ملخص
يتناول الكاتب المصري المقيم في كندا خالد ذهني في رواية "نبض جنين" الدافع الغذهني (صفحة الكاتب - فيسبوك)ريزي للأمومة ويقدم صوراً مغايرة للأم تكسر النمطية وتخرج عن المألوف.
يستهل الكاتب المصري المقيم في كندا خالد ذهني، روايته "نبض جنين" (دار ديوان، 2024) بالإشارة إلى أن أحداث الرواية "وقعت بالفعل، باستثناء حدث واحد"، وأن جميع الأسماء "مستعارة باستثناء اسم واحد". ويدفع عبر هذا الاستهلال، بجرعة من التشويق زامنت بداية رحلته السردية. وفي استهلال ثان اقتبسه من كتاب "النبي" لجبران، مهد للقادم من الأحداث. واستمر هذا التقليد يسبق بداية كل فصل، ليشي بمدى تأثره بالكاتب اللبناني الراحل، لا سيما أنه عاد واقتبس من كتابه "أرواح متمردة"، موظفاً اقتباساته في خدمة السرد.
صراعات وتابوهات
في سرد اتسم بإيقاع سريع، مزج الكاتب بين ضمير الغائب وضمير المتكلم، فمنح صوت الحكي لراو عليم، إلى جانب بعض الشخوص المحورية في النص. ومع تدفق الأحداث التي تدافعت أفقياً إلى الأمام، فجر قضايا شائكة، ووطئ عبر شخصيته المحورية "سارة" تابوهات دينية واجتماعية. فطبيبة الأسنان المسيحية التي تجاوز عمرها ثلاثة عقود من دون أن تتزوج، تضطر بعد تشخيص طبي باحتمالية إصابتها بسرطان الرحم، وتوصية بسرعة استئصاله، للسعي بمعاونة صديقتها المقربة "عائشة"، لإيجاد زوج من أجل الحصول على طفل، وإشباع غريزتها القوية للأمومة. وعبر هذا السعي تنزلق البطلة إلى سلسلة من الصراعات، سواء في عوالمها الداخلية، خصوصاً مع تكرار إخفاقها في العثور على زوج ملائم، وتشككها في صحة قرارها بتلقيح بويضاتها عبر متبرع كندي مجهول، "اضطرب قلبها. ماذا لو تقابلت مسارات طفلها لاحقاً بشخص جاء من نفس المتبرع المجهول. حاولت أن تطمئن نفسها، طفلها سيعيش في مصر وتنوي مصارحته، في الوقت المناسب، عما اضطرها للجوء لهذا الحل.
عاد قلبها للاضطراب. ماذا إذا قرر الهجرة مثل كثير من الشباب"، ص100. كذلك اندلع الصراع على المستوى الخارجي بين البطلة والوقت، القدر، القيم الثقافية والدينية، إذ تطلب تحقيق غايتها في إنجاب طفل، القيام بما يتعارض مع هذه القيم، كأن تتزوج من مسلم أو أن يلقح بويضاتها متبرع مجهول. كما أشعلت هذه الأسباب ذاتها الصراع بينها وبين عائلتها.
علاقات هشة
عبر هذه السلسلة من الصراعات كسر الكاتب الصورة النمطية للعائلة، وكشف عن تناقضات النفس الإنسانية وتعقيداتها، وكذا هشاشة العلاقات الأسرية، فالأخت الكبرى "فيفيان" لا تحمل سوى الغيرة والحقد تجاه أختها، مما دفعها لاستثمار أزمتها في تسميم حياتها، والوشاية بها بهدف تشويهها داخل محيطهما الاجتماعي. أما الأم فلم تهتم إلا بالعرف ونظرة المجتمع، إذ لم يسترع انتباهها حين علمت بطبيعة مرض ابنتها المحتمل، وقيام الطبيب بأخذ عينة من رحمها، سوى مصير غشاء البكارة! ولم تكن العلاقات المشوهة حكراً على عائلة "سارة" وحدها، وإنما كان لعائلة صديقتها "عائشة"، نصيب من التشوه ذاته، فالأم التي كانت تعمل مديرة مدرسة، ظلت طوال حياتها تعيش داخل فقاعة زائفة من المثالية، أسفرت عن هرب الأب خارج مؤسسة الأسرة، وفتور علاقتها بابنتها، التي لم تمنحها يوماً قدراً من الحنان أو الاحتواء.
هذه العلاقات غير السوية أضاءت الهوة والصراع بين جيل الآباء والأبناء، وكذا ميراث السلطة الأبوية الذي كشفه الكاتب عبر تقنية الفلاش باك، واسترجاع كل من الأب "فريد" والأم "راشيل"، بضمير المتكلم، لسنوات زواجهما الأولى، مما أحال إلى استمرار تحكم الآباء بخيارات أبنائهم جيلاً بعد جيل، مستخدمين المسوغات والمبررات ذاتها، لمصادرة حقهم في التجربة وارتكاب الأخطاء.
كذلك تطرق ذهني لمعضلة عدم القدرة على فك الارتباط، وانتفاء الطلاق عند المسيحيين الأرثوذكس. وطرق قضايا أخرى تتصل بالتشدد والنفاق الديني، فبينما رفضت أم سارة زواج ابنتها من مسلم يحبها وتحبه، لم تمانع زواجها من رجل مشكوك في ميوله الجنسية، ما دام مسيحياً، "أمها التي رفضت عبدالله، وترفض المتبرع المجهول، هي نفسها التي تحثها على قبول الارتباط الأبدي بشخص شهوته في غير فطرته، طالما أنه لم يعلن عن شذوذه للناس، هل الصواب هو معيار الأخلاق أم المعيار هو ما يتفق عليه الناس؟" ص 99.
الأنا والآخر
أتاح امتداد الفضاء المكاني للسرد، وتوزع الأحداث بين مصر وكندا، بروز صور من التقابل بين الأنا والآخر، التي وإن لم تحل دون القبول والتعايش، فإنها حالت دائماً بين التماهي والانصهار. وكان أهم صور التقابل، ما تمنحه المجتمعات الشرقية للدين من أولوية، مقابل إعطاء الغرب الأولوية للعلم. وبدا ثمة انحياز للآخر عبر ما ألصقه به الكاتب، من خلال مقارناته، من صفات المباشرة والصدق والعملية والوضوح، "تقول إن النساء في مصر لئيمات ومكرهن عظيم وقد توقع به إحداهن، قد يكون لديها بعض الحق، يشعر أحياناً بعدم الارتياح، نانسي مثلاً تطيل البقاء في حضنه حين يلتقيان. تبالغ في تلامسها معه. كم يشتاق للأصدقاء في فرنسا وسريرتهم السوية. الأمور أكثر وضوحاً هناك" ص 32. كذلك رصد ذهني عديداً من صور التقابل الأخرى، لا سيما بين سلوك أم "عائشة" الفظ وتعاطف صديقتها "سارة"، بين فرنسا التي باتت في عيون المهاجرين مثل عجوز شمطاء، وكندا التي يرونها عشيقة شابة. كما أضاء بعض المفارقات التي تجمع بين التماثل والتقابل في سلة واحدة، فبينما تماثلت "سارة" و"رزان" في حب رجلين ينتميان لدين آخر، تباينت استجابتهما لرفض الأسرة، فرضخت الأولى وتمردت الثانية. وعلى رغم التقابل بين القيم العلمية التي تبيح كل ما يساعد على الإنجاب، والقيم الدينية التي تمنع وتحرم بعض المعينات، يتماثل جموح العلم، مع التشدد الديني، في إحداث الضرر ذاته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حضر الحلم كعنصر رئيس في بنية السرد، واختاره الكاتب لبداية رحلته السردية، محيلاً عبره إلى قصة حب مبتورة، أرجأ الكشف عن تفاصيلها لمرحلة متقدمة، ليضمن عبر حيلته الاستباقية الدفع بالتشويق إلى النص. وكما لعب الحلم دوراً في زيادة التشويق، لعب أدواراً أخرى في التنبؤ والاستبصار، فكان حلم "عائشة" بعبورها من حجرة كبيرة إلى حجرة أصغر حتى انتهت إلى صندوق، تمهيداً لما ستعانيه أثناء سعيها لإيجاد حل لمشكلة صديقتها. وأحال تشارك الصديقتين الحلم ذاته، إلى قوة الرابط الروحي بينهما، وهو ما برر التضحية التي أقدمت "عائشة" عليها من أجل صديقتها. أما حلم سارة بنفسها تتحدث إلى بطلة مسرحية "إيرما"، فكان بمثابة تفريغ لمخاوفها، من أن تسلك سلوك بطلة "غارسيا لوركا"، التي ارتكبت أفظع الجرائم، نتيجة رغبتها المستعرة في الأمومة. ولم يبرز تأثر الكاتب بالأدب العالمي عبر هذا الحلم وحسب، وإنما برز مراراً عبر ما اقتبسه من كتاب كثر، مثل شكسبير، دوريس ليسنغ، جبران، داني لافريير، باتريك موديانو. وكما استفاد من تخصصه في علاج العقم وأطفال الأنابيب واستثمر خبرته الطبية والعلمية في بناء الأحداث، أضفى على السرد صبغة فلسفية، تجلت في استدعاء مقولات ورؤى كثير من الفلاسفة مثل هيغل، أرسطو نيتشه، "عارف يا بابا نيتشه قال: ترى المرأة في الرجل وسيلة والغاية تتمثل دوماً بطفل. صدقني عمري ما تخيلت يجي يوم ويكون دا حالي" ص 107.
وفي ظل ما احتواه النص من زخم معرفي وفلسفي وتناص مباشر كثيف مع الكتاب المقدس، تحرى الكاتب تعدد الخطاب اللغوي، بما يتسق مع مقتضى الحال. وتجلى ذلك عبر الحضور الكثيف للهجات العامية المصرية واللبنانية والتونسية التي سمحت بدورها بحضور مستوى من الطرافة، أسهم في خلخلة الطابع المأسوي للأحداث إلا أنه أسرف في استخدامه للعامية على حساب الفصحى، وإن حكرها على مساحات الحوار. لكنها في الوقت عينه كانت الأداة الأنجع، لما تتسم به من حميمية، في إضاءة مشكلات ذات طبيعة محلية، تناولها الكاتب في خلفية السرد، مثل نكسة عام 1967، والحروب العديدة التي عاشها لبنان، ومن بينها الحرب الأهلية، والاجتياح الإسرائيلي، وما خلفته تلك الحروب من هزة نفسية للبنانيين وتشظي وانكسار لم تفلح السنوات الطويلة في مداواته.