Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ابنة الديكتاتور" رواية الاضطرابات المصرية في القرن الـ20

الروائي مصطفى عبيد يمزج بين الحقائق المسكوت عنها والتخييل

مشهد قاهري بريشة عمر الفيومي (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

لا يبوح التاريخ بأسراره كلها دفعة واحدة، وإنما يتكتم على أخطرها، يبقيه بعيداً من الضوء، حتى تفرض الحقيقة سطوتها، فيتحرر السر ويكشف عن المستور. ولأن الاضطرابات كانت السمات الأبرز للقرن الماضي من تاريخ مصر، فلا تزال تلك الحقبة تحتفظ بكثير من أسرارها وأهوالها التي يتكشف جانب منها في رواية "ابنة الديكتاتور" للكاتب مصطفى عبيد.

يحيل عنوان رواية "ابنة الديكتاتور" (الدار المصرية اللبنانية)  إلى دلالات سياسية تتصل بما عاشته مصر خلال القرن العشرين من مناخ قمعي وممارسات استبدادية. وعلى رغم أن الشخصية المحورية "سناء بكاش"، حملت هذا اللقب الذي يحيل إلى صفة الاحتيال، فإن ما نسجه الكاتب من أحداث يحيل إلى دلالة رمزية، تشي بأن الانحرافات الأخلاقية للأجهزة الأمنية نتيجة منطقية وابنة حتمية لأي حكم ديكتاتوري. غلّف الكاتب سرده بمناخ من التشويق عبر توطئة استهل بها النص تخبر أن الرواية مستوحاة من أحداث حقيقية، وعزز ذراع الحقيقة في حبكته المتخيلة عبر شخوصه الثانوية الحقيقية التي يعرفها التاريخ، مثل حسن رفعت، أحد أهم عناصرالبوليس السياسي في ذلك الوقت، ومصطفى أمين مؤسس "دار أخبار اليوم" الصحافية والعقّاد وإبراهيم ناجي.

حتى إنه دفع بنفسه كشخصية ثانوية في النص وحقق الغاية نفسها عبر استدعائه أسماء وأحداثاً حقيقة مثل تأميم "أخبار اليوم" والقضاء على جماعة "إخوان الحرية" وحل جماعة "الإخوان المسلمين" واغتيال محمود باشا النقراشي، وما طعّم به نسيجه من قصاصات ووثائق منشورة. أما استهلاله باقتباس للكاتب التشيكي فرانز كافكا "إن أسوأ ما في الأمر ليس تبصّر المرء بأخطائه الواضحة، بل تبصّره بتلك الأعمال التي اعتبرها ذات مرة أعمالاً صالحة"، فقام عبره بالتمهيد لما ساقه من أحداث تخبر عن جرائم وانحرافات ارتكبت خلال القرن الـ20 تحت شعار البطولة وخدمة الوطن.

تعدد الأصوات

منح الكاتب صوت السرد لشخصيته المحورية "فيروز"، الطبيبة الشابة التي تعمل في أحد مستشفيات مدينة المنصورة (شمال مصر)، وهي المدينة التي اختارها الجد للإقامة فيها فور عودته من الكويت، مصطحباً حفيدته في مهدها بعد موت أمها وتنازل أبيها عن رعايتها. ثم انتقل صوت السرد إلى الجدة الراحلة والمجهولة "سناء بكاش" عبر مذكراتها التي حصلت عليها الحفيدة مصادفة. ومرة ثالثة انتقل صوت السرد إلى الجد عبر رسالة تركها لحفيدته قبيل وفاته. وكما كان تعدد الأصوات مناسباً لتباين الشخوص وتعدد أزمنة السرد، فقد عزز عبيد امتلاكهم صوت الحكي وقدرتهم على البوح والكشف عن الأسرار، وأكسب هذا البوح درجة عالية من الصدقية والحميمية. واتسق استخدام ضمير المتكلم مع السيكولوجية المعتلة لشخصية "سناء بكاش" ولجوئها إلى "التبرير" كحيلة نفسية تنتهجها الشخصية التي تسقط في براثن الخطأ، ولم يكُن لراوٍ عليم أن يقوم بهذا الدور، إذا ما أوكله الكاتب إليه.

"سامحيني يا سناء"، هذه العبارة كانت الخيط الذي قاد "فيروز" إلى اكتشاف هوية جدتها الحقيقية والحصول على مذكراتها. وكانت أيضاً الاستباق الأول الذي دفع عبره الكاتب التشويق إلى النص، مثيراً فضول كل من البطلة والقارئ لمعرفة حقيقة "سناء" وطبيعة الذنب الذي اقترفه الجد بحقها "هل من الممكن أن يكون وراء الأمر جريمة ما؟ خيانة مثلاً؟ هل قتلها، ثم سافر إلى الكويت؟ هل انتقم لشرفه وهو ابن لمجتمع بدوي؟ هل ندم بعد ذلك وشعر أنه تسرع في حكمه؟" ص 29. ثم تلت هذا الاستباق، استباقات أخرى زادت من مناخ الضبابية والغموض والتشويق، مثل الاستباق بالإشارة إلى مهاتفة الجد لامرأة غريبة وإرجاء الكشف عن هويتها وعلاقتها بالجدة والاستباق بتشابه اسم الجد مع اسم كاتب بعض المقالات في مجلة قديمة كانت تصدرها "سناء بكاش"، وكذلك الاستباق بلغز أحلام الجد في شبابه التي كانت سبيله لمعرفة الحقائق عن زوجته، وتشكك الحفيدة "فيروز" في هذه الأحلام، والطريقة الحقيقية التي مكَّنته من الحصول على المعلومات وإرجاء حل هذا اللغز إلى المرحلة الأخيرة من السرد.

الغاية والوسيلة

زاوج الكاتب بين زمنين للسرد، مزج بين التدفق الأفقي للأحداث والتذكر عبر تقنية الـ"فلاش باك"، وظل يتجول بين الراهن والماضي، محافظاً على انسيابية السرد. وعمد إلى تكرار استعادة مشاهد من طفولة "سناء" لإضاءة سيكولوجيتها، وما ألمّ بها من هزات نفسية، عززت استعدادها للتخلي عن الثوابت والقيم الأخلاقية: "ما أتذكره من سنوات الطفولة باهت، كئيب، لا يتجاوز شريطاً ضيقاً من الذكريات المريرة الممزوجة بذُل الحرمان، لذا فلا تغادرني أبداً مسيرة كل جمعة مع إخوتي وبعض الجيران، يحمل كل منا الكوز الصفيح الصدئ لمسافات طويلة سيراً على الأقدام نحو بيت الشيخ عاشور، حيث تُطهى الطيور يوماً في الأسبوع، لتصب لنا زوجته بعض المرق فنشربه لتقوية أعوادنا" ص 65.

اشتبك عبيد مع قضية الانحراف الأخلاقي للمؤسسة الأمنية في القرن الـ20 وسلوكها في دفع نساء جميلات إلى مخادِع شخصيات سياسية وتصوير أولئك السياسيين في أوضاع مُخِلة، من أجل السيطرة عليهم وابتزازهم، ورصد ما تبع هذا الانحراف من مشكلات وقضايا شائكة تتصل بشيوع مناخ المراقبة والتلصص وانتهاك الخصوصية والقمع والعنف السياسي والفساد والاستغلال السيئ للنفوذ، وفي الوقت نفسه ممارسة الوصاية الأخلاقية وادعاء الفضيلة. كما رصد الفقر والبؤس الذي لطالما شاع في الريف، ولا يزال ينهش في جسد طبقة عريضة من المجتمع المصري. وطرق كثيراً من القضايا الأخرى التي تتصل بالواقع الراهن، مثل التشدد والتدين القشري والعنوسة والذكورية المتفشية وضيق العيش وشيوع اليأس بين جيل الشباب ورغبتهم في الهجرة والرحيل عن الوطن. وعمد في غير موضع إلى استدعاء السخرية بهدف تمرير دلالات رمزية، وكذلك لخلخلة سوداوية الواقع: "حكى لي نكتة تقول بأن سياسياً عظيماً سافر لقضاء فريضة الحج، وعندما عرف أن أحد المناسك يقتضي رمي حجر ما يرمز لإبليس بعشر حصوات، فقام هذا السياسي برميه بتسع حصوات فقط، واحتفظ بالعاشرة وقال: يجب ألا نقطع كل خيوطنا مع الشيطان، فقد نحتاج إليه يوماً ما" ص126.  

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

اتسمت العقود الستة الأولى من القرن الـ20، وهي أحد الفضاءين الزمنيين اللذين دارت خلالهما الأحداث، بمناخ تهيمن عليه الصراعات التي اندلعت بين المحتل والمصريين وبين الأحزاب السياسية والقصر وبين الأحزاب وبعضها بعضاً وبين البوليس السياسي والمعارضين وبين تنظيم "الضباط الأحرار" وبعض مراكز القوى. وعكَس النص هذا المناخ المتناحر، إضافة إلى ما زخر به من مستويات أخرى للصراع، سواء على المستوى الخارجي بين "سناء بكاش" والضابط الذي قام بتجنيدها، وبين أحد رجال المؤسسة الأمنية في ذلك الوقت ومحامٍ لم يقترف ذنباً سوى أن زوجته كانت جميلة. أو، في الزمن الثاني للسرد، بين "فيروز" الطبيبة ورئيس قسم الباطنة المريض بالذكورية وازدراء النساء. كما أضاء الكاتب بعض الصراعات الداخلية في عوالم الشخوص كالتي اندلعت داخل "سناء"، فانقسمت بين شعور بانحطاط أفعالها وتبريرها بخدمة الوطن وبين رغبتها في الحب ونأيها عنه وبين الحرص على زواجها وولائها لعملها وبين غضبها على زوجها الهارب بابنتها الوحيدة وارتياحها لفعلته التي أنقذت الابنة من مناخ فاسد كهذا، وبين قناعتها بصواب ما فعلت وشعورها بالندم ومحاولة التكفير عن أفعالها بالتقرب إلى الله.

كذلك كان للحفيدة الشابة نصيب من هذا الصراع والانقسام، بين استنادها إلى العلم في تفسير كل ما يحدث حولها وبين تشككها وركونها إلى الغيبية بعد عجز المنطق عن التفسير. وأضاءت هذه الصراعات تناقضات النفس الإنسانية بين خير وشر وضعف وصلابة وعطف وقسوة وحقد وغفران وأنانية وإيثار. وكان المونولوغ الداخلي، أحد وسائل الكاتب الناجعة في استجلائها. وهذا الزخم من الصراعات على المستويين الداخلي والخارجي كان مقدمة لجملة من التحولات، منها ما لحق بـ "سناء" التي تحوَّلت من فتاة فقيرة بائسة إلى امرأة ثرية ذات قوة ونفوذ، ثم تحولها من الوهج إلى الخفوت والانزواء، وتحول ضابط الأمن "يوسف" من السيطرة إلى العجز، مما دفعه في النهاية إلى الانتحار، وتحول التعددية الحزبية إلى سياسة الصوت الواحد والاستبداد، وتحول الملكية إلى الجمهورية. كما رصد الكاتب تحولات على مستوى المفاهيم، مثل مفهوم المخبر أو الجاسوس، ومفهوم الديكتاتور "كان مصطلح ديكتاتور في الماضي محلَّ فخر، ربما لأننا لم نرَ وقتها ديكتاتوراً عنيفاً ومستبداً، ثم صار المصطلح مرادفاً للسفاحين والمتجبرين ومبعثري كرامات البشر" ص 269.

المتنبي وفيروز

مزج الكاتب في بنية نصه بين الرواية والرسالة والمذكرات. واستدعى شخصية المتنبي ومنحه حضوراً كثيفاً داخل السرد، بل وظَّف شعره في خدمة الأحداث وفي تمرير بعض الدلالات الرمزية عن الظلم والتماسك والقوة والصبر والكبرياء، وعن تراوح الحياة بين فرح وترح. واستدعى كذلك بعض القصص التراثية، منها ما يتصل بالمتنبي أيضاً، مثل قصة الأمير الثري الذي جار على بائعة السمك البائسة، فقال فيه "رأيت الذئب يحلب نملة/ ويشرب منها رائباً وحليباً". واستدعى بعض الفنون البصرية، مثل فيلم "بداية ونهاية" الذي عمد عبره إلى إبراز التماثل بين بطلته "نفيسة" وبطلة الرواية "سناء". واستدعى كذلك كثيراً من أغنيات فيروز ومنحها الحضور الكثيف ذاته الذي منحه للمتنبي.

وفي ظل زخم تجاذب الأجناس وثراء السرد، مرّر الكاتب بعض الحمولات المعرفية، حول إسماعيل صدقي رئيس الحكومة في العهد الملكي، وعن العقاد وآرائه ومواقفه بخاصة من المرأة، وعن تقسيم فلسطين ومخترع البنج وطرق التعذيب ومحاكم التفتيش. وانسابت هذه المعارف، كجزء أصيل من السرد، غير زائد، ولا مُقحَم عليه.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة