Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حكاية الاستقلال المغربي كما لم يتمكن من روايتها المبدعون الأجانب الذين ازدحمت بهم طنجة

"بيت العنكبوت" رواية بول بولز الأكثر تسيساً والأكثر إعلاناً عن وقوف الكاتب الأميركي مع الرباط

من حراك مدينة فاس المغربية (1954) (موقع المدينة)

ملخص

قرر بول بولز منذ ذلك الوقت المبكر أن يغوص في حياته المغربية في الكتابة والمعرفة التاريخية، كما في استكشاف الموسيقى المحلية وحتى في التعرف على، وتعريف العالم، بالأدب الشفهي الحكائي المغربي، وتحديداً من خلال تدوين ما راح يرويه له مبدعون مغاربة في هذا المجال سيكون من أبرزهم محمد شكري ومحمد المرابط بين آخرين.

عند بدايات سنوات الـ50 وبعدما استقرت مكانة الكاتب الأميركي المقيم مذاك في المغرب بول بولز في عالم الأدب الروائي بفضل إصداره عام 1949 روايته الكبيرة الأولى "السماء الواقية" (المعروفة في فرنسا وفي أنحاء كثيرة من العالم بعنوان ترجمتها الفرنسية "شاي في الصحراء"). وهي الرواية التي ستبقى دائماً أشهر أعماله، ولا سيما لاحقاً حين حولها الإيطالي برناردو برتولوتشي إلى واحد من أجمل أفلامه، عند بدايات العقد الجديد، إذا كان بولز وزوجته جين قد قررا أن يجعلا من طنجة المغربية وطنهما الجديد على رغم أنهما معاً، وكلاً منهما على حدة، سيمضيان جل وقتهما في السفر من خلال بداوة قل نظيرها على الصعيد العالمي. غير أن ذلك التنقل الدائم لم يمنع الموسيقي، وقد تحول الآن كاتباً، من أن يعد المغرب وطنه الجديد طوال نصف القرن التالي من حياته. وهو انطلاقاً من ذلك الاعتبار، وعلى رغم أن الكتابة لم تمنعه من متابعة عمله "الأساسي" ككاتب موسيقى تصويرية وغنائية لعديد من الأفلام الأميركية والأوروبية، سعى إلى إيصال ارتباطه بالمغرب إلى ذروة لم يصل إليها أي واحد من عشرات الكتاب الغربيين الذين اختاروا المغرب بدورهم، وطناً يعيشون فيه ولو ردحاً من وقتهم (من جورج أورويل إلى تنيسي وليامز، ومن جاك كيروك إلى ترومان كابوتي وحتى صمويل بيكيت وغيرهم).

 

انتماء فعلي

من ناحيته، قرر بولز منذ ذلك الوقت المبكر أن يغوص في حياته المغربية، في الكتابة والمعرفة التاريخية، كما في استكشاف الموسيقى المحلية وحتى في التعرف على، وتعريف العالم، بالأدب الشفهي الحكائي المغربي، وتحديداً من خلال تدوين ما راح يرويه له مبدعون مغاربة في هذا المجال سيكون من أبرزهم محمد شكري ومحمد المرابط بين آخرين. وهنا كي يكون بولز أكثر أمانة مع نفسه أدرك أنه لا بد له كاستكمال لذلك الغوص، أن ينقل إلى قرائه تصوره للكيفية التي حصل بها المغرب، وطنه الآن بالتبني، على استقلاله في مجابهة بطولية مع الاستعمار الفرنسي، وتحديداً مع الإدارة الفرنسية المولجة بإدارة ذلك الاستعمار. ومن هنا كانت كتابته روايته التي تكاد تكون منسية اليوم "بيت العنكبوت" في عام 1955، أي في وقت كان ذلك الاستقلال لا يزال طازجاً ولم يمض زمن طويل على الحصول عليه بعد. وعلى رغم الطابع العام الذي يكاد يبدو توثيقياً تاريخياً وذا بعد علمي إلى حد ما للرواية، فإن بولز حاول هنا أن يجعل للبعدين التخييلي والذاتي، مكانة بارزة في الرواية تحديداً من خلال شخصية محورية فيها تكاد تكون أناه/ الآخر، وسنوضح بعد سطور سر هذا الـ"تكاد تكون".

سياسة على قارعة الطريق

ومع ذلك، فإن النقطة المحورية في "بيت العنكبوت" هي الأحداث السياسية المحلية المباشرة المتمحورة من حول نفي الفرنسيين عند بداية سنوات الـ50، السلطان الشرعي محمد بن يوسف الذي سرعان ما سيعود من منفاه ليتسلم حكم البلاد كملك عليها تحت اسم محمد الخامس، وهو بالطبع جد الملك الحالي محمد السادس. غير أن بولز لا يصور ذلك الحدث الانعطافي الكبير في تاريخ هذا البلد وتاريخ الصراع بين الشرق والغرب بالتالي، تصويراً تاريخياً سياسياً، بل من منطلق ومنظور يطلان على تلك الأحداث بأبعاد ثلاثة: نظرة فتى مغربي واثنين من الأجانب المقيمين في المغرب، ولعل تنوع النظرة هذه واحدة من أبرز سمات هذه الرواية، أما الأحداث نفسها التي تشكل الإطار الحدثي والتاريخي فتنطلق في عام 1954 ومن مدينة فاس التي ينتفض سكانها ضد الوجود الفرنسي في بلدهم، وبالتحديد كما يرصدها الفتى المغربي عمار الذي بعدما كان مناضلاً في حلقة تضم مجموعة من الشبان الوطنيين المحليين يجد نفسه منضماً إلى مجموعة من الأميركيين ما يكشف عن تطور تاريخي بادي الأهمية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

موقف مبكر ضد التطرف

والحقيقة أن عمار، الذي في الحالتين يناضل ضد الفرنسيين، لا يفوته أن يشعر بقدر ما من الريبة تجاه التطرف الذي يرصده لدى أبناء جلدته المحليين من الذين يرى أنهم تواقون إلى الانتقام من المستعمر بأكثر من توقهم إلى تحقيق العدالة الاجتماعية والسياسية للشعب المغربي، بل يراهم حتى راغبين في الالتحاق بركب الحضارة الأوروبية بأكثر من رغبتهم في البحث عن هويتهم الوطنية. ومن هنا كان لا بد لهذه الرواية، ومن خلال الأسئلة التي يطرحها الكاتب فيها، أن تكون واحدة من أول الأعمال الأدبية التي تعبر عن "ولادة الوعي الوطني المغربي" كما عبرت عنه انتفاضة مثلها "حزب الاستقلال" بزعامة علال الفاسي في مدينة فاس نفسها، وتحديداً في العام 1954، إذ تختلط المصائر الفردية، من خلال عمار نفسه راصداً ما يدور من حوله، بأحداث التاريخ الكبرى. ومن المؤكد أن بولز الذي يلقي على كل تلك الأحداث نظرة أميركية تتوسل التاريخ للوقوف إلى جانب المشاعر والهوية الوطنية المغربية، يسعى إلى التعبير عن ذلك إلى دمج مشاعر عمار بالحدث السياسي الأكبر، أي رغبة الإدارة الفرنسية المحتلة بتعزيز سلطتها من خلال خلع السلطان محمد الخامس عن عرشه ونفيه أول الأمر إلى جزيرة كورسيكا، وإبداله بواحد من أعيان البلاد الموالين لفرنسا، وهو محمد بن عرفة. ويرينا بولز هنا بالملموس كم أن تلك التصرفات الإدارية الفرنسية أتت رعناء، وبالتحديد لأن السلطان ما لبث أن عاد إلى بلاده بعد عامين، وبعدما كان قد نفي إلى مدغشقر هذه المرة مكللاً بالمجد ومصحوباً بحصول المغرب على الاستقلال.

من العام إلى الخاص

ذلك هو إذا الإطار التاريخي الذي يصوره بول بولز، ولكن من خلال تلك الشخصية المغربية الفتية، شخصية عمار الذي لا يغيب عن بالنا لحظة هنا كم أن الكاتب أراد له أن يكون شاباً مغربياً لا تلوح عليه أول الأمر أية مبالاة بالسياسة بالمعنى الخالص للكلمة. وهو ما يلاحظه الكاتب بنفسه حين يخبرنا أن إبدال محمد بن يوسف بمحمد بن عرفة لم يعن لعمار شيئاً، أول الأمر على الإطلاق. ومن الواضح أن ما يفعله الكاتب هنا إنما هو وسم بطله منذ البداية بقدر كبير من براءة تشكل نقطة انطلاق بالغة الأهمية للحديث عن تاريخ الراهن من خلال التطور الذي يطاول تلك الشخصية و"يفقدها" براءتها، ذلك أن ما يشتغل عليه بولز هنا وانطلاقاً من تلك البراءة التي تكاد تكون محايدة إلى حد كبير، أول الأمر، هو الاكتساب التدريجي والبطيء للوعي السياسي لدى شعب، يمثله عمار بالتأكيد، ما يجعل من ذلك البطء نفسه، ليس موضوع الرواية وحبكتها بالتحديد، بل شكلها الفني أيضاً. ولا سيما أن الكاتب يربط تفاعل عمار التدريجي مع الأحداث التاريخية الكبرى التي يعايشها، مع تطور علاقته وهو الفتى الآتي من بيئة وعائلة تقليديتين مع العالم الخارجي الذي تدور معظم أسئلته انطلاقاً من موقفه تجاهه.

عوالم خارجية متعددة

و"العالم الخارجي" في الرواية الذي يكون أول الأمر جمهور المنتفضين في فاس سرعان ما يتحدد بالنسبة إلى عمار بكونه "حزب الاستقلال" نفسه، ولكن هنا يطاوله تحول آخر، في وقت يصبح فيه عمار جزءاً من ذلك العالم من طريق اندماجه في حراك الحزب الاستقلالي، ليصبح هنا رفيقان غربيان لعمار هما ستينهام، وبعد ذلك بفترة طويلة بعض الشيء، الصبية الأميركية لي التي تدخل الأحداث في القسم التالي من الرواية لتترك بصماتها على تلك الأحداث، بل لنقل تحديداً على نظرة عمار بوصفها مجرد سائحة أجنبية تؤمن بالتحرر والحداثة. ولعل في مقدورنا هنا أن نقول إن حضور لي هنا في هذا القسم إنما يضفي على الرواية بعداً جديداً ربما شاء منه الكاتب أن يكون تعبيراً عن نظرته هو، كما ألمحنا أول هذا الكلام، حين تحدثنا عن موقف أميركي معاد للفرنسيين المحتلين ما يحول الرواية برمتها إلى رواية سياسية عبر فعل يكون فيه الوعي الأميركي محركاً لاكتساب محلي للوعي بهوية لا بد من الوصول إليها! ربما ولا سيما من خلال نظرة عمار الملقاة على نظرة لي التي تغذيها نظرة ستينهام، في مواقف ثلاثية تسهم في جعل "بيت العنكبوت" واحدة من أكثر روايات بول بولز تسيساً!

المزيد من ثقافة