Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

تاريخ جديد للموسيقى الغربية في مختارات "السماع" بالفرنسية

نصوص تتخطى المؤلف الموسيقي وتجعل من المستمع محور الإبداع

بيكاسو يرسم الآلات الموسيقية (متحف بيكاسو)

ملخص

صدر حديثاً في باريس عن منشورات "أم أف" كتاب جماعي بإشراف مارتن كالتنيكر هو عبارة عن أنطولوجيا ضخمة بعنوان "السماع". يروي هذا الكتاب من خلال عدد كبير من النصوص الممتعة، تاريخ  السماع أو الاستماع وتذوق الموسيقى منذ العصور القديمة حتى نهاية القرن الـ19، عندما نجح توماس إديسون في اختراع الفونوغراف، أول نظام لتسجيل الصوت وإعادة بثه، سارداً تأملات وشهادات وقصصاً تتناول إدراك الأصوات وعلم نفس السمع، وتأثير الأعمال الموسيقية الجديدة والأصوات المسجلة الأولى على المستمعين.

الفكرة الناظمة لكتاب "السماع" تنطلق من "نظرية التلقي" الأدبية التي وضعها الباحثان الألمانيان هانس روبرت ياوس (1921-1997) وولفغانغ إيزر (1926-2007)، التي تركز على الدور الحاسم للقارئ وعلى الشروط المادية في عملية خلق السرديات أو النصوص، مما يسلب المؤلف بعضاً من امتيازاته الحصرية. سعت هذه النظرية إلى تجديد التواصل الأدبي بين النص والقارئ والاهتمام بهما معاً، فأصبحت تتداول مفاهيم خاصة كالإنتاج والاستهلاك ودراسة كيفيات التلقي، وتأثير النص على خيال القارئ.

لكن كالتنيكر ومجموعة مؤلفي كتاب "السماع" أسقطوا هذه النظرية على عالم الموسيقى. فركزوا على المستمع أو المتلقي بوصفه أهم عنصر من عناصر العمل الموسيقي الإبداعي، وبوصفه كذلك المكمل لهذا العمل، مما حملهم على وضع الموسيقى في سياق تاريخي يختلف فيه المستمعون من حيث تنوع مداركهم الذوقية. ولئن كان التلقي قناة من قنوات التواصل، فهو بالقدر نفسه كسر لأفق التوقع، لاعتنائه بإعادة تركيب القطعة الموسيقية وإغنائه لها من خلال فهمها بطريقة جديدة. فالقطعة الموسيقية متصلة بالمستمع. من هنا كان التداخل جلياً بين طرفي العملية التواصلية وما يحدث من تفاعل بينهما أثناء عملية الاستماع وما ينتج من ذلك من التعدد والاختلاف في الإصغاء، نظراً إلى إمكانات الفهم وأساليب التأويل المتنوعة التي تحملها القطعة الموسيقية الواحدة. حررت نظرية التلقي إذاً الموسيقى من سلطة المؤلف، وأتاحت أمام المستمع الفرصة لإنتاج المعنى، واضعة بذلك حداً للنهائية القصدية التي أرادها المؤلف لموسيقاه، جاعلة من كل تأليف موسيقي تأليفاً يعانق آفاقاً لا حد لها.

ولعل هذه النظرية التي تتكيف جيداً مع تطور دراسات الصوتيات منذ الثمانينيات والتسعينيات  من القرن الـ20 لا تركز فقط على تلقي المستمع، بل على الظروف المادية والعمليات الفيسيولوجية التي ترافق استماعه للموسيقى كالسياق الصوتي والتربة التي نبتت فيها الأعمال الموسيقية. يقول مارتن كالتنيكر في مقدمة الكتاب إن "السياق الصوتي لسفورزاتو بيتهوفن أي أداء النغمة بقوة على سبيل المثال لا الحصر ليس هو نفسه السياق الصوتي لسفورزاتو ريتشارد شتراوس". فالسياق الصوتي لبعض معزوفات بيتهوفن الأولى هو "الأرضية الخشبية وعدو الحصان وهدوء الطبيعة. أما السياق الصوتي لموسيقى شتراوس، فهو المصنع والقاطرة وصخب المدينة الحديثة". وحتى يستمتع المستمع بالقطعة الموسيقية التي يصغي إليها ويفهم مضمونها، عليه إعادة التموضع في سياقها الصوتي، لكن اختلاف السياق الصوتي لا يعني بالنسبة إلى كالتنيكر أن الاستماع الحالي لموسيقى الماضي قد أصبح مستحيلاً. يكفي للمؤرخ الموسيقي، إن هو أراد إعادة إحياء التربة التي نمت فيها هذه الأعمال العظيمة، أن يتحرر من تربة زمنه الخاص وأن يعيد التفكير في التطورات والانقطاعات التي تنظم تاريخ الموسيقى والموسيقيين.يتألف كتاب "السماع" من ثمانية فصول تعيد تشكيل قصة الموسيقى الغربية منذ نشأتها، بعيداً من وجهة النظر التأريخية التقليدية التي تركز على الأعمال ومؤلفيها، لتجعل من المستمع، كما سبق وأشرت، الشخصية الرئيسة في الإبداع الموسيقي.

في الفصل الأول من الكتاب اهتمت غابريل ويرسنجير تايلور وهي أستاذة الفلسفة اليونانية القديمة في جامعة ريمس بدرس تأثير موسيقى الحضارة اليونانية القديمة على المستمعين، تلك الموسيقى التي رافقت الاحتفالات والطقوس الدينية والميثولوجيا والمسرح وجوقات الديثرامب وتلاوة القصائد الشعرية الملحمية، انطلاقاً من نصوص وإشارات أدبية وفلسفية عديدة. فتذكرنا أن كلمة "موسيقى" بحسب الاشتقاق اللفظي اليوناني تحيلنا إلى ربات الإلهام، بنات زيوس التسع الراعيات للفكر والإبداع الفني، وتقول لنا أن هذه الموسيقى التي وضعت حجر الأساس للموسيقى الغربية ونظريتها، استمر تأثيرها قائماً في الحضارة الرومانية وفي مرحلة نشأة الكنيسة المسيحية الأولى حتى العصور الوسطى. أما تعاليم فيثاغورس وبطليموس وأريستيدس وأفلاطون وأرسطو وغيرهم، فتشكل مرجع هذه الدراسة القيمة التي تتوقف عند دور الموسيقى في تحفيز المستمع وتلقيه لها وتأثيرها في سلوكه من خلال تناولها لأنماط الموسيقى القديمة الرئيسة وتفاعل الناس معها وتقييمهم لها.

في الفصل الثاني تعالج كاترين بروك شمزر الأستاذة في جامعة ليون الثالثة الموسيقى في عصور المسيحية الأولى مركزة على الأجواء والأماكن التي أصغى فيها المسيحيون الأوائل إلى الترانيم والتراتيل الدينية كالكنائس والأديرة وغيرها، مقاربة موضوعها في سياقه الاجتماعي من وجهة نظر فيزيائية، مركزة على الموسيقى كقوة إقناع عقائدي. كما تناولت هذه الدراسة مسألة ادخال الآلات الموسيقية في أداء الطقوس وما رافقها من جدل، كتحفظات القديس هيرونيموس أسقف ميلانو في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس ميلادي.

أما الفصل الثالث من الكتاب، فخصه أستاذ الدراسات الموسيقية في جامعة روان الإيطالي فاسكو زارا بموسيقى القرون الوسطى في أوروبا. فيه عرض لنماذج من السماع وأماكنه المختلفة وللألحان التي اعتمدت على سلالم ومقامات غير مألوفة نسبياً لمستمعي القرن الـ21، متوقفاً أمام الأشكال الموسيقية والبوليفونية الرقيقة كأصوات الموتيت والأورغانوم الجذابة للأذن والتي عملت على رفع المستمع إلى الأعالي كالموسيقى البيزنطية والترانيم الغريغورية التي تؤدى دون مرافقة الآلات الوترية أو آلات النفخ، مع التفاتة إلى موسيقى التروبادور وغيرها. بالاستناد إلى النصوص التي تتناول الاستماع، يتحدث زارا عن ثورة موسيقية حقيقية حصلت في القرن الـ15، عندما انتقلت متعة المستمعين من تكرار المذهب والإيقاع إلى التنوع، مشدداً على الصمت شبه الديني الذي كثيراً ما رافق عزف المقطوعة أو أداء الأغنية والتصفيق في نهايتها.

تأويل الإضغاء

إعادة تشكيل التاريخ

أما موسيقى القرن الـ15 فقد أُفرد لها فصل خاص وقعه الألماني كلاوس بيتشمان. فيه توسع الباحث وأستاذ العلوم الموسيقية في جامعة ماينتس في دراسة أماكن وظروف الاستماع إلى القطع الموسيقية وتأثيرها في المستمع، متوقفاً أمام التأويل اللاهوتي للإصغاء. كذلك فعلت الباحثتان إيزابيل هيس وتيودورا بسيكويو اللتان درستا تلقي الموسيقى في عصر النهضة وفي القرن الـ17، حين بدأ الفكر الحديث والتشديد على العقلانية يرافقان ما عرف بالآرس نوفا الذي أحدث ثورة في عالم الموسيقى في القرن الـ17، ليس فقط من جهة المؤلفين، بل أيضاً من جهة المستمعين الذين بدأوا بالإصغاء كلياً للعزف الذي استدعى في كثير من الأحيان ذاكرتهم، مظهراً معارفهم وتجاربهم، جاعلاً إياهم يعيشون المعزوفة أو الأغنية كواقع حياتي، يتأثرون بانفعالاتها وإيقاعاتها، صائرين ركناً أساساً من أركان العمل الفني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتهتم ساره نانسي الأستاذة والباحثة في جامعة السوربون الجديدة - باريس الثالثة في الفصل السابع المخصص للموسيقى في القرن الـ18 بالمستمع من حيث اهتمامها بمكان السماع وبنماذجه ونظرياته. فتتوقف أمام ثقافة المتلقي وميله واختزانه الفني واستعداده لمواجهة المقطوعة الموسيقية، ذلك أن التذوق لا يكون إلا على مقدار المعرفة الموسيقية، لذا نراها تركز على الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها المستمع وعلى مستواه العلمي والثقافي وعلى قدرته على التعبير عما تحدثه الموسيقى في نفسه، مانحة إياه شرف الإسهام في بناء معنى المعزوفة وفي عملية فهمها وتأويلها.

أما الفصل الأخير الذي يحمل توقيع منسق الكتاب مارتن كالتنيكر ولورانس تيبي فيخصصه الكاتبان لموسيقى القرن الـ19 الذي عرف تحولاً كبيراً في تاريخ الموسيقى الغربية. فبعد تحليل تطور الموسيقى في فترات محددة بدءاً من الباروكية والعصر الكلاسيكي والرومانسية وظهور موسيقيين كبار من أمثال باخ وهاندل وموزار وبيتهوفن، يتوقف الكاتبان أمام نظريات الاستماع المختلفة، والتي تتقاطع في النص مع حكايات ومفاجآت كشروحات وتحليلات فيردي لمقطوعة موسيقية لفاغنر أو كلامبالاة الملكة فيكتوريا بالحفل الموسيقي الذي أقامته عازفة البيانو والمؤلفة الموسيقية كلارا شومان (1819-1896) على شرفها، إذ كانت الملكة تتحدث باستمرار وتستمع فقط إلى آخر المقطوعات وتصفق قليلاً.

باختصار، يقدم لنا كتاب "السماع" رحلة غنية في عالم الموسيقى وفن الإنصات في الغرب من وجهة نظر المستمعين. لعلها رحلة في لغة عالمية يتحدث بها الجميع، لكنها على تفاوت مهارات متلقيها وطرق إصغائهم وطقوسها المختلفة في التركيز وإدراك المفردات الموسيقية في عملية جذب تؤكد قول نيتشه إن الحياة دون موسيقى هي حتماً خطأ.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة