Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأكاذيب التي تسردها روسيا وتصدقها

أبواق الدعاية تستهدف الغرب لكنها تضلل الكرملين أيضاً

العلم الروسي يرفرف أمام الكرملين، موسكو، فبراير 2019 (رويترز)

ملخص

تستخدم روسيا عمليات التضليل الإعلامي للتأثير في الرأي العام في الغرب عبر حملات تضليل إلكترونية مثل مشروع "دوبلغانجر"، وعلى رغم أن المستهدف هو الجمهور الغربي، إلا أن وثائق مسربة كشفت عن أن هذه الحملات ربما خدعت الحكومة الروسية نفسها، إذ تم تضخيم تأثيرها في الجمهور المستهدف.

في أوائل سبتمبر (أيلول) الماضي، عاد مشروع التضليل الروسي سيئ السمعة المعروف باسم "دوبلغانجر" Doppelganger [وتعني الشبيه] إلى الأضواء مجدداً. وانكشف هذا المشروع - وهو مخطط لنشر مقالات ومقاطع فيديو واستطلاعات رأي مزيفة حول قضايا سياسية وثقافية مثيرة للجدال في الولايات المتحدة، وكذلك في فرنسا وألمانيا وأوكرانيا - للمرة الأولى عام 2022 وحظي بتغطية واسعة النطاق في الصحافة الغربية. وقام المشروع على استنساخ بصورة كاملة مواقع إلكترونية خاصة بمؤسسات إعلامية - بكامل شعاراتها وأسماء الصحافيين الحقيقيين - وزرع قصصه وميماته ورسومه الكاريكاتيرية المزيفة، واجتذب مستخدمي الإنترنت العاديين إلى المواقع عبر منشورات في وسائل التواصل الاجتماعي غالباً ما كانت تنشر بصورة آلية.

لقد تتبعت شركات التكنولوجيا ومختبرات الأبحاث بعناية ووثقت وأزالت في كثير من الأحيان بعض منشورات "دوبلغانجر" على الإنترنت، بل كشفت حتى عن الشركة الخاصة في موسكو المسؤولة في الغالب عن هذه الحملات: "وكالة التصميم الاجتماعي" (اختصاراً "أس دي أي" وتعرف بالروسية باسم Agentstvo Sotsial'nogo Proyektirovaniya). ولكن حملات التضليل استمرت، وفي الرابع من سبتمبر الماضي، وفي خطوة لمواجهتها، أعلنت وزارة العدل الأميركية أنها صادرت 32 نطاقاً على الإنترنت يستخدمها مشروع "دوبلغانجر".

تبع ذلك نشر الوزارة إفادة غير مسبوقة من "مكتب التحقيقات الفيدرالي" "أف بي آي" تتألف من 277 صفحة منها 190 صفحة تضمنت وثائق داخلية من وكالة "أس دي أي" ربما استحصل عليها جواسيس أميركيون. ثم بعد 12 يوماً، ذكرت صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" Süddeutsche Zeitung الألمانية اليومية أنها تلقت في أواخر أغسطس (آب) من مصدر مجهول كميات كبيرة من وثائق داخلية خاصة بـ"أس دي أي". وقبل يوم واحد من إصدار مكتب التحقيقات الفيدرالي لإفادته والملفات المرفقة - بعضها كان من بين الوثائق المسربة - طلبت مني الصحيفة الألمانية التعليق على التسريب كجزء من تحقيقات تجريها الصحيفة لأنني بحثت وكتبت عن التضليل والحرب السياسية لمدة تقارب 10 أعوام. واستفسرت عما إذا كان المصدر قد يسمح لي بالحصول على كامل الوثائق المسربة من "أس دي أي" التي يبلغ حجمها 2.4 غيغابايت، ووافق المصدر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

حتى الكشف الأخير عن هذه الوثائق التي تضم أكثر من ثلاثة آلاف ملف فردي، لم يكُن بوسع المراقبين في الغالب سوى التكهن بالأهداف والأساليب المحددة والحرفية والإجراءات البيروقراطية التي تحرك حملات التضليل الروسية المعاصرة. وأتاحت إفادة مكتب التحقيقات الفيدرالي وتسريب وسائل الإعلام الأوروبية شيئاً غير مسبوق: لمحة عن التخطيط لأحد أكثر جهود التضليل السيئة السمعة في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وكان العاملون في إنشاء محتوى التضليل الذين يستغلون الإنترنت لنشر الدعاية بين المستخدمين السذج مصدر قلق كبير منذ عام 2015 في الأقل، عندما كُشِف في الإعلام عن جهود مصنع متصيدين إلكترونيين troll factory في سانت بطرسبورغ يُعرف باسم "وكالة أبحاث الإنترنت" (تعرف بالروسية باسم Agentstvo internet-issledovaniy) لتأجيج الصراعات الكامنة، ولجوء الاستخبارات العسكرية الروسية "جي أر يو" GRU إلى عمليات تضليل إبداعية للتدخل في السباق الرئاسي الأميركي لعام 2016.

ولكن لم يسبق قط أن تسربت مثل هذه الكمية من الوثائق الداخلية من جهة كبرى تعمل في مجال التضليل. وتحوي المواد التي كُشف عنها أخيراً خطط المشاريع والمقترحات والموازنات وأهداف الإنتاج اليومي، ومؤشرات الأداء الرئيسة والحصص وتقارير التقدم ومقاييس الفاعلية ورسائل البريد الإلكتروني الخاصة من عملاء التضليل إلى المسؤولين الحكوميين ومحاضر الاجتماعات التي عقدها المشرفون على جهاز الأمن الخاص في الكرملين، ومئات التقارير التي ترصد وسائل الإعلام في البلدان المستهدفة وآلاف القصص المزيفة المؤرشفة وأفكاراً لمزيد من القصص المزيفة، وحتى مقطع فيديو ترويجي مبهر جرى إعداده للإدارة الرئاسية الروسية. والأهم من هذا كله، هو أن الملفات المسربة لا تحوي فقط الوثائق النهائية، بل أيضاً نوع النشاط في جميع المراحل. وعادة ما لا يمكن الحصول على الرؤية العملياتية الدقيقة التي تقدمها مثل هذه الوثائق إلا بعد عقود من انتهاء العمليات، عندما تظهر المقترحات والمذكرات التي رفعت السرية عنها في أرشيفات الاستخبارات أو عندما يكتب العاملون السابقون مذكراتهم.

لم تكشف المعلومات عن رؤى تكتيكية فحسب، بل أيضاً رؤى أعمق، رؤى لم يتوقعها مراقبون والتي لم يفهمها محللو الاستخبارات والصحافيون الاستقصائيون بصورة صحيحة. وتشير التحليلات الدقيقة للملفات المسربة إلى أنه على رغم استخدام روسيا لأساليب تكنولوجية جديدة لنشر المعلومات المضللة، فإن عدداً من الأساليب والأهداف الأساسية للبلاد لا تزال شبيهة بعهد الحرب الباردة. وتُظهِر هذه الملفات كيف أن جهود وكالة "أس دي أي" لخداع الجماهير الغربية ربما خدعت قيادة الشركة نفسها، ومعها الحكومة الروسية، في شأن فاعلية حملات "دوبلغانجر". وربما الأهم من ذلك، تكشف الوثائق عن أن أكبر دعم حصل عليه نشطاء "دوبلغانجر" كان من التغطية الغربية المتلهفة للمشروع. ويوضح هذا الكشف بدوره أن أولئك الذين يرغبون في مكافحة التضليل، سواء كان منشأه روسيا أو أي مكان آخر،  يحتاجون إلى البدء بالتفكير بصورة مختلفة تماماً حول كيفية مواجهة الحملات.

الصعود السريع

أولى أعمال التضليل من توقيع "أس دي أي" ظهرت عام 2022، على الأرجح بعد فترة وجيزة من انطلاق "دوبلغانجر". في أبريل (نيسان) من ذلك العام، كشفت "ميتا"، وهي الشركة الأم لـ"فيسبوك" و"إنستغرام"، في تقرير ربع سنوي عن أنها أزالت من منصاتها "شبكة تضم نحو 200 حساب يتم تشغيلها من روسيا". وبحلول أغسطس 2022، أعلن صحافيون استقصائيون ألمان عن اكتشافهم تزويراً لنحو 30 موقعاً إخبارياً، بما في ذلك كثير من أكبر الوسائل الإعلامية في البلاد، مثل "فرانكفورتر ألماينه" Frankfurter Allgemeine و"دير شبيغل" Der Spiegel و"بيلد" Bild، وأيضاً موقع "ديلي ميل" البريطاني و"20 دقيقة" 20 Minutes الفرنسي. كانت المواقع تحوي عناوين خادعة للمواقع مثل:
www-dailymail-co-uk.dailymail.top (بدلاً من العنوان الحقيقي: www.dailymail.co.uk).
وتُظهر الوثائق المسربة حديثاً أنه بين منتصف مايو (أيار) ومنتصف يوليو (تموز) 2022، نشرت وكالة "أس دي أي" 3161 تعليقاً على وسائل التواصل الاجتماعي تروج لنسخ مزيفة من "بيلد" و3277 رابطاً لمثيلاتها من "ديلي ميل".

ووفقاً لوكالة الضرائب الفيدرالية الروسية، تم تأسيس "أس دي أي" كشركة في ديسمبر (كانون الأول) 2017، ومقرها يبعد من الكرملين مسيرة سبع دقائق. وتُظهر الوثائق المسربة أنه بحلول عام 2024، كان لدى الوكالة طاقم عمل يزيد على 100 شخص، بمن في ذلك 18 إدارياً في المكتب المركزي وثمانية كتاب ومحررين وطاقم رصد إعلامي (مونيتور) مكون من 12 فرداً وفريق مراقبة وسائل التواصل الاجتماعي مكون من 20 فرداً وسبعة مترجمين وثلاثة فنانين للميمات والرسوم المتحركة وأربعة منتجين للفيديو وعدد من العاملين عن بُعد. وعلى موقعها على الإنترنت، تعدد "أس دي أي" نحو 12 زبوناً حكومياً بما في ذلك الهيئة التشريعية الروسية ووزارة الداخلية الروسية - ولكن ليس الإدارة الرئاسية الروسية التي من المرجح أن تكون الراعي الأكثر أهمية للشركة. لقد أشرف الكرملين على "أس دي أي"، وجرى إطلاع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصياً على عمل الشركة الناشئة مرة واحدة في الأقل.

بعد الكشف عن المبادرة وإطلاق تسمية "دوبلغانجر" عليها من قبل ألكسندر ألافيليب، وهو المدير التنفيذي لـ"إي يو ديزإنفو لاب" EU DisinfoLab، وهي منظمة بحثية تركز على أوروبا تدرس التضليل، سرعان ما تحولت إلى واحدة من أكثر جهود التضليل التي تمت تغطيتها على نطاق واسع في التاريخ. منذ عام 2022، بذلت صحف وباحثون والحكومات الفرنسية والألمانية والأميركية جهوداً كبيرة للكشف عن تفاصيل جديدة حول الحملات السرية. على سبيل المثال، تمكنت الاستخبارات البافارية من الوصول إلى بعض البيانات الداخلية لوكالة "أس دي أي" ووجدت أن حملات "دوبلغانجر" زادت بعد أكتوبر (تشرين الأول) 2023.

وفي الفترة ما بين نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 حتى أغسطس 2024 فقط، أنتجت "دوبلغانجر" أكثر من 700 موقع إلكتروني مزيف، مما يجعل المشروع أحد أكبر مصانع التضليل المعروفة في روسيا. وأطلعت "ميتا" بصورة دائمة وتحديث دائم على جهود "دوبلغانجر" التسلل إلى منصاتها لا يقل عن ثماني مرات. وفي مايو 2024، طردت شركة "أوبن أي آي" OpenAI "دوبلغانجر" من "تشات جي بي تي" ChatGPT من خلال تعطيل الحسابات التي تمكنت من ربطها بالشركة في موسكو. وهذا الصيف، كشف مشرعون في الكونغرس الأميركي عن قلقهم من أن العاملين في مجال التضليل الروس نجحوا في إدراج مواقفهم في قلب تصريحات أعضاء في الكونغرس.

تزوير وتزييف

يجب التعامل مع جميع الملفات المسربة بحذر. فكلما تم تسريب ملفات مسروقة أو مخترقة، فقد يكون عدد صغير في الأقل من هذه الوثائق مزيفاً، على رغم أن تسريبات روسية حديثة أخرى - مثل مشاركة رسائل البريد الإلكتروني الشخصية لرئيس حملة هيلاري كلينتون جون بوديستا مع "ويكيليكس" عام ، 2016، أثبتت صحتها تماماً في النهاية. لكن كل التسريبات ليست متساوية. وبعد التدقيق بعناية في الوثائق التي نشرت حديثاً، يتفق محققو مكافحة التجسس في مكتب التحقيقات الفيدرالي والصحافيون الأوروبيون الذين فحصوا الملفات وأنا أيضاً على أنها أصلية.

إن القراءة الدقيقة لهذه الوثائق المسربة، فضلاً عن إفادة مكتب التحقيقات الفيدرالي في سبتمبر، تكشف أولاً عن مدى أهمية ومكانة عمليات التزوير في استراتيجية التضليل الروسية. لقد كان التزوير والتزييف، تزوير الوثائق والرسائل واختلاق المصادر وخلق هويات زائفة واختراع المنظمات الوهمية وخداع الجماهير، طوال قرن من الزمان، جزءاً بارزاً من الحرب السياسية التي خاضها الاتحاد السوفياتي. وتكشف وثائق "دوبلغانجر" عن الدرجة التي لا يزال بها صانعو السياسة الروس يعتمدون على أدوات من العهد السوفياتي، وإن كانت مدعومة بتقنيات جديدة وبأسماء جديدة. وتضمنت الوثائق الخطة الأولية التي وضعتها وكالة "أس دي أي" لـ"دوبلغانجر"، ولم تتردد حتى في توصيف ذلك: "نحن في حاجة إلى قسم مستقل من المنتجات المزيفة - مصنع!".

كان رواد التضليل والبيروقراطيون المستبدون في روسيا، يعززون من وجهات نظر بعضهم بعضاً حول العالم القائمة على نظريات المؤامرة لمدة قرن في الأقل

وبطبيعة الحال، قد ترغب وكالة تسويق في ابتداع مصطلح جذاب لوصف فكرة قديمة، لذلك أطلقت شركة التزييف الناشئة على منتجها اسم "الواقع المعزز" augmented reality. ووصفت المقترحات اللاحقة التي قدمتها وكالة "أس دي أي" للممولين المحتملين "الأدوات المتعددة" و"الوسائل الإبداعية" التي قد تستخدمها الشركة لتضليل الجماهير المستهدفة وإثارة "ردود فعل عاطفية". وعلى رأس قائمة الأولويات كانت مقاطع الفيديو والوثائق المزيفة وفبركات المحادثات الهاتفية ولقطات الشاشة للمحادثات المصطنعة المنسقة بأسلوب منصات المراسلة الفورية الشائعة.

كما ستعمل الشركة على تضخيم الاقتباسات "المزيفة والحقيقية" من المؤثرين، فضلاً عن "المقابلات المزيفة والتسريبات الملفقة للرسائل الصوتية من الدردشات الخاصة". وأوضح أحد المقترحات كيف ستُعِدّ "أس دي أي" مثل هذه الأشياء المزيفة من خلال التقاط لقطات شاشة وتعديل المستندات والمراسلات الحقيقية. واقترح أحد المقترحات التي تركز على أوكرانيا أن يتم إصدار مثل هذه المنشورات المزورة أسبوعياً.

عوائد كاذبة

وتكشف الوثائق أيضاً عن أن "أس دي أي" لم تخدع الأطراف المستهدفة فحسب، بل وقعت فريسة خداعها أيضاً. وقام مؤرخو "الإجراءات النشطة" [هو مفهوم يعود للعهد السوفياتي يطلق على أعمال الحرب السياسية التي تشنها أجهزة الاستخبارات السوفياتية، ومن بعدها الروسية، بهدف التأثير في الأحداث العالمية] بفهرسة كيف استغل الاتحاد السوفياتي الاحتكاكات والصراعات والتناقضات القائمة في المجتمعات التي استهدفتها، وسعت "أس دي أي" إلى القيام بالشيء ذاته عبر "دوبلغانجر". وتوضح الوثائق التي كشف عنها حديثاً أن "أس دي أي" تبدأ جهود التأثير الخاصة بها من خلال مسح البلد المستهدف لتحديد نقاط الخلاف الأساسية داخل المجتمع المستهدف. لكن مثل هذه الطريقة تشمل أخطاراً لمشغلي التضليل لأن هدفهم هو تسريع الاتجاهات التي تتقدم بالفعل من دون تدخلهم، فلا توجد طريقة محددة لهم لمعرفة مقدار إسهام تدخلاتهم في دفع هذه الاتجاهات.

لذلك من السهل على تجار التضليل إقناع أنفسهم ومموليهم بأنهم أكثر فاعلية مما هم عليه في الواقع - وتُظهر الوثائق أن "أس دي أي" فعلت ذلك بالضبط. واحتفظت الشركة بسجلات تفصيلية وشاملة في محاولة إثبات تأثيرها، وتركت سجلات بكل تعليق على "فيسبوك" أو "إنستغرام" أو "تويتر" أو "تيليغرام" نشرته رداً على منشورات حقيقية على وسائل التواصل الاجتماعي. ونظمت مئات الآلاف منها في جداول بيانات ملأت آلاف الصفحات.

ويظهر ميل منهجي إلى المبالغة في إمكاناتها وتأثيرها الحقيقي في تقارير عملائها. على سبيل المثال، حددت وثيقة في ديسمبر 2022 مؤشرات أداء رئيسة طموحة لحملة تضليل "أس دي أي" في ألمانيا، بما في ذلك دفع نمو حزب "البديل من أجل ألمانيا" الشعبوي اليميني، وزرع شعور "الخوف من المستقبل" بين الجمهور الألماني، و"تقسيم" المجتمع الألماني. وفي ما يخص الولايات المتحدة كان هناك اقتراح من "دوبلغانجر" أكثر توسعاً. وكانت الأهداف المعلنة أكثر صراحة وهي "تأمين فوز مرشح جمهوري" في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، وزيادة عدد المواطنين الأميركيين ممن يعتقدون بأن الحرب في أوكرانيا يجب أن تنتهي في أقرب وقت ممكن بنسبة لا تقل عن 10 في المئة، وخفض نسبة تأييد الرئيس الأميركي جو بايدن بنسبة لا تقل عن 10 في المئة.

ولم توضح الشركة بالتفصيل كيف يمكن تحقيق مثل هذه التحولات الجسيمة في الرأي العام. ولكن بعد نحو 18 شهراً من إعداد "أس دي أي" لمقترحها الطموح في ألمانيا وتصعيد حملتها التضليلية هناك، وبعد الأداء الجيد للأحزاب اليمينية المتطرفة في انتخابات البرلمان الأوروبي في يونيو (حزيران) 2024، نسبت "أس دي أي" الفضل إلى نفسها في التحولات الانتخابية في تقرير داخلي. وزعمت أن جهودها حققت "نجاحات جادة" في زيادة "عدد الأشخاص الذين يصوتون لليمين والتقليديين" وخفضت الجاذبية السياسية لليسار. ولم تقدم "أس دي أي" أي دليل فعلي على أن حملاتها الخاصة دفعت إلى تحولات في المجتمعات المستهدفة.

كان الهدف الرئيس لـمؤسسات التضليل الروسية هو التأثير في البيروقراطيين في حكومة بلادها وليس في المواطنين في الدول المعادية

في الواقع، وفقاً للتحقيق الذي أجرته هيئة الاستخبارات البافارية، سجلت "دوبلغانجر" ما يزيد قليلاً على 800 ألف مشاهدة لمواقعها المزيفة البالغ عددها 700 عبر جميع حملاتها في جميع البلدان المستهدفة بين نوفمبر 2023 وأغسطس 2024. وشكل مستخدمو الإنترنت في فرنسا وألمانيا أكثر من 60 في المئة من هذه المشاهدات، وتلقت مواقع "أس دي أي" المزيفة التي تستهدف الأميركيين أقل من 180 ألف نقرة. ويُظهر تحليلي الخاص للوثائق المسربة أخيراً أنه على رغم أنها تضمنت ما لا يقل عن 24375 رابطاً لمقالات "بيلد" المزيفة و7111 من "ديلي ميل"، إلا أن الغالبية العظمى من هذه الروابط تلقت قليلاً من التفاعل أو لم تتلقَّ أي تفاعل. (لا يحوي التسريب بيانات قابلة للمقارنة لمواقع الإعلام الأميركية) وتعني التغطية الصحافية الكبرى التي حظيت بها "دوبلغانجر"، بخاصة في ألمانيا والولايات المتحدة، أن عدد الأشخاص الذين قرأوا التغطية الثانوية لحملات التزوير المكشوفة أكبر بكثير من عدد الأشخاص الذين شاهدوا التضليل الأساسي.

لربما لم يقتنع المسؤولون التنفيذيون والمحررون في "أس دي أي" بدعايتها الداخلية لأن جمهورهم المستهدف الرئيس كثيراً ما كان مموليهم وحكوماتهم. هكذا هو المنطق البيروقراطي لجهود التضليل الواسعة النطاق وطويلة الأمد: فهي تميل في النهاية إلى إقناع المنظمين بأن جوانب من أكاذيبهم صحيحة، بالتالي تصبح شكلاً من أشكال نظرية المؤامرة المؤسسية.

ولم يكُن الهدف الرئيس لـ"أس دي أي" التأثير في المواطنين في البلدان المعادية، بل إقناع البيروقراطيين الروس بأن الشركة فاعلة من أجل الحصول على عقد آخر أو تجديد الموازنة. ولكن ادعاءات "أس دي أي" لم تخضع لتقييم من قبل مسؤولين حكوميين رصينين أو لجان من مراجعين أقران يستندون إلى الأدلة. بل قرأها وفسّرها مسؤولون روس وضباط استخباراتيون لم يفهموا على الأرجح كيف يتشكل الرأي العام في المجتمعات الحرة. لقد كان رواد التضليل والبيروقراطيون المستبدون، في الأقل في روسيا، يعززون من وجهات نظر بعضهم بعضاً حول العالم القائمة على نظريات المؤامرة لمدة قرن في الأقل.

الانكشاف المزدوج

ولكن "أس دي أي" كانت لديها طريقة تجريبية واحدة لقياس تأثيرها: وهي حجم الدعاية التي نالتها. فخلال حملاتها التي أطلق عليها اسم "دوبلغانجر"، كانت "أس دي أي" تتعقب بعناية وتجمع وتترجم وتلخّص التحقيقات التي أجرتها الحكومات الأجنبية والوسائل الإعلامية وشركات وسائل التواصل الاجتماعي في عملها. وفي تقرير داخلي غير مؤرخ أعيد طبعه في إفادة مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي، تفاخرت "أس دي أي" بأن "الدول في ’الغرب الجماعي‘ يعتريها قلق بالغ إزاء فاعلية المشروع". وكدليل على ذلك، استشهدت بالتحقيقات التي أجرتها شركات التكنولوجيا الكبرى والدوائر الحكومية ومراكز الفكر. وفي جدول بيانات مسرب، تفاخرت بعدد المقالات الإخبارية التي كتبتها وسائل الإعلام الغربية عن "التأثير المدمر في الرأي العام" لمشروع "دوبلغانجر"، وضمت 163 قصة من هذا القبيل. حتى إن "أس دي أي" أنتجت ترجمات روسية لمقتطفات من هذه التحقيقات الحكومية والإعلامية؛ وكانت فخورة جداً بالتغطية التي حصلت عليها في "دير شبيغل" لدرجة أنها أحدثت شعار "شبيغل بوليتكس" Spiegel Politics باللغة الروسية لإضافته إلى التقرير غير المؤرخ الذي كشفت "أف بي آي" عنه. في الواقع، استمتعت "أس دي أي" كثيراً أن يجري الحديث عنها باعتبارها "دوبلغانجر" شريراً خارقاً لدرجة أنها تبنت اسم "دوبلغانجر"، باللغة الإنجليزية، في وثائقها الداخلية.

وأشار التقرير ذاته إلى أن وزارة الخارجية الألمانية ووزارة الداخلية والأمانة العامة الفرنسية للدفاع والأمن القومي ووكالة أمنية إسرائيلية لم يتم ذكر اسمها ووزارة الخارجية الأميركية كانت جميعها "منتظمة في جهود مواجهة سرديتنا منذ سبتمبر 2022". ويحمل هذا التاريخ معاني لأنه يُظهر أن "أس دي أي" كانت على الأرجح تروج لمموليها بأن الشركة أصبحت معروفة بالاسم فور إطلاقها مشروعها الرائد تقريباً.

ويبدأ مقطع فيديو تسويقي داخلي أنتج ببراعة بالتفاخر بأن الاستخبارات الفرنسية كانت أول من اكتشف المشروع. وفي تقرير داخلي منفصل صدر في أكتوبر 2023، أعلنت "أس دي أي" بفخر أن "عمل المشروع كان ملحوظاً في البلدان المستهدفة واعتبر تهديداً". ومضت الشركة في الإشارة إلى "نشر عدد من التحقيقات الصحافية في حملات التضليل الروسية" باعتبارها المقياس الرئيس لنجاح "دوبلغانجر"، بخاصة التحقيقات التي أجرتها "ميتا" وصحيفة "واشنطن بوست".

باختصار، لقد استمرت "أس دي أي" في إدارة الحملات وتلقي التمويل تحديداً لأن عملها تم الكشف عنه من قبل خصومها.

إن الكشف عن الوثائق الأخيرة، خصوصاً المعلومات حول كيفية قياس "أس دي أي" لتأثيرها، يحمل دروساً قوية حول كيفية مكافحة التضليل. يجب على الديمقراطيات مواجهة عمليات التأثير الأجنبي بقوة لأن التسريبات والتزوير يمكن أن تعمق الانقسامات وتضعف المجتمعات الحرة المفتوحة. وتكشف الوثائق عن أن الجهود التي تبذلها شركات وسائل التواصل الاجتماعي لتحديد وإزالة التضليل ناجحة. لقد أضعفت فرق المعلومات الداخلية في "ميتا" وعمليات الإزالة المستمرة نطاق المشروع الإجمالي. وبعد أن استمرت "ميتا" في إغلاق الحسابات المرتبطة بـ"دوبلغانجر" على "فيسبوك" و"إنستغرام"، يبدو أن "أس دي أي" قللت من جهودها لزرع التضليل على منصات "ميتا"، على رغم استمرار بعضها. وزعم اقتراح مشروع داخلي في "أس دي أي" الذي كشف عنه مكتب التحقيقات الفيدرالي أن منصة "إكس"، المعروفة سابقاً باسم "تويتر"، أصبحت "المنصة الجماهيرية الوحيدة التي يمكن استخدامها حالياً" في الولايات المتحدة.

في الغالب، كانت وسائل الإعلام حذرة أيضاً في تغطيتها للتضليل. وبالمقارنة مع "الإجراءات النشطة" الماهرة في حقبة الحرب الباردة التابعة لجهاز الاستخبارات السوفياتي "كي جي بي"، فإن العاملين المعاصرين في مجال التضليل في موسكو لا يستثمرون في العمل الجاد في خداع الصحافيين لتصوير وثائقهم المزورة على أنها حقيقية. بدلاً من ذلك، يقومون ببساطة باستنساخ المواقع الإلكترونية لوسائل الإعلام بالكامل، على نحو أخرق، ويدسّون مقالات مزيفة مكتوبة بصورة سيئة بشكل ملحوظ تحت أسماء صحافيين حقيقيين. وهذا يشير إلى أن شركات التضليل الروسية في القرن الـ21 تدرك أن أفضل ما يمكنها فعله الآن هو خداع بعض مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، لكنها لم تعُد قادرة على خداع الصحافيين الصارمين بنجاح لتضخيم دعايتها. يجب على المؤسسات الإعلامية أن تبقى يقظة، إن هذه اليقظة تحد من طموحات مروجي التضليل.

ولكن الوثائق التي كُشف عنها أخيراً تشير أيضاً إلى خلل في تغطية الديمقراطيات لحملات التضليل. فحتى التغطية الدقيقة للتضليل، إذا أصبحت مضطربة وصاخبة للغاية، يمكن أن تدفع نمو شركات التضليل من خلال تزويدها بأدلة مزعومة على تأثيرها. لقد أصبح فضح منتجات التضليل الرقمية أمراً يقوم به أي أحد. وتركز عشرات المنظمات غير الربحية والهادفة للربح الآن على البحث عن شبكة التأثير التالية لفضحها بأكبر قدر ممكن من الضجة، بغض النظر عن مدى ضآلة مشاريع التضليل. إن الإبلاغ عن البصمات الرقمية لحملة تضليل أمر قيّم للصحافيين والمؤثرين ومستخدمي الإنترنت بالطبع. لكن مثل هذا التعرض السطحي لم يعُد يردع الخصوم. في الواقع، يساعدهم في الحصول على مزيد من التمويل.

دعاية سيئة

إن ما تكشف عنه هذه الوثائق يثير سؤالاً بالغ الأهمية: متى يكون فضح موضوع ما لمصلحة الخصم ومتى العكس؟ فإن الوثائق التي تم الكشف عنها وتسربت والتي مكنت من إجراء هذا التحليل هي بالطبع صورة من صور الكشف، ولكن من نوع مختلف. يمكن أن نطلق عليها الكشف عن المنبع. لا تكشف الوثائق عن مخرجات حملات التضليل فحسب، بل تكشف أيضاً عن مدخلاتها، المقترحات والتقييمات الداخلية والحرفية والأساليب التكنولوجية وهوية الأشخاص الذين يديرون المشاريع والممولين والسياسيين وراء هؤلاء.

إن نشر المعلومات بناء على مستندات أصلية له تأثير إيجابي أقوى. لقد أصبحت الجهود الرامية إلى كشف المعلومات الأولية عن حملات التضليل، على مدى العقد الماضي، مكوناً أكثر تعقيداً من إجراءات مكافحة التجسس التي ينتهجها تحالف الاستخبارات المعروف باسم "العيون الخمس" الذي يضم وكالات الاستخبارات الأسترالية والكندية والنيوزيلندية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة. وقد أصدرت وزارة العدل الأميركية، خصوصاً، مجموعة من لوائح الاتهام الجنائية ضد مشغلين سريين أجانب، وغالباً ما تفرض وزارة الخزانة عقوبات إلى جانب ذلك. إن الثقة بشركات التكنولوجيا والصحافيين والمجتمع الاستقصائي الأوسع نطاقاً تشكل أمراً حاسماً في هذه الجهود.

وتظهر الوثائق التي تم الكشف عنها حديثاً أن الإبلاغ عن عمليات التأثير العادية ذات التأثير الضئيل أو المعدوم،  أو حتى المبالغة في هذا التأثير، يساعد ببساطة وكلاء التضليل في توليد مواد تسويقية أكثر إقناعاً. وبدلاً من ذلك، يتعين على الحكومات والشركات والمنظمات الاستقصائية والمنافذ الإعلامية التي ترغب في مكافحة التضليل أن تركز بصورة أكثر حدة على الجهود التي تترجم إلى عواقب ملموسة على الجناة: إزالة البنية التحتية والحسابات من منصات التواصل الاجتماعي ومنع عودتها إلى العمل، فضلاً عن فضح رواد التضليل شخصياً ومعاقبتهم وتوجيه الاتهامات إليهم. إذا لم يتم تسريب وثائق "أس دي أي" إلى الصحافة من قبل وكالات الاستخبارات الغربية، لكان من الواجب أن يحدث ذلك.

توماس ريد أستاذ الدراسات الاستراتيجية في كلية الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة "جونز هوبكنز" ومؤلف كتاب "الإجراءات النشطة: التاريخ السري للتضليل والحرب السياسية" Active Measures: The Secret History of Disinformation and Political Warfare.

مترجم عن "فورين أفيرز"، 30 سبتمبر 2024

المزيد من آراء