسنبقى ندور في حلقةٍ مفرغةٍ، بل وسنظل نهدر الوقت والجهد والمال عبثاً، وستزداد أمراضنا ومشكلاتنا استعصاءً!

أدلجة الدين

يجري تَدْليج الدين وأَدْلَجته من أجل توظيفه واستثماره بسهولةٍ في المشاريع السياسية الخاصة والزواريب الضيقة. هكذا يتعطل العقل وينقاد المرء بسهولةٍ من أجل خدمة مشاريعَ أيديولوجية مدمرة. عندئذٍ، يُصبح الدين أفيون الشعوب. لذلك من الضروري التمييز بين الدين، وما ينشأ حوله من مذاهب وأيديولوجياتٍ واتجاهاتٍ فقهيةٍ ومدارسَ دينيةٍ وتياراتٍ صوفيةٍ بل وحتى كلاميةٍ فلسفيةٍ؛ لأن ما ينشأ حول الدين لا يمكن أن يستَنْفِده. ليس أي أيديولوجيا أو مذهبٍ أو تيارٍ أو مدرسةٍ إلا أنظومة جامدة نهائية لا تصمد أمام المتغيرات. الأيديولوجيا الدينية فهمٌ حصري للدين يدعي صوابيته ويرفض أي فهمٍ آخرَ مختلف. وعليه، لا بد دائماً من قراءةٍ مختلفةٍ للدين تتماشى مع العصر وأدواته المعرفية وفتوحاته العلمية والفكرية والفلسفية، شرطَ أن لا تدعي هذه القراءة أنها أيضاً الحق بعينه. مشكلة الأيديولوجيا الدينية أنها تدعي القبض على حقيقة الدين، وتدعي النطق باسم الله، فتعطل كل نقاشٍ وكل حوارٍ، مما يؤدي إلى انهيار المجتمع في النهاية.

الأيديولوجيا الدينية

هكذا ينشأ ما يمكن أن نسميه بالأيديولوجيا الدينية التي تنشأ حول الدين. فتبني له أنظومةَ أفكارٍ وعقائدَ وأنماطَ حياةٍ وسلوكاتٍ معينةً خاصةً بجماعةٍ معينة. تنشأ هذه الأنظومة وتكتمل عبر التاريخ وتتم المحافظة عليها من جيلٍ إلى آخر. فلا يتم الاكتراث لما يجري في العالم، عبر قرونٍ، من أحداثٍ سياسيةٍ وعلميةٍ وفتوحاتٍ فكريةٍ قد تطيح بهذه الأنظومة نفسها. فجميع هذه الأحداث تُفسر بشكلٍ لا يتعارض مع الأيديولوجيا المعتمَدة. تتوجه الأيديولوجيا الدينية إلى جماعةٍ معينةٍ أو طائفةٍ تدعي الصواب في ما تقول، كما تدعي القبض على حقيقة الدين بعينها. وما عداها يصبح باطلاً. فأتباعها هم المؤمنون حقا، وغيرهم على ضلال. لذلك لا يمكن أن تتوجه إلى البشرية جمعاء. ولهذه الجماعة سلوكاتٌ معينةٌ وفهمٌ معينٌ للدين. أما الدين فإنه، في رأينا، مفتوحٌ ومتاحٌ للجميع، يخضع لقراءاتٍ وتأويلاتٍ في كل مرة. كما يخضع دائماً للفهم وإعادة الفهم بحسب العصور.

هكذا تتكاثر الأيديولوجيات الدينية حول الدين الواحد نفسه. وكل أيديولوجيا تدعي أنها قبضت على حقيقة هذا الدين بعينها. بل كل أيديولوجيا دينية تنفي الأيديولوجيات الدينية الأُخَر وتنعتها بالضلال، في حين أن الأحداث غالباً ما تُثبت زيف الأيديولوجيات الدينية وغير الدينية. لكن أتباع الأيديولوجيات لا يأبهون لهذه الأحداث ولا يكترثون بها، بل ويصرون على أيديولوجيتهم، كما يدعون الغير إلى اعتناقها، ولا يسمحون بنقدها نقداً جذرياً. هكذا نعاني من الأيديولوجيات الدينية التي تريد أن تُقَوْلِبنا وتُقنعنا بما لديها من أفكارٍ وعقائدَ وأن نطبق ما تقترحه من سلوكات.

حتى للفساد ثقافته وأيديولوجيته

واهِمٌ مَن يفسر الفساد في لبنان مثلاً باسم المنافع والمصالح فقط، فهناك ثقافةٌ للفساد وأيديولوجيا للفساد أيضاً تزين الفساد وتبرره. لذلك لا نرى أثراً لتأنيب الضمير أو الخجل أو الندم في وجوه الفاسدين. تراثنا يُمكن القول عنه إنه تراثٌ غِب الطلب، بمعنى أنه جاهزٌ، في أي وقتٍ، لإمداد الأيديولوجي وصاحب المذهب بما يناسبهما ويدعم الأيديولوجيا والمذهب اللذَين بنَياهما سلفاً.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كثيرٌ من أصحاب الأيديولوجيات يتخذون مواقفهم من أي مسألةٍ مطروحة، ومن ثَم يبحثون عما يدعمها من التراث. إذا لم يجدوا في التراث ما يدعم، بشكلٍ صريحٍ، مواقفهم التي اتخذوها، فإنهم يغرقون في متاهة التأويل ولَيْ عُنُق التراث ليناسب ما هم عليه. وعليه، فبدلاً عن أن يجترحوا طريقةً جديدةً في قراءة التراث ويُخبرونا عما كشفت عنه هذه الطريقة وما توصلوا إليه من نتائجَ مختلِفةٍ لم نتوصل إليها بالطرق الكلاسيكية السائدة، فإنهم يُقبلون على التراث بمواقفَ اتخذوها سلَفاً، ومن ثَم يبحثون عما يدعمها في تراثٍ أقل ما يُقالُ فيه إنه خليطٌ عجيبٌ غريبٌ من الشيء وضده.

انكفاء الفلسفة وتقدم الأصوليات

ينكفئ الفيلسوف إذاً! فيتقدم اللاهوتيون والمشعوذون والسحرة ليملأوا الحقل الذي تركه الفيلسوف. فيَتبين أن هؤلاء أقدرُ من الفيلسوف في تلبية رغبة العامة الجامحة الطامحة في العلمان المطلق. هكذا راح الناس، في العصر الراهن، يصدقون كل ما يُقال لهم، تحقيقاً لطمأنينة العقل. فقد احتل هؤلاء الشاشات والساحات. لكن ما النتيجة؟ لقد انحسر دور العقل واندلعت الصراعات الإلهية على الأرض مرة أخرى، وسار الناس بكل سرورٍ إلى هلاكهم، سعداءَ فرحين بوصفهم يمثلون الإله. وهذا بالتأكيد "سيثيبهم" على أفعالهم، حتى لو كانت إجرامية.

هذا المصير الأسود والقاتم الذي وصلت إليه البشرية يُنذر بعواقبَ وخيمةٍ، قد تؤدي إلى فناء البشرية وزوال الحضارة الإنسانية. فبعد قرونٍ من التنوير، تتراجع الحداثة، حتى في موطنها الأصلي، وتستيقظ البربرية الأوروبية من سباتها بسبب الحرب في أوكرانيا، وينتشر الظلام مجدداً، بل ويحقق انتصاراتٍ هامةً، وينعزل أصحاب العقول النيرة حتى أنهم باتوا غرباء في مجتمعاتهم.

إذاً، إن انكفاء الفلسفة عن ساحة الفكر سمح للأصوليات بملء الفراغ. وإن تعدي العِلم على مجال الفلسفة أنتج ميتافيزيقا هزيلةً وادعاءاتٍ فارغةً لا تلبي رغبة العقل وتعطشه إلى المزيد. لا يمكن الفيلسوف أن يتفلسف بمعزل عن العِلم. هذا صحيح. لكن ليس للعِلم أن يحل محل الفلسفة، وليست لديه القدرة على ذلك. وإنْ فعلها العلماء، فإنهم يصبحون فلاسفةً ولا يعودون مجرد علماء. كما لا يمكن الدين أن يُفهَم فهماً مستنيراً من دون وجهة نظرٍ فلسفية. وحده الفيلسوف المواكب ما يجري في العلوم والمطلع على مغامرات العقل التاريخية الجبارة يستطيع أن يصوغ ميتافيزيقا مقبولةً ومناسبةً للعصر، وأن يستجيب للعقل البشري الذي لا يكف بطبيعته عن طرح أسئلة المعنى.

ما نعاني منه أساساً أزمةٌ في العقل

وعليه، لكي لا يتحول الدين إلى نوعٍ من الخرافة: لا بد من فهمٍ غير ديني للدين، لا بد من فهمٍ فلسفي للدين. بناءً عليه، لا يمكن أن يُترك أمر الدين إلى رجال الدين فقط. ما نعانيه من أزماتٍ منذ عقودٍ يعود، من حيث المبدأ، في ما يعود إليه، إلى أزمةٍ في العقل، إلى أزمةٍ في الفلسفة بوصفها بنتَ العقل. لذلك علينا أن لا نتجاهل أزمة العقل لدينا لو أردنا يوماً أن ننهض نهضةً جديدةً. طبعاً هناك عوامل كثيرةٌ، اقتصادية واجتماعية وسياسية، أفضت إلى الأزمة. لكن بإمكاننا أن نجد أصل الأزمات جميعاً في طريقة تفكيرنا وفي طريقة تعقلنا. من هنا ضرورة الفلسفة التي تطرح الأسئلة الأساسية وتعالجها وتحافظ على حركة الأفهوم، فتمنع الفكر من أن يتحول إلى أيديولوجيا نهائيةٍ جامدة. هكذا بإمكاننا أن نفهم أزمة الدين، أزمة الرأسمالية، أزمة النظام الطائفي اللبناني، أزمة العولمة، إلخ. من دون الفلسفة تنتعش الأصوليات وتسود الحماقة ونعيش في الابتذال. إذا كان لهذه الحياة من معنًى، فلأن هناك إنساناً مفكراً، لأن هناك فيلسوفاً جعل لها معنًى.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة