أكد القيادي في "الجبهة الثورية السودانية" ياسر عرمان، أنه على الرغم من سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) الماضي، إلا أن مطالب الحركات المسلحة لم تنتفِ بعد، مؤكداً أنها تطالب بإعادة هيكلة الدولة وإقامة دولة المواطنة بلا تمييز، فضلاً عن استكمال شعارات الثورة الشعبية بإيجاد سلام حقيقي وعدالة، إلى جانب اعتماد مشروع سياسي اقتصادي ثقافي يجمع السودانيين ولا يفرقهم.
وأشار عرمان في حواره مع "اندبندنت عربية" إلى أن حركته تريد المشاركة في أعلى أجهزة الدولة، "على أساس يعكس التنوع السوداني، تكون كل الأقاليم ممثلة فيه، والعمل على حل لكل مشاكل السودان الكبرى التي لم تُحَل منذ الاستقلال"، رافضاً تحميل الحركة الشعبية مسؤولية انفصال جنوب السودان.
وقال إن "النظام السابق هو الذي فضّل أن يذهب جنوب السودان على مغادرة السلطة"، مؤكداً أنه ضد عودة الجنوب، لكنه مع الدعوة إلى إيجاد علاقة إستراتيجية بين الجنوب والشمال من خلال تأسيس مشروع كونفدرالية بين البلدين.
جبهة عريضة
ولدى سؤالنا عرمان عن وجودهم كحركة شعبية في أكثر من تحالف، وما إذا كان ذلك يُعدّ تناقضاً في الالتزام والمبادئ، أجاب "لا يوجد تحالف من دون تناقضات، وبالذات في ظل ما يشهده السودان من مرحلة مفصلية وتحوّل إستراتيجي ونوعي أحدثته ثورة أغسطس (آب) 2018، لكن أهمية هذه التحالفات وعبقريتها تظهر في كيفية التوافق بين التناقضات المختلفة والوصول إلى ما يجمع وما هو مشترك من المصالح". وأضاف "نتحدث عن قوى وطنية تتفق وتختلف مع بعضها بعضاً، في قضايا عدة، ومع ذلك هناك قضايا أخرى ليس فيها اختلاف، بين مكونات المعارضة السودانية تحديداً، مثل قضايا الديمقراطية والمواطنة والسلام باعتبارها قضايا إستراتيجية لا خلاف حولها، لكن قد يحدث اختلاف في التفاصيل وطرق ومناهج العمل، وبالتالي فإن أغلب التناقضات تكون موضوعية".
ولفت عرمان إلى أن "ما يهم الحركات المسلحة ليس بالضرورة من أولويات الأحزاب وقوى المجتمع المدني السلمي مثل ما يقول المثل السوداني "كل زول يونسوا غرضوا" بمعنى أن أولويات أي شخص أو أي مجموعة تختلف عن الأخرى أي أن الشيء المهم لهذه المجموعة، ليس مهماً لمجموعة أخرى، ومن خلال عملنا الطويل في التحالفات فإن الأهمية الإستراتيجية تكمن في كيفية المواءمة بين المصالح المتناقضة والوصول إلى برنامج الحد الأدنى".
وتابع "انطلاقاً من هذا المفهوم، اتفق الجميع في اجتماعات الجبهة الثورية التي عُقدت في القاهرة نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي برعاية الدولة المصرية على استمرار هذا التحالف نظراً إلى أن الوضع في السودان يقتضي خلق جبهة تحالفات عريضة، على الرغم من أن بعض المكونات أراد الخروج من هذه التحالفات لأنها لا تضع القضايا الكبرى مثل المواطنة وإنهاء الحروب وإعادة هيكلة الدولة السودانية في مقدمة الأولويات".
مجتمع جديد
ويرى القيادي في الجبهة الثورية السودانية، أنه على الرغم من سقوط نظام الرئيس السابق عمر البشير في 11 أبريل (نيسان) الماضي، إلا أن مطالب الحركات المسلحة لم تنتف بعد، منوهاً بأن "سقوط النظام السابق لم يكن هو المطلب في حد ذاته فالهدم يستوجب أن يرتبط بعملية بناء مجتمع جديد، والحركات المسلحة ارتبطت مطالبها بوجود الدولة السودانية منذ الاستقلال في عام 1956، وبلا شك في أن النظام السابق كان نظاماً فاشياً أوصل البلاد إلى نهاية طريق الفاشية وفرض نظاماً أحادياً في كل شيء". وأضاف أن "القضية الرئيسة للحركات المسلحة هي كيفية إعادة هيكلة الدولة وإنشاء دولة المواطنة بلا تمييز".
ولدى سؤاله عن أن المحاصصة السياسية هي من ضمن مطالبهم الرئيسة؟ أوضح عرمان أن "حديث المحاصصة مغلوط من جوانب عدة، وأتذكر أنني قلت مرة حين حضرت ندوة في نهايات سنوات الجامعة لإدوارد لينو وهو من الشخصيات الجنوبية ذات الباع الطويل في العمل الديمقراطي في المدن، وكان يتحدث عن اتهامه بالمشاركة في انقلاب عنصري، أن المحاولة والاتهام في حد ذاتهما عنصرية، وأنا أقول أيضاً أن المحاصصة هي عنصرية واتضح ذلك من الطريقة التي شُكِلت بها حكومة (رئيس الوزراء عبدالله) حمدوك ومطالب بعض القوى التي كانت ترفض رفع شعار المحاصصة على سنّ الرماح".
في المقابل، أكد عرمان أن "الجبهة الثورية" تريد المشاركة في أعلى أجهزة الدولة، "لأننا نريد أن تكون هذه الأجهزة مرآة للتنوع السوداني وأن تكون كل الأقاليم ممثلة فيه، لكن الأبعد من المحاصصة هو كيفية بناء نظام جديد يحل مشاكل السودان الكبرى التي لم تُحَل منذ الاستقلال، فضلاً عن إيجاد مشروع سياسي اقتصادي ثقافي يستطيع أن يجمع السودانيين ولا يفرقهم".
ورداً على ما اتبعته حكومة حمدوك من تمثيل لكل أقاليم السودان في أجهزة الدولة المختلفة، قال إن "حكومة حمدوك خطت خطوات كبيرة نؤيدها، لكن هناك أشياء ناقصة وهي كيف لا تجد الحكومة شخصاً يمثل شرق السودان وكذلك النيل الأزرق، هذا يعني أن النخب الموجودة في الخرطوم لا تعرف المنطقتين جيداً، وعليها ألا تحتكر تمثيل البلاد، فشرق السودان مثلاً أنجب الدكتور طه بليه الذي أسس مؤتمر البجا في عام 1958، فيجب أن يكون التمثيل شاملاً والمشاركة حقيقية، وعلى حمدوك أن يتقدم إلى الأمام لطرح مشروع وطني جديد متكامل".
وحول ما يمثله موقف "الجبهة الثورية" من إرباك في المشهد السياسي وإضعاف للجبهة الداخلية ما قد يقود إلى تكرار ما حدث في الفترات الانتقالية السابقة، أوضح عرمان أن "ما حدث في الفترات الانتقالية السابقة في الأعوام 1956 و1964 و1985 هو التنصل من مواقف وعهود وشعارات الانتفاضات السابقة، وإذا أردتَ ألا يحدث كما حدث في السابق عليك الالتزام بشعارات الانتفاضة وهي الحرية والسلام والعدالة، صحيح الآن توجد حريات فعلاً، لكن لا يوجد سلام ولم تنته الحرب بعد، ومطالبنا هي استكمال شعارات الثورة من خلال سلام حقيقي مرتبط بالطعام والاقتصاد والعلاقات الخارجية والنسيج الاجتماعي والأمن، وهو ما يؤدي بالفعل إلى استقرار البلاد".
وفي رده على وضع الحكومة السودانية قضية السلام ضمن عشر أولويات للمرحلة الانتقالية، وإنشائها مفوضية خاصة لذلك، أجاب "أتت المفوضية نتيجة مطلبٍ من الجبهة الثورية في اجتماعاتها مع قوى الحرية والتغيير في (العاصمة الأثيوبية) أديس أبابا، ولم تكن تملك في تلك الاجتماعات رؤيةً حول قضايا السلام، وما جاء في الوثيقة الدستورية، نتاج إسهاماتنا، فيجب أن يكون للحكومة برنامج وإعلان شامل لإنهاء التهميش والحروب واحترام حق الأخرين بمَن فيهم المسيحيون السودانيون، فمثلاً منطقتا جبال النوبة والنيل الأزرق تضمان مجموعة كبيرة من المسيحيين، وفي نظرنا أن حل قضاياهم لا يتم بتمثيل أحدهم في مجلس السيادة وإن كانت خطوة جيدة، لكنها منقوصة، فلا بد من برنامج واضح يكتمل باتفاق سلام شامل وعادل".
ولا يزال عرمان مؤمناً بمشروع الزعيم الجنوبي الراحل جون قرنق (السودان الجديد)، فقال إن "رؤية السودان الجديد هي العملة الوحيدة التي لا تزال صالحة، صحيح توقف قرنق عن الإدلاء بالبيانات والمؤتمرات الصحافية وحضوره الباذخ بعد غيابه، لكن تظل رؤيته هي الأنسب لتوحيد السودانيين، بل لربط العلاقة بين السودان وجنوبه من خلال اتحاد يجمع الدولتين المستقلتين، ومن ثم يُطرح هذا المشروع في المستقبل على دول الجوار، لأننا نريد أن نواجه تناقضات العالم الحديث وتناقضات بلداننا بطريق أوسع، وحسناً فعل حمدوك أن جعل جوبا أول محطة لزياراته الخارجية".
وأكد عرمان أن الحال لن يصلح إلا بوضع مشروع يحتفي بالتنوع والمواطنة من دون تمييز وبالعدالة والديمقراطية وبالثقافات واحترام حق الآخرين، فهذه هي معضلة السودان الكبرى.
رؤية قرنق
في سياق متصل، رفض القيادي في "الجبهة الثورية" تحميل "الحركة الشعبية" مسؤولية انفصال جنوب السودان، موضحاً أن "الحركة الشعبية لا تتحمل مطلقاً وزر الانفصال، ونظام البشير السابق هو الذي فضّل أن يذهب جنوب السودان على مغادرته السلطة، ومعروف أن الحركة الشعبية كانت تضم قوى مهمة من القوميين الجنوبيين، وهم الذين شكلوا السياسة الجنوبية منذ بداياتها في أربعينيات القرن الماضي، و(جون) قرنق هو الذي غيّر مجرى السياسة في الجنوب والشمال بطرحه مشروع السودان الجديد".
واعتبر عرمان أن "اتفاقية نيفاشا" التي منحت الجنوبيين حق تقرير المصير في عام 2005، "تعتمد على عمودَين هما إجراءات إنهاء الحرب بما في ذلك حق تقرير المصير، وعلى إعادة هيكلة الدولة وإيجاد ديمقراطية متزامنة مع إجراءات إنهاء الحرب".
من جهة ثانية، لفت إلى أن "حزب المؤتمر الوطني الحاكم آنذاك فضّل إجراءات إنهاء الحرب وحق تقرير المصير بالذات بعد موت قرنق، ما أحدث خللاً إستراتيجياً ودفع الجنوبيين إلى اختيار الانفصال". وأضاف "أعتقد أننا كنا دعاةً للوحدة، والحركة الشعبية لم تكن بكاملها تؤمن برؤية قرنق الذي صارع ضد كل المتناقضات ليدفع بالحركة السياسية في الجنوب باتجاه وحدة السودان، ومع ذلك نترك التقييم النهائي للتاريخ، وما حدث الآن هو أن هناك دولتَين قائمتَين وهذا واقع يجعلنا لا نتوقف ونبكي على اللبن المسكوب".
وتساءل "ماذا عن جبال النوبة ودارفور والنيل الأزرق والشرق؟ هل قبلنا بدولة المواطنة؟ هل لدينا مشروع جديد؟ هل فعلاً استفدنا من تجربة انفصال الجنوب حتى لا يتمزق ما تبقى من السودان؟ وهل الانفصال أدى إلى توجهات عميقة وجديدة في الحركة السياسية السودانية؟ أعتقد أنه لا بد من منبر عريض وواسع لتوحيد السودان والعبور من هذا المأزق التاريخي الذي نعيشه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
علاقة إستراتيجية
وعن إمكان عودة الجنوب إلى حضن الوطن الأم (السودان)، قال عرمان "لا ندعو إلى عودة الجنوب، هذه عبارة خاطئة، نحن ندعو إلى علاقة إستراتيجية بين الجنوب والشمال، لأننا لسنا أوصياء على الجنوب الذي اختار طريقه بالشهداء والدماء، ولكن يمكن أن نؤطر لمشروع كونفدرالية بين البلدين وهو المشروع الأنسب والأجدى"، داعياً في الوقت ذاته إلى فتح المنطقة الحدودية بين البلدين التي يقطنها نحو 10 ملايين نسمة، مؤكداً أن إغلاقها، هو جزء من تركة نظام البشير، "لذلك علينا رميه في البحر ونبدأ علاقات إستراتيجية تنطلق من الحريات الأربع، ووقف الحرب ووضع سياسات جديدة تؤسس لعلاقة قائمة على الإخاء والصدق والمصالح المشتركة". وأعرب عن استعداده للإسهام في إقامة رابط بين البلدين بالقدر القليل من العلاقات التي يملكها مع قادة وشعب الجنوب".
إصرار وترصد
وتناول عرمان تجربته مع الحركة الشعبية وما حققه من أحلام، موضحاً "لم أصل حتى الآن إلى ما تمنيته، وما زلت أحلم، فأحلامي لا تسقط بالتقادم، فهذا المشروع اخترته بنفسي مع سبق الإصرار والترصد، فهو مشروع فكري وثقافي لن ينتهي مهما كانت تقلبات الأوضاع، بل سيذهب خلفه أجيال بعد أجيال".
ونفى خضوعه لضغوط من قيادة الحركة الشعبية للانسحاب من سباق الرئاسة ضد الرئيس السابق عمر البشير في عام 2010، لافتاً إلى أن أحد أهم أسباب انسحابه هو "اكتشافه خلال زيارةٍ الى دارفور أن معظم سكانها لم يسجلوا أسماءهم للمشاركة في هذه الانتخابات لأنهم لم يتوقعوا أن يكون هناك مرشح ضد البشير بهذه الجدية، وكذلك من الأسباب أيضاً أن الحركة عانت من اختلال بعد رحيل قرنق ولم تهتم بالتحوّل الديمقراطي ما جعلها تهتم بالقضايا التي تهم الجنوب نتيجة لموقف القوميين الجنوبيين".
ورأى عرمان أن قرار الانسحاب "لم يأت وفق رؤية متكاملة من الحركة بل جاء في آخر لحظات الانتخابات نتيجة لاستفزازات قام بها علي عثمان محمد طه نائب الرئيس السابق عمر البشير ضد قيادة الحركة الشعبية، إضافة إلى اعتقادنا بأن المؤتمر الوطني لن يسمح بتنظيم استفتاء على حق تقرير المصير للجنوب، فتقديراتنا السياسية أوصلتنا للانسحاب".
ويعتقد عرمان أن خلافهم مع عبدالعزيز الحلو الذي أدى إلى انقسام الحركة الشعبية إلى جناحَي الحلو ومالك عقار لم يكن يستدعي تلك النتيجة، مشيراً إلى أن الحلو الذي كان نائباً لرئيس الحركة آنذاك مالك عقار، انقلب على الرئيس وعلى كل أجهزة الحركة، وبالتالي أضعف الحلو الحركة ولم يقدم شيئاً جديداً وهو لا يملك رؤيةً أو برنامجاً سياسياً، ولا تأثير له في الساحة السياسية السودانية.
ونوّه عرمان بأنه حاول طرح تقرير المصير لمنطقة جبال النوبة. وأضاف "قلنا إن حق تقرير المصير الإثني لا يمكن أن يُطبَق على جبال النوبة التي تضم قبائل عربية وأخرى غير عربية، بل سيشعل هذا الموضوع حرباً جديدة في المنطقة، ولن يفي بطموحات أهالي جبال النوبة. انقسام الحركة الأخير ليس جيداً ولا أحد يحتفي به، وبنظري تحتاج الحركة إلى تجديد كامل لمشروعها لأن الفشل أصابه منذ انفصال الجنوب، كما نعتقد أن مرتكزات الحركة الشعبية ما زالت مهمة بالنسبة إلى القوى السياسية السودانية".