Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موسيقى هاندل تجابه بداوتها بين سماوية الأوراتورية ودنيوية الأساطير

نزع الطابع الشعبوي عن الأبطال الخارقين من خلال موسقة حياتهم في إبداع يطاول السمو

قدم هاندل موسيقى هرقل ضمن ظروف مهنية وعملية رافقت تواجده في بريطانيا (غيتي)

ملخص

وضع هاندل موسيقى أوراتوريو "هرقل" في عام 1744، لتقدم في العام التالي في لندن للمرة الأولى، إذ كان يقيم، في ذلك الحين، في العاصمة البريطانية ويعمل فيها، بعدما ترك وطنه الألماني.

هل تصلح السينما والتلفزيون وغيرهما من الفنون الجماهيرية والشعبية في مجال تقديم صور تاريخية واقعية - أو في الأقل أقرب إلى الحقيقة إلى حد ما - للأبطال الذين تمتلئ بهم تواريخ الشعوب وحكاياتها؟ إنه سؤال لا ينفك يطرح من جديد كلما قدم عمل فني من هذا النوع وثمة مراحل في مسار الفنون يكثر فيها ولأسباب متنوعة تقديم تلك السير التي بدأ لقبها الأميركي يطغى وهو "بيو إيبيك". وكأنه طرح دائماً على السينما والتلفزة ولمناسبات مشابهة ولا سيما في الستينيات حين تكاثرت، على سبيل المثال أفلام عن أبطال أسطوريين مثل هرقل وماشيست بل حتى أوديب ومن يشبههم.

هرقل على سبيل المثال

ومهما يكن من أمر ومهما كان الجواب، نعرف طبعاً أن الفارق كبير على سبيل المثال، بين هرقل الأسطورة الشعبية، كما عبرت عنه السينما الإيطالية - وغيرها - في الستينيات، وبين هرقل كما تصفه الأدبيات القديمة من إغريقية ورومانية، وكما تجلى بخاصة في واحد من أجمل فصول كتاب "مسخ الكائنات" لأوفيد. ولن ندخل هنا في المقارنة، فقط يمكننا أن نقول إن هرقل أوفيد وورثته، كما صورهم كتاب وفنانون تناولوا الحكاية على مر العصور وأحدثوا فيها تبديلاً وتنويعاً، كان أكثر جدية وأكثر "إنسانية" بكثير من هرقل الشعبي ذي العضلات والقوة التي لا تضاهى وتعرفنا إليه في السينما الشعبوية الإيطالية في ذلك الحين.

كان هرقل هذا، الأخير، من الجدية، إلى درجة أن فنوناً موسيقية ورسماً ونحتاً كثيراً ما دنت منه، مستوعبة دروس حكايته وعظمة شخصيته ودراميتها في أعمال بدت في نهاية الأمر أشبه بأمثولات مؤسسة، فنياً وفلسفياً وأخلاقياً. وحسبنا أن نذكر هنا أن الموسيقي هاندل، صاحب أوراتوريو "مسيا" ومقاطع "موسيقى الماء" بين أعمال أخرى، لم يتوان عن أن يجعل من ذلك البطل الأسطوري الإغريقي- الروماني المدهش، بطل عمل موسيقي كبير كتبه وهو في قمة نضجه تحت عنوان "هرقل". وهو العمل نفسه الذي يعد منذ ذلك الحين واحداً من أقوى أعمال هاندل وأجملها، من دون أن يكون العمل الوحيد الذي استقاه هذا الفنان من أساطير القدماء.

"موسقة" شعر أوفيد

وضع هاندل موسيقى أوراتوريو "هرقل" في عام 1744، لتقدم في العام التالي في لندن للمرة الأولى. وكان هاندل يقيم، في ذلك الحين، في العاصمة البريطانية ويعمل فيها، بعدما ترك وطنه الألماني. واستند هذا الموسيقي، الذي كان من كبار المجددين في الموسيقى الغنائية في زمنه، إلى خطى هاينريش شولتز، وتزامناً مع يوهان سيباستيان باخ، في تلحين هذا الأوراتوريو، إلى النص الشعري الذي وضعه براوتون استناداً إلى الكتاب التاسع من "مسخ الكائنات" لأوفيد. وكانت النتيجة أن هاندل تمكن على الفور من أن يفرض هذا العمل بوصفه الأقوى بين الأوراتوريات "الدنيوية" الـ17 التي لحنها طوال حياته المديدة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكما يمكننا أن نتصور، يروي هذا "الأوراتوريو" منذ البداية حكاية هراكليس (هرقل) الذي تطالعنا في المشهد الأول زوجته ديجانير وهي تبكي موته إذ خيل إليها أنه رحل عن عالمنا، لكن البطل لم يكن مات، بل ها هو يعود مظفراً من إيطاليا التي كان غزاها وقتل ملكها... وجلب هرقل معه في ركابه عدداً من السبايا، ومن بينهن الأميرة إيولي الحسناء، التي يخيل إلى امرأة هرقل، ديجانير، أن زوجها واقع في غرامها، مما يجعل الغيرة تأكلها، وهي التي لا تعرف أن الحقيقة شيء آخر تماماً... الحقيقة هي أن هيللوس، ابن هرقل، هو المغرم بالأميرة الشابة... صحيح أن هيللوس يعترف لأمه ذات لحظة بحبه لإيولي، غير أن هذا الاعتراف لم يقنع الأم بأن زوجها بريء من هذا الغرام، تماماً كما أن كل احتجاجات هرقل على اتهامها له لم تقنعها. فما العمل؟ إن لديها رغبة هائلة في استعادة حب زوجها لها، وهي التي باتت مؤمنة بأن هذا الحب خبا... وفي سبيل الوصول إلى تحقيق هذه الغاية لا تجد أمامها إلا الاستعانة بثوب غارق في دماء نيسوس، معتقدة أن في إمكان هذا الثوب أن يعيد إليها هناء حبها وزوجها، إلا أن النتيجة تكون عكس ما توخت ديجانير، أدى الثوب إلى أذية هرقل، إذ بات يعاني آلاماً فظيعة لم ينج منها إلا بالموت... وهكذا يموت بالفعل ويصعد إلى جنان تلال الأولمب حيث تستقبله الآلهة، في الوقت نفسه الذي تعلن قرارها بأن يتزوج هيللوس من إيولي.

استخدام دنيوي للأوراتوريو

على رغم أن نقاداً كثراً يرون في موسيقى هذا العمل ضعفاً يعزونه إلى "عدم قدرة الموسيقى على الوصول إلى الذروة التي تمثلها فاجعة الغيرة والبطولة هذه"، فإن النقاد الأكثر معرفة بعمل هاندل في صورة عامة، وبسلسلة "الأوراتوريات" التي ركز خلال فترة محددة من حياته على الاشتغال عليها، يرون أن هذا العمل يتميز بكونه يستخدم أساليب الأوراتوريو الديني للتعبير عن موضوع دنيوي. وهذا القول هو الذي جعل دارسي هاندل يرون، بصورة عامة، أن حساسيته الموسيقية في فن الأوراتوريو تفوق وإلى حد كبير تلك التي عبر عنها الفنان حين كتب الأوبرا الخالصة، إذ إنه في مثل هذه الأعمال لم ينضح بالتألق الموسيقي من أجل إظهار البعد الدرامي في حركيته المسرحية: كان الهم بالنسبة إليه هنا أن يستخدم الأصوات البشرية الغنائية كأنها أدوات موسيقية. ويقول واحد من هؤلاء الباحثين (الألماني أوسكار باي) إن هاندل تعامل مع هذا العمل تعامل "الألماني الذي لا يحب الدراما بما يكفي لكي يترك لها قيادة العمل الموسيقي، ويبدو مغرماً بالموسيقى إلى درجة التضحية بكل شيء من أجل التعبير عن ملذاتها الحسية". وهذا الباحث نفسه يلفت النظر هنا إلى كم أن هاندل تمكن في "هرقل" من إضفاء بعد سماوي على موضوع دنيوي، في مقابل أنسنته المطلقة للبعد السماوي في "مسيا".

نسيان ظالم

صحيح أن أوراتوريو "هرقل" يكاد يكون اليوم، مثل كثير من أعمال هاندل، منسياً مقارنة بالمكانة التي لـ"مسيا"، ومع هذا فإن قدراً لا بأس به من الإنصاف يأتي ليقول لنا، إن هذا العمل لا يتعين إغفاله إطلاقاً، حتى وإن كانت شعبيته متضائلة (ولعل واحداً من أسباب هذا التضاؤل يكمن في أن ازدهار فن الأوبرا نفسه، إن لم يتمكن من القضاء على الأوراتوريو الديني، إذ إن لهذا مكانه وعالمه المتواصل الحضور، فإنه تمكن من إلحاق أذى كبير بالأوراتوريو الدنيوي. (لكن هذا سجال آخر، لسنا نرى هنا مجالاً له بالطبع)".

 

 

ومهما يكن من أمر، فإن ثمة هنا في "هرقل" في حد ذاته صفحات رائعة تكفي لاعتبار هذا العمل أوصل موسيقى هاندل إلى ذروة مستقلة. ومنها مثلاً النحيب الذي تؤديه ديجانير في المقدمة حين كانت تعتقد أن هرقل مات. وهناك أيضاً أداء الكورس الذي يختتم كل فصل وكل مشهد وكأنه يعلق على ما حدث، مهيئاً لما سيحدث.

فتش عن الظروف المهنية

من الواضح في نهاية الأمر أن هاندل (1685 - 1759) الذي لم يكتب هذا العمل من تلقائه، بل تحديداً ضمن ظروف مهنية وعملية أملت عليه كتابته في تلك المرحلة المتقدمة من حياته، في لندن، استخدم في الكتابة مقطوعات عدة كان وضعها في السابق من أجل أعمال أخرى، بعضها ديني وبعضها دنيوي، لكنه لم يستخدمها في حينه، فإذا به هنا يجمعها إلى بعضها بعضاً، مما جعلها تبدو في بعض الأحيان على غير تناسق. غير أن هذا لم يهيمن على العمل الذي كتبه وهو في الستين من عمره تقريباً، ذاك الذي كان واحداً من أكبر موسيقيي ذلك الزمن... بوصفه فناناً عاش متنقلاً يعمل بين بلدان عدة على كبار من أولئك البدو من موسيقيي أوروبا حيث نجده حيناً في ألمانيا وحيناً في إيطاليا، أحياناً في بريطانيا حيث خدم القصر الملكي في لندن منتجاً له بعض روائع أعماله ولا سيما منها تلك التي ارتبطت على صورة أوبرا أو أوراتوريو أو حتى قطع أوركسترالية بأعمال شكسبير فخاض في معظم الأنواع الموسيقية مخلفاً عشرات الأعمال بين أوبرا وأوراتوريو، نهل معظمها من التراث القديم، سواء كان أسطورياً أو دينياً أو درامياً بامتياز، وعرف دائماً كيف يقدم الإطار الفني لموضوعه في بعد إبداعي خالص.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة