ملخص
تعيد مسألة نقل الدم إبراز السؤال القانوني الكلاسيكي عن "حرمة جسد الإنسان"، وعدم جواز التداول بأجزاء منه، والخصوصية التي تتمتع بها الدماء، بخاصة في ظل الخلاف حول أيديولوجية ضحايا "مجزرة البيجر" بالهجمات الإسرائيلية.
تعاني بنوك الدم في لبنان من ضغط شديد بفعل سقوط عدد كبير من الإصابات بفعل الهجمات الإسرائيلية على مناطق مدنية مكتظة بالسكان، في المقابل، شهدت البلاد على حملات كبيرة للتبرع بالدماء، حيث اكتظت المستشفيات الحكومية والجامعية، والمراكز التابعة للصليب الأحمر اللبناني بالمتبرعين الذين اندفعوا إلى ذلك لأسباب أخلاقية ومن منطلق التعاطف الإنساني.
وتحولت مواقع التواصل الاجتماعي إلى منصات لإظهار الخلافات اللبنانية، حيث عبرت شريحة من اللبنانيين عن رفضها المشاركة بالتبرع، تحت ذريعة انتماء الجرحى لتنظيم مسلح بأبعاد أيديولوجية تهدد نهائية الكيان اللبناني.
وبعيداً من السجالات اللبنانية التي لا تنتهي، تعيد مسألة نقل الدم إبراز السؤال القانوني الكلاسيكي عن "حرمة جسد الإنسان"، وعدم جواز التداول بأجزاء منه، والخصوصية التي تتمتع بها الدماء.
الدم الأسطوري
حول "نقاء الدم" نسجت الأساطير العرقية عبر التاريخ، ومجدت شعوب وحضارات أجدادها وأسلافها، ونحرت القبائل القديمة الأضاحي، وقدمت قرابينها، كذلك بنت أحزاب سياسية أيديولوجياتها ومشاريعها التوسعية، وفي مقابل هذا البُعد الاستعلائي، شكل التبرع بالدم فرصة لإحياء الأجساد والنفوس من وهنها.
في منتصف القرن الـ17 خطى العلماء أولى الخطوات الجدية بعد اكتشاف الطبيب البريطاني ويليام هارفي الدورة الدموية عام 1628، ومن ثم قيام عالم المجهر جان سوامردام بمراقبة ووصف الخلايا الحمراء في 1658، فيما توصل المهندس المعماري الإنجليزي كريستوفر رن إلى تطوير المحقنة عام 1659، أما أولى العمليات الناجحة المسجلة لنقل الدم في إنجلترا فتعود إلى الطبيب ريتشارد لور في 1665، عندما قام بنقل دم بين الكلاب، الأمر الذي حافظ على حياة كلب مريض.
بعد مرور عامين على تلك العملية التي أجريت بين حيوانات، قام العالم الفرنسي جان باتيست دينيز والإنجليزيان ريتشارد لور وإدموند كينج، كلٌ على حدة، بتسجيل عمليات نقل دم من الأغنام إلى البشر، بحسب الصفحة الرسمية للصليب الأحمر الأميركي.
بعد تحقيقه النجاح في محاولته الأولى، كرر جان باتيست دينيز عملية نقل الدم، ولكن كان لفشل المحاولة الثالثة ومن ثم الرابعة ووفاة المرضى أثراً سلبياً، ودفع ذلك عائلة المريض الرابع إلى رفع دعوى، وهو ما ألجأ القضاء الفرنسي لحظر عمليات نقل الدم إلى البشر في فرنسا، وتبعتها إلى ذلك إنجلترا، وانعكس ذلك سلباً على البحوث المرتبطة بالدم.
عودة آمنة
في النصف الثاني من القرن الـ19 عادت بحوث نقل الدم إلى أوروبا على يد الطبيب النمساوي كارل لاندشتاينر، الذي توصل إلى طريقة آمنة لإجراء عملية نقل الدم، بعد اكتشافه لأول ثلاث فصائل دموية بين عامي 1900-1901، حيث اكتشف أن خلط فصيلين غير متوافقين من الدم يؤدي إلى استجابة مناعية قاتلة.
بعد ذلك في 1907، أعلن لودفيج هيكوتين أن سلامة نقل الدم ترتبط بعملية التنقل بين متبرعين متطابقين، وهذا ما قام به بالفعل للمرة الأولى روبين أوتنبرغ في العام نفسه، واستمر المسار التطوري إلى أن أنشأت الولايات المتحدة في 1940 برنامجاً وطنياً لجمع الدم، وبناء بنوك الدم في مختلف الولايات، وهو ما استنسخته بقية الدول.
لبنان جاهز
شكلت مجزرة "البيجر" و"الآيكوم" ضغطاً جدياً على القطاع الطبي في لبنان بشكل عام، وأدت إلى طلب كبير على وحدات الدم نظراً للعدد الهائل من الجرحى الذي قارب الأربعة آلاف جريح خلال فترة وجيزة، وأسهمت الاندفاعة إلى التبرع بالدم في مختلف المناطق اللبنانية إلى إنقاذ حياة الكثيرين، وخصوصاً من الفئات النادرة ذات الزمر السلبية.
واتخذت بعض عمليات التبرع بُعداً منظماً، ولكن في بعض المناطق جاءت عفوية كما حصل مثلاً في عكار والمنية، حيث يشير الناشط ناصر سليمان إلى تداعي الشبان عبر مواقع التواصل الاجتماعي من أجل الاتجاه إلى المستشفى الحكومي في حلبا من أجل التبرع بوحدات الدم لإنقاذ حياة المصابين من مختلف المناطق اللبنانية.
يؤكد مدير العناية الطبية في وزارة الصحة جوزيف الحلو أن "القطاع الطبي امتص الصدمة الأولى، ولم يسقط بسبب التعاطي الإيجابي بين مكوناته، والعمل الجماعي الذي أدى إلى معالجة الآلاف من الجرحى والمصابين"، مشيراً إلى "إسهام حملات التبرع بالدماء بتوفير وحدات دم من كافة الفئات، وصولاً إلى مرحلة الاكتفاء أقله في المرحلة الراهنة".
ونوه مدير العناية الطبية "باستمرار العمليات الجراحية للمصابين من مجزرة (البيجر)، لأن الكثير منهم حالته دقيقة، واحتاج أكثر من عملية لذوي الإصابات البليغة، حيث يشارك عدة أطباء لمعالجة كل حالة"، مؤكداً أن "العمليات تجري على نفقة وزارة الصحة، وليس على نفقة المصابين".
يلفت جوزيف الحلو إلى انتشار بنوك الدم في مختلف المناطق اللبنانية، حيث يتوافر 12 بنكاً للدم تابعين للصليب الأحمر اللبناني، إضافة إلى البنوك التابعة للمستشفيات الجامعية، و"جميعها جاهزة وفيها كميات كبيرة، بفعل طواقمها والشعب اللبناني الذي يلبي نداءات التبرع عند الحاجة"، موضحاً "عندما تحتاج المستشفيات لكميات من الدم، تتواصل من وزارة الصحة التي تلعب دوراً تنظيمياً ووسيطاً بين المؤسسات الطبية والمستشفيات والمواطنين".
سجالات متكررة
وأظهرت السجالات حول عمليات التبرع بالدم جانباً من الخلاف السياسي والعقائدي في لبنان، وقام القاضي زاهر حمادة بالإدعاء على المحامي أنطوان سعد بتهمة المساس بالشعور القومي من دون العودة إلى نقابة المحامين في بيروت، وطلب رفع الحصانة عن المحامي.
يتمسك أنطوان سعد بموقفه، ويقول إنه "لم يطالب بعدم التبرع بالدم، ولكنه تحدث عن حرية الشخص بالتبرع من عدمه، وهو من جهته لن يتبرع لأنه يعبر في ذلك عن موقف المعارض للاحتلال الإيراني"، متمسكاً بموقفه "الرافض للتبرع بالدم اللبناني إلى الاحتلال الإيراني، قاتل الرفيق والرفاق، وإلى أبطال السابع من مايو (أيار) وإلى مهدد الكيان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
واسترجع المحامي "مجموعة من محطات الماضي من اغتيال الرئيس رفيق الحريري، إلى القتال ضد الشعب السوري، وقتل المعارضين من هاشم السلمان إلى لقمان سليم، وبقية شهداء ثورة الأرز، ودخول مسؤول (حزب الله) وفيق صفا إلى العدلية وتهديد بخلع القضاة"، كما يضيف "لطالما اتهمونا بأن دمنا صهيوني، فكيف لنا التبرع به، كما أنهم يرددون التهديد بقتلنا دائماً، ويقولون لكل بشير حبيب في تذكير لجريمة اغتيال رئيس الجمهورية بشير الجميل".
يرد سعد على تهمة المساس بالشعور القومي في وقت يحتاج المصابون لوحدات الدم، والمبادرة إلى التبرع يتخذ طابعاً إنسانياً، فهو من جهة، يستغرب الإدعاء عليه من دون احترام الإجراءات الواجبة لرفع الحصانة عن محامٍ، متمسكاً بأن "الحصانة ممنوحة للمحامي من أجل القيام بوظيفته، وحق الدفاع عن المجتمع، و"نحن لدينا واجب مواجهة الاحتلال وتهديد الهوية والكيان".
أما في ما يتعلق بضرورة التضامن بين مختلف مكونات المجتمع في وجه الأزمات، يجيب سعد "أنا لست ضد فعل التبرع بالدم، وإنما أردت توجيه رسالة ضد التمدد الإيراني"، و"التذكير بسلسلة الانتهاكات التي ارتكبها الحزب في المرحلة السابقة، وصولاً إلى تدمير الاقتصاد والبلاد، وفرض حرب لا يريدها اللبناني، ولأن المداهنة لا تبنى وطناً".
نظرة قانونية
في المدلول القانوني، يلفت الباحث القانوني المحامي رفيق هاشم إلى "القانون 766/2006 المتعلق بإنشاء وتنظيم ومراقبة مراكز نقل الدم"، واصفاً إياه بالتشريع اللبناني الذي يشكل علامة مضيئة تهدف إلى ضبط وتنظيم عملية نقل الدم الحيوية.
ونصت المادة الـ21 من هذا القانون على حظر بيع الدم، والمتاجرة فيه تحت أي ظرف، مؤكدةً على وجوب أن يكون التبرع بالدم عملاً إنسانياً خالصاً ومنزهاً، بعيداً من أي مقابل مادي.
يتجلى هذا المنع بوضوح في العقوبات التي تطاول من يخالف هذه القاعدة القانونية، مما يعكس حرص المشترع على الحفاظ على أخلاقيات نقل الدم وسلامته، وفق هاشم الذي يجزم أن "بيع الدم أو تقاضي أي مقابلٍ مادي أو منفعي مقابل نقله هو أمر مخالف لأحكام القانون، ويستدعي إنزال عقوبات بمن يخالف هذه القاعدة الجوهرية".
ويركز هاشم على الشروط الملازمة للتبرع لا سيما وأن "عمليات نقل الدم تبرعاً مجانياً، ويتلاقى ذلك مع مفهوم الهبة المجانية في القانون"، من هنا، فإنه "يستوجب توافر الأهلية القانونية لدى ناقل الدم، والرضى غير المعيوب لدى ناقل الدم ومتلقيه أو من يمثله قانوناً".
مقايضة الدم
تطرح مقايضة الدم نفسها على ساحة التبرع بالدم، ويوضح المحامي رفيق هاشم أنه، "على رغم أن القوانين اللبنانية لا تتناول بصورة مباشرة مسألة مقايضة الدم منعاً أو إباحةً، إلا أن هناك إشارات ضمن تشريعات أخرى قد توحي بإمكانية مقايضة الدم وتبادله".
ويضيف هاشم "تنشأ هذه المقايضة من خلال تبادل وحدات دم بين فصائل مختلفة، وهذه الممارسات قد تثبت فائدتها في حالات الحاجة الماسة، ولا سيما في ظل الظروف الصحية الاستثنائية وعندما تكون مخزونات الدم محدودةً مقابل حاجات المرضى للدم".
ويرحب المحامي بالمقايضة قائلاً "في حال حسن تطبيقها والتعامل معها بمسؤولية ووعي، لأن من شأنها أن تسهم في تنمية الروح المجتمعية وحس المسؤولية، وقد تؤدي إلى تلبية حاجات المرضى الإنسانية".
بناءً على ذلك، وفي ظل غياب أي نص قانوني مباشر وصريح في التشريع اللبناني يمنع مقايضة الدم بالدم، فإنه يمكن اعتبار هذه الممارسة مقبولةً قانوناً بشرط أن تراعي الشروط الطبية السليمة وأن تصب في المصلحة العامة وتلبي حاجات المرضى الطبية والإنسانية.
ويتطرق هاشم إلى "التحديات العملية التي تستدعي إعادة النظر في المسألة تشريعاً وتنظيماً ورقابةً، معتبراً أنه "في الواقع، تقوم بعض المستشفيات في تقاضي مبالغ مالية لا يُستهان بها (في بعض الأحيان) مقابل تأمين وحدات الدم للمرضى، تحت ذريعة أن هذه المبالغ تُغطي تكاليف فحوصات الدم ومعالجته وتوضيبه أصولاً قبل نقله من إنسانٍ إلى آخر".
ويشدد المحامي على أن "هذا الأمر يستدعي مراقبة فاعلة وحثيثة من الجهات الرسمية المعنية في وزارة الصحة العامة وفي القضاء المختص، للحرص على أن المبالغَ المفروضة من المستشفيات لهذه الغاية لا تتجاوز تكاليف الفحوصات والمعالجة والتوضيب المنطقية".
ويطالب هاشم بـ "ضرورة إصدار تشريعات جديدة ومعاصرة واضحة، تعالج مسألة مقايضة الدم بصورة قانونية وعلمية، لتصبح جزءاً من الإطار القانوني الصحي الذي ينظم نقل الدم، لأن هذه الخطوة التشريعية من شأنها أن تسهم في تعزيز فاعلية النظام الصحي اللبناني وفي تلبية الحاجات المتزايدة للمواطنين، ولا سيما في ظل الظروف الاستثنائية، بما يحقق توازناً عادلاً بين المبادئ الأخلاقية ومتطلبات الواقع الصحي."