ملخص
القيادة الصينية ترى أن ما جرى في موسكو قبل ربع قرن إنما يعود إلى فقدان الحزب الشيوعي السوفياتي الأساس الأيديولوجي القوي والانضباط الشديد، ذلك الانضباط هو ما يحاول الرئيس تشي تطبيقه في ثاني أكبر اقتصاد في العالم
خلال مطلع أكتوبر (تشرين الأول) الجاري احتفلت الصين بالذكرى الـ75 لتأسيس الحزب الشيوعي الحاكم في البلاد، وجاء احتفال هذا العام وسط تباطؤ ثاني أكبر اقتصاد في العالم ومشكلات داخل كثير من قطاعاته وعدم قدرة السياسات المالية والاقتصادية الحكومية على إعادة معدلات النمو إلى ما كانت عليه أثناء نهاية العقد الماضي. فحتى قبل أزمة وباء كورونا ظل الاقتصاد الصيني لأعوام ينمو بمعدل سنوي 10 في المئة في المتوسط، بينما حالياً لا تزيد نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي على نصف تلك النسبة.
ولم يكن مستغرباً أن يخصص المكتب السياسي للحزب الشيوعي (أعلى سلطة حاكمة داخل البلاد) اجتماعه قبل الاحتفالات خلال نهاية سبتمبر (أيلول) الماضي بالكامل للاقتصاد، تزامناً مع إجراءات تحفيز اقتصادي غير مسبوقة منذ حزم التحفيز في أعقاب الأزمة المالية العالمية عام 2008، وإن لم ترق إلى مستوى التحفيز السابق.
كل تلك التطورات وما بدا من تغير في توجهات الرئيس الصيني تشي جينبينغ الذي لا يحبذ التحفيز النقدي والمالي جعلت بعض الغربيين يذهب في تحليلاته إلى أن القيادة الصينية تخشى من احتمالية "انهيار"، يشبه ما حدث للاتحاد السوفياتي السابق نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات من القرن الماضي.
احتمالات ومخاوف
ضمن تغطية واسعة للصين في عددها هذا الأسبوع نشرت مجلة "إيكونوميست" تحليلاً عن المخاوف من انهيار "التجربة الصينية" بطريقة مماثلة لما حدث مع الاتحاد السوفياتي، وأن مثل ذلك الاحتمال يجعل الرئيس تشي "لا ينام الليل" قلقاً من ذلك.
يبدأ التحليل بالتشابه التاريخي، إذ إنه عند انهيار الاتحاد السوفياتي السابق عام 1991 كان الحزب الشيوعي يحكم منذ 74 عاماً داخل موسكو، وعلى رغم الاختلاف بين الحزبين في موسكو وبكين منذ البداية تثير المقارنة قلقاً من أن مرور ثلاثة أرباع القرن على حكم الشيوعيين في الصين قد تكون مصدر المخاوف.
لكن الواقع أن تلك المقارنات والمخاوف خصوصاً في الدوائر الغربية لم تتوقف منذ النصف الثاني من حكم الرئيس جينبينغ الذي تولى السلطة عام 2012، فمن الواضح أن تشي يختلف خصوصاً في سياساته الاقتصادية مما جعل الصين ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد التحول الذي قاده دينغ جياو بينغ خلال ثمانينيات القرن الماضي.
إلى ذلك، يحاول الرئيس تشي "ضبط" التحول الاقتصادي الذي أدى إلى تضخم فقاعات مختلفة في قطاعات مثل العقار والقطاع المالي، مستخدماً في ذلك سلطة الحزب الحاكم لتعديل القوانين والقواعد، حتى على رغم أن تلك السياسة أدت إلى تباطؤ النمو بصورة واضحة.
ولا يتحمس الرئيس للدعم والتحفيز، إذ يراه مقدمة "للكسل" المجتمعي وتراجع الإنتاجية في الاقتصاد الصيني وليس بالضرورة دافعاً قوياً للنمو اعتماداً على زيادة الانفاق الاستهلاكي.
وعلى رغم قرار الرئيس تشي بالتخلي تماماً عن سياسة "صفر كوفيد" بعد وباء كورونا وفتح الاقتصاد بصورة كاملة على أمل الانتعاش القوي، لم يحدث ذلك النمو المتوقع. بل إن مشكلات بعض القطاعات بدأت تنفجر وكان رد السلطات مزيداً من الإجراءات الصارمة بدلاً من التحفيز وتقديم الدولة تسهيلات مالية، وتقدير القيادة أن ذلك لن يحل المشكلات بل سيعالج أعراضها موقتاً لتبقى اختلالاً هيكلياً في النظام.
أيديولوجيا وانضباط
لا شك أن القيادة الصينية تدرك تلك الاحتمالات والمخاوف، خصوصاً سياسياً وفي ظل الضغوط الأميركية والغربية التي تحاول وقف الصعود الصيني. ومع أن الرئيس تشي تمكن على مدى 12 عاماً في الحكم من إزاحة أي منافسين محتملين في صفوف الحزب العليا، وضمان ولاء أعضاء الحزب في كل البلاد والبالغ عددهم 100 مليون عضو، إلا أنه يدرك التحديات والأخطار وسبق وأشار خلال العامين الأخيرين عبر خطاباته غير المعلنة للجنة المركزية للحزب إلى ما حدث في الاتحاد السوفياتي.
لكن القيادة الصينية ترى أن ما جرى في موسكو قبل ربع قرن إنما يعود إلى فقدان الحزب الشيوعي السوفياتي الأساس الأيديولوجي القوي والانضباط الشديد، ذلك الانضباط هو ما يحاول الرئيس تشي تطبيقه في ثاني أكبر اقتصاد في العالم، بغض النظر عن كل ما يصدر عن المحللين والمعلقين وشركات الاستشارات والبنوك الاستثمارية في الغرب.
ومع ذلك، تخلى الرئيس الصيني عن كثير من قناعاته خلال الأسبوع الماضي، ليقر حزمة دعم وتحفيز للاقتصاد بصورة غير مسبوقة أثناء فترة رئاسته، وأدى ذلك إلى ارتفاع مؤشرات الأسهم الصينية بأكثر من 15 في المئة خلال الأسبوع.
ومع أنه يصعب تقدير الأثر النهائي لحزمة الدعم والتحفيز الاقتصادي الآن فإنها قد تجعل الصين تتفادى أزمة لا تبدو لكثير من المحللين والمراقبين، وهي المشكلة التي تواجهها موازنات ومالية الحكومات الإقليمية في الولايات والأقاليم، إذ تركز التغطيات في الإعلام الاقتصادي وأبحاث المستثمرين على القطاع العقاري والتكنولوجي والمالي، مع أن أزمة وضع الحكومات المحلية هي أخطر ما يواجه الحكومة في بكين.
خلال بداية الأسبوع الأخير من الشهر الماضي قرر بنك الشعب (البنك المركزي الصيني) خفض أسعار الفائدة وخفض متطلبات رأس المال الاحتياط للبنوك (بما يجعلها تقرض أكثر بسهولة) واتخذ إجراءات لخفض الكلفة الائتمانية للقروض العقارية الحالية، وهي إجراءات توفر على الأسر الصينية نحو 150 مليار يوان (21 مليار دولار) سنوياً.
بل إن محافظ البنك المركزي الصيني بان غونغ شينغ أعلن أن البنك يمكن أن يضاعف تلك الإجراءات التحفيزية مرة أو اثنتين في المستقبل إذا تطلب الأمر.
تنشيط السوق وتسهيل الائتمان
لكن ما أثار دهشة الأسواق والمحللين في خطط التحفيز الجديدة من بكين كان ما أعلنه البنك المركزي عن أدوات جديدة لتنشيط أسواق الأسهم وغيرها، إذ سيساعد البنك المركزي الشركات على إعادة شراء أسهمها من السوق، بإعادة تمويل "المركزي" قروض البنوك المستخدمة لهذا الغرض، وسيساعد "المركزي" شركات الأسهم والسندات والمستثمرين المؤسساتيين على ضبط كشوف حساباتهم بتسهيل الائتمان.
وبحسب الإجراءات الجديدة يمكن لهؤلاء المستثمرين اقتراض أصول آمنة وسهلة التسييل من البنك المركزي مثل السندات الحكومية بضمان أصولهم صعبة التسييل والأعلى مخاطرة، مثل الأسهم والأوراق المالية المشابهة. ويصل حجم التسهيلات التي يقدمها البنك المركزي في هذا السياق إلى 800 مليار يوان (114 مليار دولار).
وذكرت وكالة "رويترز" نهاية الشهر الماضي أن البنك المركزي الصيني يخطط لإصدار سندات دين بنحو تريليوني يوان (284 مليار دولار) تمثل نسبة تقارب 1.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المهم أن نصف هذا المبلغ، أي تريليون يوان (142 مليار دولار) ستخصص لتخفيف خطر توقف الحكومات المحلية عن سداد التزاماتها (إفلاس)، أما النصف الثاني من ذلك المبلغ فسيخصص لتشجيع الإنفاق من قبل الأسر والشركات.
قد لا تكون حزم التحفيز والدعم الحالية مثل تلك الباذخة التي قدمتها الحكومة الصينية وقت الأزمة المالية العالمية، فقد طرحت بكين وقتها دعماً وتحفيزاً وتسهيلات بقيمة 4 تريليونات دولار (568 مليار دولار)، وصلت في النهاية بعد أكثر من عامين إلى 9.5 تريليون يوان (1.4 تريليون دولار).
ولم تكن الصين وقتها تختلف كثيراً عما فعلته الاقتصادات المتقدمة في الغرب، من دعم وإنقاذ لاقتصادها بأموال حكومية، لكنها كانت أكثر "كرماً" للحفاظ على الانتعاش ومعدلات النمو الاقتصادي العالية التي تضررت من الأزمة المالية العالمية عام 2008.
أما الآن، فإن الدعم والتحفيز وإن كان كبيراً نسبياً لكنه أقل بكثير من ذلك التصرف السابق، وهو ما يتسق إلى حد ما مع توجهات الرئيس الصيني المتحفظة في شأن الدعم والتسهيلات الحكومية في سياق ضبط الاقتصاد.