ملخص
دعوة الحكومة والسلطات المالية القائمة إلى استنباط حلول للخروج من معضلة الاقتصار فقط على الاقتراض من المصارف
يعرف الاستثمار الخاص في تونس تعطلاً ملحوظاً انعكس سلباً على عملية إحداث الشركات وتطورها، مما أثر في عملية إحداث مواطن الشغل بصورة جعلت نسب البطالة تقريباً في مستويات مرتفعة في حدود 16 في المئة في الربع الثاني من 2024.
وحقق الاقتصاد التونسي نمواً ضعيفاً بلغ 0.6 في المئة خلال النصف الأول من عام 2024 وفق بيانات المعهد الوطني للإحصاء.
ويرى محللون ومتخصصون أن عوامل ضعف المؤشرات الاقتصادية للبلاد تعود في جانب كبير منها إلى إحجام المصارف التونسية عن تمويل الاقتصاد، مما أثر بصورة ملموسة في الاستثمار الخاص وفي عملية تمويل الشركات الاقتصادية.
وضعية كان وقعها كبيراً على إحداث مواطن الشغل لآلاف الشباب التونسي الطامح إلى الحصول على فرصة عمل تعوضه التفكير في الهجرة غير النظامية.
التمويل الأضعف منذ عقدين
المؤشر البارز الذي يترجم تعطل الاستثمار بسبب عزوف البنوك التونسية عن منح القروض الاستثمارية أفصحت عنه بيانات ومؤشرات البنك المركزي، التي كشفت أنه حتى حدود يوليو (تموز) الماضي فإن تمويل البنوك للاقتصاد التونسي عرف تراجعاً ملحوظاً في العقدين الأخيرين.
وبحسب هذه البيانات لم تتطور القروض المسندة سوى بنسبة 3.3 في المئة فقط منذ بداية العام إلى أواخر يوليو الماضي، مما يعني أنه التمويل الأضعف في تاريخ البلاد في العقدين الأخيرين.
وأظهرت هذه البيانات تواصل الكتلة النقدية في تونس تطورها خلال هذه السنة بنسق أرفع مما هو مسجل في السنة الفارطة، مدفوعاً بالزيادة اللافتة لحصول الدولة على القروض من السوق الداخلية.
وأثرت هذه الوضعية في مستويين اثنين، الأول تراجع تمويل البنوك للاقتصاد والثاني توسع كتلة الأوراق المالية والنقدية في السوق.
وتظهر البيانات والمؤشرات المالية أن الكتلة المالية زادت منذ بداية العام إلى أواخر يوليو الماضي بنسبة 10.3 في المئة مقابل 7.9 في المئة في الفترة ذاتها من عام 2023.
ويفسر هذا التطور اللافت في الكتلة النقدية بسبب حصول الدولة على قروض، إذ تطورت هذه الأخيرة بنسبة 33.4 في المئة إلى نهاية يوليو من هذه السنة بالمقارنة بالمدة نفسها من السنة الماضية، إلى درجة أن تلك القروض صارت تمثل النصيب الأوفر والأكبر من إجمال القروض الداخلية الممنوحة من البنوك التونسية بنحو 28.8 في المئة، مقابل سجل ما قبل جائحة كوفيد 2019 حينما بلغت هذه النسبة 14.8 في المئة.
نسق كبير لإقراض الدولة
تعقيباً على هذه المسألة، أقر المتخصص المالي بسام النيفر، أن القطاع المصرفي التونسي بصدد إقراض الدولة بصورة لافتة، مستدلاً في ذلك على النجاح الباهر لإصدار القرض الرقاعي في أقساطه الثلاثة، إذ جرت تعبئة 3.7 مليار دينار (1.1 مليار دولار) من جملة 2.8 مليار دينار (903 ملايين دولار) مبرمجة لكامل العام وفي الأقساط الأربعة، مرجحاً أن يصل الرقم إلى 5 مليارات دينار (1.6 مليار دولار) مع نهاية 2024.
وأوضح أن المصارف أسهمت بنسب مئوية كبيرة في المشاركة في القرض الرقاعي الوطني تجاوزت 60 في المئة مع نسق سريع لإصدار رقاع الخزانة قصيرة المدى، أي إن الدولة تقترض بحجم كبير في الغرض. وتوقع المتخصص أن يتجاوز حجم الاقتراض الداخلي لتونس مبلغ 20 مليار دينار (6.4 مليار دولار) في غضون عام 2024، ويعده رقماً قياسياً غير مسبوق ومخيف، وقد يخلق ضغوطاً إضافية على الموازنة في الأعوام المقبلة.
تشدد في إقراض المواطنين
ومنحت البنوك للتونسيين قروضاً بقيمة 200 مليون دينار فقط (64.5 مليون دولار) في النصف الأول من 2024 وفق البيانات ذاتها من "المركزي التونسي".
وعلى مستوى التوزيع القطاعي لقائم القروض البنكية غير المهنية (إجمالي القروض في السنوات الأخيرة) فقد استأثرت القروض المخصصة لاقتناء مسكن بالنصيب الأوفر لتستحوذ على نحو 42.8 في المئة من إجمال قائم القروض البنكية غير المهنية أي غير المسندة إلى الشركات.
وجاء قائم القروض المتعلقة بتحسين المسكن في المركز الثاني، إذ وصل حجم القروض المسلمة إلى الأشخاص الطبيعيين خلال السداسية الأولى من هذه السنة 59 مليون دينار فقط (19 مليون دولار).
وبخصوص قروض الاستهلاك فقد زادت قيمتها خلال الفترة نفسها بـ147 مليون دينار (47.4 مليون دولار)، ومقابل ذلك تراجع حجم القروض الموجهة لاقتناء سيارات ليصل 13.6 مليون دينار (4.3 مليون دولار).
نسب فائدة مرتفعة
وتفسر هذه المؤشرات التي تعد ضعيفة ومحتشمة بسبب عرض البنوك التي صارت تفرض شروطاً صعبة في إسناد مختلف أنواع القروض، إضافة إلى إحجام الشركات والمواطنين عن طلب قروض بنكية بسبب نسب الفائدة الموظفة على القروض التي يعدها جل المتخصصين مشطة.
وتؤكد هذه الوضعية وجود إشكالية في الاقتصاد التونسي متأتية في جانب منها من نسبة الفائدة الكبيرة التي تجعل الأشخاص لا يقبلون على الاقتراض، مما يضرب أحد أهم رافعات الاقتصاد التونسي وهو الاستهلاك الذي تراجع بصورة لافتة.
وتبلغ نسبة الفائدة المديرية للبنك المركزي التونسي ثمانية في المئة حالياً مقابل نسبة تضخم بلغت 6.7 في المئة في أغسطس (أب) الماضي.
تعكس مجمل الأرقام أن البنوك التونسية صارت وبصورة جلية تفضل إقراض الدولة وبنسب فائدة معقولة عوضاً عن إقراض عموم المواطنين أو المستثمرين تجنباً للأخطار والقروض المتعثرة أو المشكوك في استرجاعها.
"فيتش" تنبه
وقال تقرير وكالة "فيتش" الأخير الصادر في منتصف سبتمبر (أيلول) الجاري، الذي رفع التصنيف الائتماني لتونس من "CCC-" إلى "CCC+" بالنسبة إلى الدين الطويل الأجل بالعملة الصعبة، فإنه من المتوقع أن تبلغ الحاجات التمويلية المالية نحو 18 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في 2024، وهو معدل أعلى بكثير من متوسط تسعة في المئة في الفترة 2015-2019.
وقدرت الوكالة الاقتراض المحلي الصافي القصير الأجل بنحو 0.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، معقبة أن توقعاتها جاءت بناءً على القانون الذي اعتمد في بداية عام 2024، والذي يتيح للبنك المركزي تمويل الموازنة بما يصل إلى 7 مليارات دينار تونسي (2.2 مليار دولار) في عام 2024، والذي استخدم جزءاً من هذا التمويل المباشر لسداد سندات بقيمة 2.9 مليار دينار (935 مليون دولار) التي استحقت في فبراير (شباط) الماضي. ورأت الوكالة أن "البنوك المحلية يمكن أن تساعد في تلبية حاجات التمويل السيادي، إذ يدعم نمو الودائع وضعف الطلب على الائتمان سيولة القطاع".
واستدركت في المقابل أن "ذلك سيزيد من تعرض البنوك للقطاع العام، الذي يمثل بالفعل نحو 20 في المئة من إجمال أصول القطاع البنكي"، معتبرة أن ذلك "يستدعي إعادة تمويل البنوك المحلية من قبل البنك المركزي".
تواضع قروض الاستثمار
في الأثناء رأى بسام النيفر أن من إيجابيات إقراض البنوك للدولة أنها تجني أرباحاً طائلة جراء نسب الفائدة الموظفة على القروض المسندة وذات مردودية عالية، مستغلة ضمان الدولة وإيفاءها لتعهداتها تجاه مختلف القروض مما يعني أن المصارف لا تعترضها إشكالات في إمكانية حصول تعثر في خلاص القروض المستثمرين والشركات التونسية، التي تعرف صعوبات مالية واقتصادية عدة.
وأردف بالتوضيح أنه حتى حدود يونيو (حزيران) الماضي مقارنة مع أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2023، تطور قائم القروض (إجمالي القروض) المسندة من البنوك التونسية إلى الشركات التونسية بقيمة 2197.3 مليون دينار (708.8 مليون دولار) موزعة على 2032.3 مليون دينار (655.5 مليون دولار) قصيرة المدى، لكن القروض الطويلة والمتوسطة المدى تراجعت بقيمة 164.9 مليون دينار (53.1 مليون دولار).
وفي هذا الخصوص أكد أن المؤسسة الاقتصادية بصدد الاقتراض من البنوك لأجل تسيير شؤونها اليومية (خلاص أجور ومستحقات المزودين) على حساب الاستثمار الطويل الأمد لغرض التطوير والتجديد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار بسام النيفر إلى إشكال يراه جوهرياً يتمثل في تواصل المصارف إقراضها للدولة على حساب تمويل الاقتصاد والاستثمار، وأن عملية منح القروض تقتصر على قروض صغيرة وليست لها علاقة بالمسائل الاستثمارية.
معادلة صعبة
من جهة أخرى اعترف بسام النيفر أن المصارف التونسية بصدد خلاص عديد من الأداءات الموظفة عليها وبخاصة تحدي حسن التصرف في الأخطار التي تواجهها، إذ إنها مطالبة باحترام جملة من المعايير والمقاييس المالية العالمية والداخلية. وأوضح أن المعايير المعمول بها تغيرت في اتجاه الاقتراب أكثر من المعايير الدولية، مما يعني التشدد نسبياً في منح القروض من أجل الحفاظ على التوازنات والتقليص قدر الإمكان من الديون المصنفة أو المشكوك في استرجاعها. وقال إن المصارف التونسية تجد نفسها في معادلة صعبة التحقيق بين حتمية تمويل الاستثمار والاحتياط في عدم الوقوع في الديون المشكوك في استرجاعها. وخلص بدعوة الحكومة والسلطات المالية القائمة في البلاد إلى استنباط حلول للخروج من معضلة الاقتصار فقط على الاقتراض من المصارف، مقترحاً التوجه أكثر نحو الصناديق السيادية، وفتح رأس مال الشركات والانخراط أكثر في البورصة لتعبئة الأموال والبحث عن خطوط التمويل المجدية.